عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إيناس يونس ثابت - اليمن

السيد نقطة


عزمتُ شهادة الحياة، فخرجتُ إلى أبهى مكان، لأجمل حديقة في المدينة. كان المساء فأنيرت الأضواء، وأعداد الناس بدأت بالازدياد، والسماء تزينت بالألعاب النارية فغارت النجوم، فزادت من بريقها، وانتشر الأطفال بملابسهم الملونة في أرجاءها كقطع الفواكه المنثورة فوق حلوى تصنعها جدتي، فبدا المكان كأنه يتهيأ لاستقبال عروس.

ما أكثر زوار المساء وسامريه! معظمهم من الرقم اثنين: زوجين، صديقين، عاشقين وحمامتين في السماء، وأنا وحدي في تجرد كالزهر والشجر وكالقمر في السماء.

كانت الأصوات تدوي حولي بصخب، وغناء هادئ يصدر من هاتف شاب نحيل بالقرب مني يُمازج شغب الكلام فيُصدر في الفضاء أنغام الحياة.

كانت وجوه الناس تضحك وكأنها ما خُلقت إلا للضحك والابتسام، وكنتُ إذا فكرتُ في السعادة رأيتُ الورود تبتسم وتتمايل بدلال كأنثى أمام ريشة فنان، والزرع يلبس ثوبا من الندى، والنسيم يرحب بالنفوس الواسعة.

ورأيتُ الحياة الحقة هي الحياة هنا، والجمال الحقيقي هو الجمال هنا، والحزن والآلام كذبة ومسرحية هزلية تنتهي هنا، وخُيل إليّ أنني للتو خُلقت من صلب آدم وهبطت مع قطعة من الجنة. وإذ مر بي تذكار حزن، رأيت طلّ الندى دمعة على الزرع والنسيم مناديا: "حي إلى الحزن العتيق".

جلس بالقرب مني وسط العشب الأخضر رجل وامرأة متشابكا الأيدي، ينظران إلى الورود وكأنها خُلقت لأجلهما فقط، وكأن كل لون من الورود درجة من درجات الحب، فللورود براءة وسحر، تفتح في الصدور نوافذ وتُحيي في النفوس شبابها وتنافس النساء أنوثة. غبطتهما وغيرتُ مكاني.

وقفتُ بجانب شجرة صغيرة أبحث في الوجوه والعيون كظامئ في الصحراء يفتش عن قطرة ماء. خرج من خلف الشجرة التي أمامي أرنب من بلاد العجائب، أبيض ناعم كالقطن، أذناه طويلتان جدا، أنفه أحمر ويرتدي معطفا بلون أنفه، اخترعته مؤنسا لوحدتي. اقترب مني ضاحكا: "عمّن تبحثين؟"

"عن المدعو نقطة، نقطة أول نور في حياتي والنقطة الوحيدة في كلمة أحبك. أبحث عنه في الوجوه والعيون، في الزحام وحين أكون وحدي، يتساوى الناس عندي ولا ألمح للوجوه سرا فيضيع مني".

نظر نحوي هازا أذنيه، فهمستُ له:

"أبحث عن رفيق الأمل، عن يد اتكئ عليها ومعطف رؤوم، عن قلب مهزوم لأجلي، عن غابة في عيني اليمنى تثمر، وشراع في عيني اليسرى وسفينة تبحر ومرفأ سفينتي في عينيه أبصر، عن قصة في ذرات الريح أكتبها بخيال شاعر قديم تفوح بمسك عبلة وليلى؛ أبحث عمّن يقول أنتِ أنا وقلبكِ آخر أمنياتي وروحكِ ظلي وظلالي، عينيكِ واحتي وحرفكِ بارودي وصوتكِ مزماري ونبضة منكِ نعيم جنتي؛ أبحث عمن أخشى البوح له، وأخجل في حضوره قول أعذب وأصدق الكلمات، تضيع كلماتي حين أراه فأجمعها من هنا وهناك لأصنع جملة بلا معنى، أجزئها وأنطقها ولا أنجح. والرب لم يعتب على المشغوف حبا، أليس كذلك يا أرنب؟ لكن لحظة، لمَ أذناك طويلتان جدا؟"

تحسس الأرنب أذنيه بحرج مُلقيا اللوم على خيالي في صنعهما فقال: "فتاة حلوة مثلك وبقلب ساحر تبحث عن عود كبريت في كومة قش، على الحب أن يجد طريقه إليك لا أن تبحثي عنه".

عضضتُ شفتي غيظا منه ووضعتُ سبابتي على أنفه المحمر: "أتيتُ بكَ مؤنسا لا ساخرا، وإني لأراه أسود العينين ومجعد الشعر، يقول الشعر، وإن قاله غنى الليل وتمرد، وإن قال علما سكن الكون وتتلمذ".

أشاح وجهه عني، وأشحتُ وجهي عنه أيضا ثم أخرجتُ كيس حلوى صغيرا من جيبي، حبات الحلوى صغيرة جدا لها شكل الفواكه ومغطاة بالسكر، تناولتها بشراهة ولذة واحدة تلو الأخرى أحدث الأرنب بغيظ:

"أول حبة كان على السيد نقطة مناولتها فمي، والثانية إصبعي، والثالثة نقتسمها نصفين، والرابعة لأجل قلب برفقته كهذه الحلوى، والخامسة لطفلة تعشق السكر".

زادت الألعاب النارية وعلا صوتها، نظر الأرنب نحوها ومضى باتجاه تجمع الناس يهز أذنيه مستهزئا يُشاهد أنوار الألعاب النارية في السماء.

غضبتُ أكثر ومشيتُ أهمّ مغادرة الحديقة لاوية عنقي أراقب الأرنب وأحدثه بصوت مسموع:

"كما اختلقتكَ أيها الأرنب البغيض ذو الأذنين الطويلتين، سأختلق أرنبا آخر بأذنين أجمل، ورديتين مزركشتين، أرنبا عاطفيا ومستمعا جيدا ومثقفا أكثر منكَ بألف مرة".

اصطدمتُ فجأة برجل ضخم جدا مفتول العضلات، التفتَ الأرنب إليّ يحرك حاجبيه ساخرا وكأنما يقول ها هو رجلك المنتظر.
صرخت: "لا يا أرنب، سأبدو بجانبه نحلة ضئيلة".

نظرت إلى وجه الرجل. بدا مشفقا علي ظانا بي الجنون. فزع مني وفر هاربا؛ وبقيتُ وحدي.

D 26 أيلول (سبتمبر) 2015     A إيناس ثابت     C 10 تعليقات

5 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 112: الأدباء والمخابرات

الكرّاب عبر تاريخ المغرب

القياس في المختصر ليحيى الشاوي

موضوعات شعر العقاد

بيرم وانتهاء دولة الشعر

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  قضايا وشخصيات يهودية

2.  الأدب الجزائري القديم ج2

3.  قصتان: مهذب ومتسخ + لماذا لا يرتاح؟

4.  شتاء، بحر وأشياء أخرى

5.  الْعَنَاصِرُ الدِّرَامِيةُ وتَشَكُلاتِها الفَنِّيَة

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox