عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أوس حسن - العراق

روكس والعالم الآخر


أوس حسنكمن تسكنه بحار هائجة من النور، كان يرى الحياة واقفة على ساق واحدة، الليل والخمر والخريف، وأنين الشعوب المقهورة، كانوا زاده اليومي منذ زمن بعيد، لكن في الليلة الأخيرة التي قضاها واقفا على أنفه تراءت له الأشباح والظلال، وكائنات صغيرة من الدم والملح.

لم ينم في سريره هذه الليلة، لأن السرير كأي مادة أخرى تآمر عليه هو الآخر، ونبتت له إبرا طويلة وسكاكين جانبية حادة، والجدران التي قضى معها أياما جميلة، وذكريات ثورية حافلة بالكفاح والشعر، بدأت تضيق عليه رويدا رويدا، بعد أن نبتت لها قرون مدببة طويلة ومتفرعة، تشبه تماما شياطين مالدورو.

هل حقا يمكن لهذه الجدران طيبة القلب وصاحبة الماضي المشرف بالنضال والوفاء، أن تتحول إلى أفعوان كبير يحاصره من كل الجهات، ويحاول أن يلتهمه في أي لحظة؟

وهذا السقف الهرم الذي بدأ بالدوران بطريقة الدوامة يحاول أن يطبق عليه بحركته المتئدة اللولبية، وعينيه المجوفتين الفارغتين.

لكن في تلك اللحظة تماما، التي تخلى فيها الزمن عن لغته، وفي هذا الفراغ الذي لا ينتمي لأي بعد وجودي، كان بإمكانه أن يشعر بالخطر المحدق به، وأن يفكر بطريقة نحاسية ممزوجة باللازورد والنار، ففي طيلة حياته التي قضاها في البحث والتفسير في الآداب والعلوم الأرضية، وطيلة عمله كمحلل نفسي في دائرة الأمن الجنائي، لام نفسه في تلك اللحظة تحديدا لأنه لم يقرأ كتابا واحدا عن سرعة التراب وطاقته الحركية، ولا عن علم الأركيولوجيا وطلاسمه الغامضة المسحورة.

كانت الغرفة مليئة بالهواء الذي اصطبغ باللون الأحمر، والدخان الأبيض الذي كانت تنفثه الجدران. كان النصف الأول من الغرفة تحت تأثير 100 درجة مئوية، والنصف الثاني، 100 تحت الصفر.

أحس بعظامه تذوب وتتلاشى، وشعر بتحجر رأسه وظهره، لكن في تلك الأثناء، وبينما كان الجزء الملتهب من أرضية الغرفة ينصهر ويذوب ويذوي إلى دهاليز معتمة في جوف الأرض، والجزء البارد من الغرفة كان قد تحجر تماما وفقدت ذراته حركة الحياة نهائيا، شاهد صرصارا هرما خط الشيب شعره ومجساته الاستشعارية، وجحظت عيناه المستطيلتان إلى الخارج.

ولأنه كان واقفا هذه الفترة الطويلة على أنفه، كان بإمكانه أن يرى الكائنات الصغيرة الأرضية أكبر من حجمها وأن يتكلم معها أحيانا. الصرصار روكس، هذا هو اسمه، متقاعد منذ فترة طويلة من وظيفته، ويقضي أيامه بين الحانات والمكتبات والمراحيض.

أرجوك انقذني. ستبتلعني هذه الوحوش. لا أريد أن أموت. أرجوك تحرك لا تقف متسمرا هكذا. (قالها الرجل بعد أن أصبح جسده مطاطيا، يستطيل تارة ويقصر تارة أخرى، الشيء الوحيد الذي بقى صلبا فيه هو رأسه وظهره وأنفه الذي يقف عليه، وهناك أجزاء من جسده بدأت تسيل بشكل سائل مخاطي أبيض، وبقيت عيناه ماثلتين في اتجاه واحد دون حركة، فلو تحركت عيناه يسارا أو يمينا، سيرى والده الذي توفي قبل عشرة أعوام جالسا في حديقة المنزل، يطالع صحف الصباح، ويتكلم معه بصوت مديره في العمل، أو بصوت صديقه الذي استشهد في حرب التحرير. كان من الممكن أن تمتزج الأصوات والمشاهد، وتمر أمامه أي ذكرى مهرولة وساخرة من وضعه الجديد والمثير للشفقة).

