طه بونيني - الجزائر
غربال
كانوا يحقِرونه ولا يؤهّلونه لاحتلال أي مرتبة فضلا عن القدوم في طليعة الفائزين. كان "غُربال" جوادا عربيا أصيلا نحيلا أفحم، برأسه الصغير ورقبته الطويلة وعضلاته الضامرة البارزة وكأنّ الريح قد نَحَتها من العظم. هيئته المتواضعة لا تشجّع على الرهان عليه في سباق أو الاتكال عليه في حفلات "الفانتازيا" التي تقام في عدة مناطق وقد ظلّت من التقاليد الشعبية الجزائرية.
لا أعرفُ قِصّةَ اسمِه الغريب "غُربال" فقد كان يحمله حين اشتريتُه، لكنّه بلا شكّ مرادف لسنوات الخير والعطاء في حياتي. صادفتُه أوّل مرّة مُهرا، يجرّ محراثا في الحقل، يلقى العتاب والسوط في جَلَد وصبر. عَزَّ عليّ فاشتريته وضممتُه لبعض الخيول الفتية.
عجّ الإسطبل بصهيل الخيول ودبّت الحياة في ميدان الفروسية الذي كانت حواجزه وممرّاته وحظائره تنتظر قدوم تلك الكائنات القدسية على أحرّ من الجمر. كافحنا لأجل هذا المكان كما نكافح في هذه البلاد على كلّ شيء ذي قيمة. ميدان الفروسية مسعى آخر كنّا نطمح إليه ونذوي ونحن نصبو إليه. وبعد طبقات من الغضب والحزن والصبر ظفرنا بميدان للخيل والفرسان.
نعم توليفة الحياة هي كفاح كفاح وكفاح. نموت في حياتنا مرّات عديدة قبل أن نموت موتتنا النهائية. لكن وبما أنّنا نحصل في بعض الأحيان على مرادنا في آخر المطاف فنحن ننسى المعاناة والوقوف في الطوابير والمواعيد الملغاة الكثيرة، والملفّات والوثائق والشروط التعجيزية التي لا تنتهي. ننسى كلّ هذا وأكثر، ونحمدُ الله ونعيشُ أيّاما بعد ذلك في رضا وهناء وهكذا دواليك. حياتنا جزر من الهناء وسط محيط من المتاعب والشقاء. وكالجزر الراسخة وسط المحيطات تبقى لحظات الهناء كافية لتعطي لأعمارنا البائسة اسم "حياة".
جعلنا من ذلك الميدان ناديا للفروسية وجنّة غنَّاء يتوافد إليها الزوّار وكأنّها طيور تؤوب إلى أعشاشها بعد يوم من السعي.
ذلك المكان يشكو منذ سنوات طويلة في صمت. فقد تربّت فوق أديمه الأشواك وسَدَّت ممرّاتِه الأوساخ. وتحوّل الإسطبل إلى مكان يأوي العفن والحشرات بدل الخيول. ونحن اليوم نودّ استرداد نكهةَ الماضي وإعادة الألوان للوحة غابت عنها الحركة والحياة.
أحاول إعادة تركيب الصورة القديمة كما كانت تقريبا. لا ينقصها إلّا ذلك الفارس الشابّ الذي كان يحرّك الجواد بهمسة أو لمسة وكأنّه دمية في يده. وكنتُ منذ سنوات ذلك الفارسَ ومرشّح النادي الأول للمشاركة في المسابقات.
وينقصني "غُربال". آه من "غُربال". بعد المحراث الذي جرّه مهرا و"الفانتازيا"التي لعبها يافعا، أفنى عمره الباقي معي.
لم تكن له مواصفات الحصان المرشّح للفوز كحالي تماما. لستُ من الطبقة البورجوازية وأمثالي من أبناء الأسر المتواضعة البسيطة الذين يتصبّبون عرقا لينالوا لقمة عيشهم، لا يصلُحُون، حسب البعض، لهذه الرياضة النبيلة. فأنا يومَ كنتُ فارسا أجوب ميادين الخيل بفخر، كان يعرفني النّاس بائسا. بلدنا هو الوحيد حيث الفارس الحقيقي الذي تؤهّله مواهبه الطبيعية لأن يتطوّر في سلّم النجاح، يظَلُّ ظلّا باهتا إلى أن يتلاشى.