روكس يحرك مجساته بغضب: كانت مخاوفي المتكررة من أن أجد شخصا هنا تحاصرني يوما بعد يوم، وها أنا ذا أجد شخصا يلقى هذا العقاب غير العادل بعد خمسين عاما. (غير العادل؛ يمتزج الصوتان معا).

الرجل: وبعد أن هدأت حركة الغرفة نسبيا؛ نتيجة لإضاءة تسللت من إحدى النوافذ: أرجوك فأنت لا تقدر حالتي، أنا واقف على أنفي منذ البارحة، كما أنني لا أستطيع أن اقرأ قصيدة من قصائدي القديمة لهذه الوحوش كي تتوقف,

الصرصار: وهذا ما حدث مع روفائيل.

الرجل (بعد أن هدأ كل شيء وخيم السكون على الغرفة): ومن هو روفائيل؟ هل هو ذلك القديس العبراني؟

الصرصار: كلا، إنه الرجل الذي تحول إلى صخرة بازلت كبيرة، صخرة بازلت تشع ضوءا أزرق كل ليلة، هناك في وادي الموت في الصحراء العربية الكبرى.

الرجل وهو يرتعش كورقة يابسة تلاعبها الريح: كيف؟

الصرصار: روفائيل كان من المهووسين في التنقيب عن الكنوز، كان يعتقد أن رسالة ستصله من أحد أجداده الأسطوريين الذين اختفوا، وفي نفس الوقت كان أديبا غريبا تمتزج فيه أرواح الملائكة مع الشياطين، يخرج كل ليلة حافيا، ومدججا بالأوراق والأقلام، ليكتب قصائده في مقبرة القرية.

وذات ليلة عندما كان نائما أحس بنقرة اصبع خفيفة تطرق رأسه، وعندما فتح عينيه في سكون الظلام الكثيف، وجدا امرأة عجوزا قد تآكل لحم وجهها وبرزت عظام جمجمتها، كانت أصابعها طويلة جدا في الظلام، ويسيل من فمها سائل أصفر، ابتسمت له بصمت مخيف ممزوج بفحيح عميق، ثم رمت في وجهه ورقة واختفت.

هذه الغرفة كانت غرفة روفائيل، وأنا كنت صديقا وفيا له، وديدابانا لمكتبته ونصوصه التي كان يكتبها.

لن أطيل عليك أيها الغريب، فمنذ تلك الليلة الغامضة أصاب روفائيل مس حقيقي من الجنون، وكان في كل ليلة يخرج من بيته حاملا فأسه ينبش القبور، أو يحفر بجانبها، وإن لم يجد شيئا كان يأكل التراب ويمضغ عظام الموتى، حتى عرف أهل القرية بقصته، واصدر كاهن القرية قرارا بقتل روفائيل، وذلك عندما جمع أهل القرية قرب التلة النائية، وقال لهم:

"إن إبليس الأكبر قد تلبس جسد روفائيل، ويجب قتله كي تشفى القرية من اللعنة التي أصابتها".

بعد ذلك اليوم بدأ أهل القرية بملاحقة روفائيل وتعقبه بالفؤوس والسكاكين وجميع أنواع الأسلحة، وقد قاموا بحرق كتبه وأشيائه، ولا أخفيك أيضا عندما هاجموا بيته وغرفته هذه تحديدا، قتل الكثير من رفاقنا الصراصير.

آخر مرة رأيت فيها روفائيل جاءني متنكرا وودعني بحرارة وقبلني، وقد بكيت حينها كثيرا، قال لي: أنا ذاهب هناك إلى وادي الموت. سأستخرج الكنز وأجلبه إلى القرية، وأوزعه على الفقراء والعبيد، وسأقتل هذا الكاهن اللعين، لكن بعد فترة قيل إن روفائيل اختفى في وادي الموت، ولم يعثر أحد على أثر له.

قالوا إن القبائل العربية في الصحراء اختطفته، ونصبته ملكا على جميع القبائل التي تراها الآن متوحدة وقوية في دولة الشرق الحالية، فكما تقول الأسطورة في تراثهم إن ذلك الشخص يحمل ملامح وصفات المنتظر الذي سيخلصهم من ظلم العالم الذي تآمر عليهم، وسيملأ هذه الدنيا عدلا أبديا.

لكن أحد الرعاة جاءني ذات ليلة شتائية ماطرة بالخبر اليقين. هذا الراعي كان مثل روفائيل يعرف لغتنا وتقاليدنا وأرضنا، قال لي: إن روفائيل سقط من أعلى الجبل بعد صراع تناهش جسده بين الشيطان شمهروس والملاك ميكائيل، ولم يعثروا على جثته، لكن صخرة البازلت الكبيرة التي تشع ضوءا أزرق في الليل مع بعض الأصوات الموسيقية، صخرة البازلت التي يزورها الآن آلاف السياح سنويا، هي ذلك المكان الذي سقطت فيه جثة روفائيل واختفت إلى الأبد.

JPEG - 27.9 كيليبايت
لوحة: كابوس

الرجل: يعني هذا الخطر والموت المحدقان بي الآن في هذه الغرفة، هما لعنة ذلك الزمن الغابر، لكنني كما تعلم فأنا هنا منذ عشرين عاما، وتربطني ذكريات جميلة في هذا المكان النائي، الذي أزوره كل صيف، هاربا من صخب المدينة وضجيجها الفارغ.

لكنني منذ سنة تقريبا وأنا هنا لم أزر المدينة واعتكفت في هذه الغرفة، لإتمام روايتي الأخيرة، التي نشرت فصولا منها في الصحافة، ولقراءة بعض الكتب في علم النفس وعلم الجريمة.

وهذه الأحداث لم تحصل معي قط، إلا في اليومين الماضيين، كما أنني اعتدت، أو بالأحرى وجدت لذة سحرية في الوقوف على أنفي الذي يحميني من الخطر.

سردك للأحداث بطريقة مشوقة، وما تتمتع به من معرفة هائلة وتكثيف لغوي جذاب، يوحي بأنك مثقف. قل لي أيها الصرصار: من أين حصلت على هذه الثروة المعرفية؟

روكس: في عالمنا تستطيع أن تجد الطبقة المثقفة والسياسية وطبقة البروليتاريا الحمراء، لكن الأسماء والمفاهيم معكوسة في قناعاتنا وعالمنا الخفي.

الرجل (يحاول تثبيت نفسه وهو ما يزال واقفا على أنفه): كيف ذلك ؟ لم افهم، أرجوك اشرح لي.

روكس: مثلا في عالم البشر غابريل ماركيز هو روائي وكاتب مشهور، ورائعته مئة عام من العزلة هزت العالم. أنا الوحيد الذي أعرف هذا بسبب اختلاطي وتماسي مع عالمكم، لكن في عالمنا هو بطل العالم بلا منازع في لعبة الشطرنج، وأستاذ في مادة الرياضيات، وقد تغلب على بول سارتر في دست رائع جدا، وفي عالمكم الكسندر إليخين هو بطل العالم في الشطرنج في بداية تاريخ القرن العشرين للتقويم البشري، لكن في عالمنا هو روائي وشاعر مشهور، مات منتحرا.