ورغم ذلك، ولأنّ الفوز ينبعُ من رحم الحاجة، فقد تبلور ذلك البؤس الذي تفاقم طويلا داخلي في بوتقة الطموح والثورة والأمل ثمّ التقى هذا الناتج مع "غُربال". كنّا لا نروي ظمأ الأعين خارج المضمار وكأنّنا نُذكِّر النّاس بقصّة دون كيشوت وحصانه المسكين، أمّا داخل الميدان فنعيد الاعتبار لأنفسنا وذوينا.
كان "غُربال" يثِبُ برشاقة ويتجاوز الحواجز كلَّها وقُبيلَ الحاجز الأخير قُبالةَ الحكّام نزيد السرعة ثمّ نرتفع عاليا وعلى ارتفاع مِترين أُصدرُ صرخةَ الحريّة ويرتفعُ من حنجرة "غُربال"صهيل ينتشر في الأجواء. كان هذا توقيعنا الخاصّ. كنّا نشارك لأجل الانتصار فحسب، لا لأجل المال بل لأجل العزّة.
خُضت مع "غُربال" مسابقات عديدة في ميادين الفروسية، وحِزتُ على ألقاب كثيرة ولفتتُ أنظار الفاعلين في مجال الفروسية في بلادنا. لم يرفُض يوما ملازمتي، ولقاء وفائي له واعتباره جوادي الوحيد، كان يحقّقُ أعجوبة كُلَّما ولج مضمار المسابقات.
أنا اليوم كهل أمّا رفيقي "غُربال" فمات منذ سنوات طويلة بعدما أتمّ عشرين سنة عنوانها الكفاح. بدأها عبدا في حقل وأكملها وهو يستريح استراحة المحارب عقب منافسة ناجحة حصدتُ فيها لقبي الأخير.
وعندما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة كنت أحتفل بلقبي الذي فازه لأجلي. لطالما تخيّلته وهو فوق فراشه العشبي في الإسطبل، وقد مُشطت جدائل شعره البنيّة ونُظّف جلده اللامع بعناية، وعلى صفحة وجهه ترتسمُ ابتسامة. يبتسم لأنّه حقّق حلم الجواد العربي الأصيل. كتبتُ على جدار جناحه الخاص: "يعدو سريعا كالزمن، ويقفز عاليا كالبُراق".
فارق الحياة وضاع معه سرّ فوزي. كان هو سرّي وكنتُ أنا سرّه. كُــنّا مزيجا ثوريا ضدّ تهميش الضعفاء. خلّصني من بؤس الشوارع وحرّرته من ظلم المحاريث.
بعد تلك المنافسة، وبعد فراق "غُربال"، انهالت عليّ عروض مغرية من خارج الوطن. كنت لا أزال في حداد، وثورتي كانت قد اندفنت مع "غُربال".
لم أستطع تلبية نداء النجاح، كُثر فعلوا أمّا أنا فبقيت. لا أدري لماذا وقد كانت الفرص السانحة تدقّ على أبوابي بقوّة. ربّما لأنّ لا أحد يفهمني غيره، من يتفهّم هزالي وقبحي غير هزاله وقبحه؟ أنا و"غُربال" كنّا خليطا لا يُفهم.
كنتُ فارسا حقيقيا، لكنّي تحوّلتُ إلى ما يشبه دون كيشوت بعد أن تخلّيتُ عن حلمي ورُحتُ أحكي أمجادي وأجترّ تاريخي وأتحسّر على الأطلال كلّ يوم وفي كلّ مكان. وهكذا يُصبح الآلاف من الموهوبين، يخمدُ التحدّي في أعماقهم ويأفُلُ البريق في أعينهم جَرَّاء الاستسلام.