يستطرد روكس قائلا:

هل تدري أن الصراصير أول المخلوقات التي وجدت على الأرض، قبل الديناصورات والمخلوقات العملاقة وقد تعرضت الأرض لهزات كونية عنيفة، وارتطامات من كواكب أخرى في العصور الجليدية، وعصور البراكين، وفي كل كارثة تصيب الأرض، كانت تنقرض وتفنى مجموعة كبيرة من هذه الكائنات، إلا الصراصير، فقدت ظلت محافظة على جنسها من الانقراض والفناء، من خلال التمسك بأسباب وجودها الأصيل والجوهري، حتى لو أصابت الأرض هزة كونية أخرى، أو كارثة نووية، سيفنى كل الجنس البشري والحيواني والنباتي، إلا الصراصير ستبقى حية، ولا تنس أن الصراصير عددها هائل وضخم، ويفوق كل كائن حي يدب على وجه هذه الأرض.

الرجل: طيب لو افترضنا أن الأرض فنيت تماما، وأصبحت ذرات متلاشية في الكون. ما هو مصيركم؟

روكس: لا تقلق أيها الطيب، فهناك كواكب أخرى ستفتح لنا أبوابها، وتستقبلنا برحابة غير معهودة؛ كما لا تنسى أننا لسنا بحاجة إلى الأوكسجين الدائم، أو إلى الجاذبية، نستطيع أن نتكيف ونتكاثر في أي بقعة من هذا الكون.

يبتسم روكس ساخرا بعد أن يقف على قدميه: نحن فقط من نمتلك مفاتيح الأزل وأسرار الخلود.

الرجل: هل تدري أن عالمنا هو عالم مليء بالصراعات والجشع والغرور والدماء، منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض لم تنتصر أي قوة، ولم تتسيد أي حقيقة عرش العالم، هكذا تناسل الوهم فينا ليصبح سيد الشرور والخطايا، دون أن ندرك ولو بشيء ضئيل ذواتنا ويقظتنا الداخلية الكبرى التي ستقودنا إلى جوهر كينونتنا وحقيقتنا الخالدة.

الحروب والصراعات في عالمنا حولت كل نبيل إلى حيوان مفترس، كنا ننتهي دائما حيث تبدأ البدايات، نحصل على الخير، ونبدده في كل مرة، كان من الممكن أن نساهم ومنذ أزمنة سحيقة في فناء الحضارة الإنسانية إلى الأبد، لكن الصدفة خدمتنا كثيرا.

كما أن مخرج المسرحية الهرم، كان يمدد الزمن في كل مشهد أو يطلب منا أن نكرره، وهو جالس على كرسيه البرجوازي مستمتعا بالعرض على حساب قلوبنا التي تتقافز على خشبة المسرح، حتى أنا وعندما شرعت محتويات الغرفة بمهاجمتي لتفترسني، تذكرت تاريخ البشرية، وتذكرت جريمتي الواسعة التي تسترت عليها، خوفا من الحكومة.

روكس: ما هي؟ تكلم، لا تخف فنحن اصبحنا أصدقاء.

الرجل: منذ فترة من الزمن وأثناء عملي في الصحافة، كنت غارقا في تأملاتي ذات يوم في إحدى الحدائق الهادئة، أكتب ما يعتريني من هذه التأملات والأحاسيس الغامضة، في جو تسود فيه السكينة التامة، وإذا بي أسمع جلبة وضجة في الشارع المقابل للحديقة.

وعندما هرعت إلى موقع الحدث وجدت مجموعة من الشباب والأطفال والشيوخ والنساء، كلهم اجتمعوا وانهالوا ضربا على رجل مسكين، لم يرتكب أي جرم أو خطيئة، سوى أن له ذيلا، ووجها ممسوخا يشبه الكلب، وأسنانا حادة بارزة مخيفة، وأظافر طويلة جدا.

كان جسده مليئا بالشعر الأسود، أحدب الظهر، وأطرافه طويلة، هل تدري كان من الممكن أن يهجم عليهم، ويأكلهم وهم أحياء، لكنه كان يئن ويبكي مثل الأطفال، سمعته يتلفظ بأسماء غريبة، ولغة غير مفهومة، وعندما حاول الهروب، قام أحدهم بإطلاق النار على رأسه، فسقط على الأرض فورا، وبدأ جسده ينتفض ويرتعش، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهمدت حركته نهائيا.