سنوات طويلة خَلَت وما بَرحتُ الوطن. أعاني كما يعاني الجميع في صمت. أعيش كالطحالب في سكون المحيطات، أمتص أشعة الشمس وأمشي في تؤدة وأحيانا أجري لكن بدون هدف.
وبذلتُ آخر جرعات ثورتي لقاء الحصول على النادي. من يدري، قد تدبّ الحياة فيه مرّة أخرى.
هذه هي الحياة، يذهب جوادي المطهّم "غُربال" ويأتي بعده جواد غيره، يذهب شبابي ويخلفه شباب غيري، والوطن سيبقى للأبد.
◄ طه بونيني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
3 مشاركة منتدى
غربال, يوسف -الجزائر | 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 - 18:58 1
سلام على طه.
أنت لسان حال هذا الفارس الذي فقد حصانه "غربال" وفقد معه قليلا من الأمل. فهو يعيش كالطحالب ....يمشي في تِؤدة ويجري أحيانا لكن بدون هدف.
أرجوأن يكون من تقمص شخصية صاحب "غربال" وهو صاحب هذه القصة،لا يخفي أسى وحسرة ومرارة في هذه الحياة،فالدور يبدو جيدا.أما العواطف الجياشة فهي تملؤ النص القصصي في كل مراحله ،وأن الجانب القوي في القصة هي البراعةفي نقل الاحداث كما جرت ل،لا شية فيها،محفوفة ببعض خيالات cervantes .
شكرا لك على هذا المجهود المبذول،وشكرا لك أيضا على جرنا جراإلى عالم الخيول وهذا يذكرني بالبيت االجميل لامرئ القيس:
وأشقر خنديد يجر عنانة إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
1. غربال, 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015, 06:35, ::::: طه بونيني/الجزائر
السلام عليكم،
شكرا على التعليق. لستُ أقاسم الفارس في القصة إلّا حبَّ الفروسية. أمّا الأسى فقد أتى بعد عهد من المجد، لكنّه ولمّا ولّت أيامه وحل عهد جديد وسَامَه فيه السَّخف والهوان، حنّ إلى ماضيه وجواده وما هو إلّا مثال للكثيرين... وأتمنّى ألّا أنبري في صفّهم، وما هذه القصّة إلّا ثورة على الاستسلام.
غربال, عبد الرحمان أدرار | 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 - 14:04 2
شكرا الأستاذ طه على القصة و ما أعجبني فيها الأسلوب القصصي الرائع الذي يشدّ إليه القارىء، و القيمة الأدبية النبيلة التي تحملها بين عباراتها ذكرتني بالمقولة الشّعبية عندنا "العود اللّي تحقرو يعميك" و رسّخت لديا ما قاله جمال الدين الأفغاني رحمه الله "إنّّ الأزمة تلد الهمّة و لا يتّسع الأمر إلّاإذا ضاق" فغربال بدأ من الحقول و لكنّه ختمها بطلا فااللّهم أحسن ختامنا ....آمين
أخي طه شكرا و مزيد من التّألّق...
غربال, إيناس ثابت اليمن | 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 - 11:58 3
قرأت مرة عبارة حكيمة تقول: قد يحوم خيالك حول الفشل والإحباط والضعف ، وقد يصور لك الجمال والطموح والنجاح والمثابرة ، أنت الذي تختار طريق خيالك .
وبطل النص محدود الأمل تدرج حتى اليأس. أحسنت وأجدت أستاذ طه في كتابة القصة القيمة بسلاسة وجاذبية.
لك كل التوفيق والنجاح.
1. غربال, 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015, 19:47, ::::: طه بونيني/الجزائر
شكرا أساتذتي الكرام. إنّ "غربال" كان عونا كبيرا للفارس ليظهر نَهَمَه للانتصار والوجود. كان فرصة، نفحة جاءت ثمّ عادت إلى بارئها. ساقه القدر دون حول منه ولا قوّة. الجواد العربي معروف بعدم ملاءمته للقفز عاليا، ومع ذلك استطاع "غربال" تحقيق الصعب إذا لم أقل المستحيل.