ولم يكتف أحدٌ بهذا، بل قاموا باقتلاع عينيه، وقطع أطرافه، وقاموا بركله وسحله في شوارع المدينة، عندها جاءت سيارة خاصة للحكومة، وهنأت كل من قام بهذا العمل البطولي، ووعدتهم بمكافأة مادية، وتسترت الحكومة على هذا العمل أمام الرأي العالمي، وكأنه لم يحصل شيء، ولم توجد هذه الظاهرة الغريبة أصلا.

لكن بعد فترة لم أستطع النوم، وأصابني أرق شديد نتيجة لظهور وحش كاسر كان يستمني في رئتي وفي أعصابي، وعندما طاردته هرب، واختبأ في زجاجة فارغة كانت موضوعة سابقا لاصطياد كائنات خرافية تتسلل هاربة من القلب بين فترة وأخرى، لم أشأ أن أهاجمه كي لا يعترض طريقي، ويقول لي: إن هذه المسيرة الطويلة المتشظية بين الرحيل والاغتراب؛ ما هي إلا حلم تتباطأ فيه الصور الصامتة، أو إغفاءة قصيرة في بطن ذرة تتوسع يوما بعد يوم.

حتما سأنتهي لكنني لن أعرف كيف انتهيت، أو هل فعلا انتهيت؟ وأنا أقفز كجرادة مذعورة في حضن العدم، عندها فقط أدركت أن الإنسان هو أكبر مجرم في هذا الوجود، وهو من سيجعل هذا العالم ينتحر مجبرا، بسكين، هذه السكين هي الفكرة أو العقل.

إن الخوف المطلق من العدم المطلق جعل الإنسان يتساءل عن وجود كائنات أخرى أكثر تطورا منه، وعن عالم آخر تسوده الفضيلة، وتجليات الكمال الإلهي، حتى إن وجدت مخلوقات أخرى غير البشر، أو حضارات أخرى أكثر تقدما، سواء كانت في الفضاء أو في جوف الأرض، فهي مسالمة وضعيفة، وتخاف من سطوة الإنسان وجبروته.

في هذه اللحظة يذرف الرجل دموعا ويبدأ بالنحيب والبكاء، ويكمل كلامه بأنفاس متقطعة ومرتجفة: الغد ولى بلا رجعة، ولا فائدة ترجى من التقدم إلى الوراء، خذني إليكم يا روكس.

روكس: هدئ من روعك، سترى الآن هذا العرض الجميل.

تخرج مجموعة من الصراصير من فتحة في الجدار، فرقة موسيقية وفرقة باليه راقصة، ومغن. تبدأ الفرقة بالعزف، يركز الرجل نظره على صرصار يعزف الكمان بألحان غريبة، وآخران يرقصان، وهنا يتحول روكس إلى مايسترو يمسك بيده قشة ويقود الفرقة.

تعزف الفرقة لحنا جميلا ساحرا، يبدأ المغني بالغناء بلغة تشبه الترددات والصفير، وفي تلك الأثناء يدخل الرئيس وطبقة السياسيين ليحضروا هذا الحفل المميز.

يتأمل الرجل وبعمق ممزوج بالحزن والحسرة هذه الصراصير، وما تملكه من إنسانية حقيقية أكثر من البشر: عشاق، شعراء، موسيقيون، فنانون، سياسيون، تمتلئ بهم هذه الحفلة الصاخبة، ويتماهون مع بعضهم بطريقة عجيبة متناغمة مع إيقاع الكون والوجود، فكل شيء لديهم مطلق، الخير هو الخير ولا وجود للشر، الحقيقة واحدة لا يمكنها أن تتشظى وتتصارع، العالم هو نفسه عندهم منذ التكوين، لا عقل ولا فكرة، سوى حقيقة واحدة هي الروح، هذه الروح التي تغذيهم بالطاقة والحركة كل يوم.

فجأة يختفي الضوء، وتعود حالة الخطر إلى الغرفة، تقترب الجدران بأنيابها، والسقف يحاول أن يطبق عليه بحركاته الدائرية اللوبية، يبدأ كل شيء بالذوبان، ينهض السرير على قدميه بإبره وسكاكينه، يصبح قريبا من الرجل الذي ما زال واقفا على أنفه. هنا تتدخل قوة طارئة من الصراصير الطيارة، بأمر من روكس والزعيم الآخر.

تجتمع الصراصير حول جسد الرجل، تحمله وتدخله إلى الثقب الكبير في الجدار، وتغوص عميقا في الردهات والدهاليز متجهة إلى جوف الأرض، كان جسد الرجل الذي أصبح رخويا ومطاطا بسبب ذوبان عظامه، وسيلان قسم كبير من جسده، قد ساعده في دخول هذا الثقب الصغير في الجدار، في الدهاليز الأخرى.

رحبت الصراصير بزائرها الجديد الذي شكرها على مساعدته، وفضل أن يقيم بينها إلى الأبد، لكن روكس نصحه إذا أراد أن يحصل على لجوء دائم في هذا العالم؛ عليه أن يذهب إلى المجمع العلمي الكبير الذي تديره مجموعة من العناكب الأرضية، وتربطهم مع روكس علاقة صداقة قديمة، وذكريات جميلة في العالم العلوي مع البشر، هناك سيتخذون الإجراءات اللازمة، وبعض المعاملات الضرورية، وقليلا من الاختبارات، لكي يصبح جزءا من هذا العالم، خصوصا أنه لم يعد يحتمل آلام ذوبان جسده وتمطي بعضه بين فترة وأخرى.

يصحب روكس الرجل، وبعد إجراءات روتينية من المعاملات وفحص نسبة الماء المتبقية فيه، تلبس العناكب الرجل كمامة، وتقيد أنفه وفمه بشباكها، تلتف الشباك، حول عنقه وراسه، تبدأ العناكب بسكب مادة لزجة على الرجل، لتعيده إلى عناصره الأولية، ومن ثم تدخل في كل فتحة من فتحات جسده، وتساعدها بعض الصراصير في حفر أخاديد عميقة في جسده.

بعد أن يبدأ الجسد بالاضمحلال والتآكل، تسحب العناكب والصراصير جسد الرجل، وتضعه في بركة طينية دوارة، لمدة يوم كامل، وبعد أن تجف البركة، تسحب الصراصير والعناكب جسد الرجل، وقد اصبح كتلة صغيرة بحجم حبة الكرز، لكنه دون حراك.

في هذه الأثناء يظهر مخلوق صغير له أرجل عديدة، وحراشف، وقرون استشعار غليظة، وعينان لامعتان، تخرج من بطنه أضواء وألوان مختلفة، ينفخ في هذه الكتلة الصغيرة، تتطاير ذرات التراب من قوة النفخ، تدب الحركة في هذه الكتلة الصغيرة، فيركض سريعا إلى روكس، يعانقه ويقبله، ويتلقى بعدها التبريكات من زملائه الصراصير.

يمضي سريعا مع رفاقه، ولم يبق شيء من ذكرى عالمه العلوي، سوى عينيين زرقاوين، كانتا لون عينيه في ذلك العالم القديم، يتطلع بهما إلى زملائه بمحبة وألفة ناسيا كل شيء، فكل شيء واضح ومؤكد هنا لا يخضع للشك أبدا، مسير وفق نظام أزلي، لا حقيقة، لا فكرة، ولا عقل، سوى روح تبعث الطاقة والحركة الدؤوبة والمستمرة في هذا العالم.

يمضي روكس مع صديقه الجديد، يبدو الكبر والوهن قد أصاب روكس من خلال مشيته البطيئة والمتعثرة، يمضيان بعيدا في طريق مجهول، إلى أن يتلاشى طيفهما وهما يبتعدان عن الأنظار رويدا رويدا.

* * *

=2=

أفقت في صباح اليوم التالي على صوت الرسائل، التي ظهرت واضحة على الشاشة الإلكترونية المعلقة على الحائط، أمسكت بجهاز تحكم السرير، ورفعته لأقرأ الرسائل التي أيقظتني بضوئها الأزرق الحاد.

كانت الرسالة الأولى من مجلة سوما العلمية، تبلغني وتهنئني بصدور بحثي الجديد في مادة علم النفس، اضطراب تبدد الشخصية (علاج في الميول والظواهر الأولية)، ورسالة أخرى من دائرة الأمن الجنائي تطلب مني المجيء فورا، بعد جريمة قتل زوج لزوجته القاصر وتقطيع جثتها ورميها في إحدى مجاري الصرف الصحي.

نهضت مسرعا، قمت بغسل وجهي، وتبديل ثيابي، أخرجت مفتاح مركبتي الطائرة من الدرج، وعندما فتحت النافذة رأيت المركبات الطائرة في الهواء، وهذا الازدحام المروري في الجو، كانت هذه المركبات تتخذ أشكالا غريبة ولها عينان جاحظتان مستطيلتان، تشع ألوانا مختلفة بين الفينة والأخرى.

أغلقت النافذة وهممت بالخروج كي لا أتأخر عن موعدي في الدائرة، ولعنت في قرارة نفسي هذا التطور الهائل الإلكتروني الذي وصلت إليه هذه الوحوش الآدمية، فعدد ساعت الليل قد تجاوز 18 ساعة؛ كما أن تمدد البحار والمحيطات، ابتلع العديد من المدن التاريخية والأثرية، وقتل الملايين من البشر.

مدن اقتصادية، وثقافية، وسياحية لم يعد لها وجود في زمننا هذا، لكن قبل أن أخرج لفت نظري كتاب قديم يعلوه التراب، كان عنوانه: الطبيعة وتأثيرها في الفنون الإنسانية.

ذرفت دمعة سقطت على الكتاب، نظرت إلى المدى البعيد، إلى سحابة مهاجرة، يتبعها سرب من الطيور، سمعت نحيب الأرض وهي تنوء بحملها الثقيل، وتأسفت كثيرا على هذا العالم الحالم، الذي يسقط سقوط الأبطال في كل لحظة، وهو يسير يوما بعد يوم إلى حتفه الأخير.

* * *

الآن

مضت أكثر من نصف ساعة، وأنا أتأمل ذلك الثقب العميق في جدار الغرفة، ذلك الثقب الذي كانت تتسلل منه الحشرات والصراصير ليلا لتقتات على بقايا فتات الخبز والفضلات.

حاولت جاهدا أن أسد هذا الثقب بمسودات أوراق من قصائدي القديمة، لكني لم أفلح، سمعت صوتا غريبا ينادي باسمي، صوتا يشبه الصفير وأنين الكمان، أحسست بروح تسحب جسدي نحو هاوية الأحلام والأساطير، لكن في اللحظة ذاتها شعرت بخفة جسدي، وهو يطير ويحلق عاليا، رأيت عظامي وهي تخرج من عباءة الجسد؛ لتسقط وتتحول إلى صخور بازلتية في التلال، والمنحدرات، والوعول البرية.

كنت أتأرجح بين المتاهة والحقيقة، ولا أدري هل كنت زهرة أو شجرة أو قصيدة أو تمثالا حجريا؟ هل كنت حلما طائرا يجر حطام الأزمنة؟

انتهى المشهد بأقل من طرفة عين، بعد أن سمعت أمي تناديني، وتطرق على الباب طرقات خفيفة . اجتاحتني عاصفة من الصمت والذهول لأجد نفسي في وسط الغرفة متسمرا، كمن تسكنه بحار هائجة من الوهم والخوف والانتظار.

D 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015     A أوس حسن     C 0 تعليقات