شيماء غفار - الجزائر
بين فقاعات الصابون
فقاعات الصابون تملأ شاشة الحاسوب، كم مر من الوقت وأنا مشدوهة في بياض صفحة "الوورد" أفكر فيما يمكن لي أن أكتبه عن يومي الاعتيادي جدا.
الأيام تمضي سريعا، أسرع مما ينبغي. منذ أن أصبحت وحيدة وهي تنسحب من بين فراغ يدي كحبات البازلاء، الكثير من الأيام المتشابهة التي تمضي دون أن أحس بها أو حتى أن أريد الإحساس بها.
ترى كم سيمضي من الوقت حتى أستطيع أن أفعل الشيء الوحيد المختلف في أيامي؟ أن أكتب.
كنت تسألني مرارا عن سبب تعلقي بالكتابة، دون أن أجيبك. ربما لأنني لا أعرف الإجابة الحقيقية الشافية، لكنني اليوم أستطيع أن أقول لك إنني أكتب لأختلف، لأحس بالحياة، لأتنفس بكامل رئتي التي أصبحت معطوبة بعد أن تركتني لعلقم الهجران.
في كل صفحة من كتاباتي نبض منك غادرك هاربا إلى قلمي، يعطيني الحياة كما يعطي لكلماتي الانسجام فيما بينها، أريد أن أصنع قلبا ينبض، كيانا من ورق وكلمات والعديد من النقاط. عندما تعجزني الوحدة المريرة جدا يبرز أمامي شامخا طازجا كأنه وليد اللحظة، أتصفحه فيمضي بي بعيدا أليك.
حينما ينتاب الإنسان ذلك الشعور اللذيذ الغامض، يشعر وكأن طيرا محبوسا بين قضبان صدره يرفرف دونما توقف، لا يمكن أبدا لأي شيء أن يقتله. ربما لذلك أمضيت عمري في محاولة ترويضه التي لم تنجح أبدا.
وفي كل مرة أكتب فيها أتسائل: ترى كم يلزمني من الحروف حتى يختفي ذكرك عن عالمي؟ كم يلزمني من الذكريات بعد كي أختتم ربيع الحب الذي ذبلت كل أزهاره لكنه لا يزال قابعا في داخلي، يأبى أن يرحل ويتركني للشتاء؟
يقولون إننا نكتب الذين تخلوا عنا لنقتلهم، لنتنصل من ذكرياتنا معهم، لكنني لم أعد واثقة من الأمر، فكلما كتبتك أحسست أنك تنمو في داخلي وتصبح حقولا شاسعة لا أقوى على حصاد ما فيها أبدا، تحتمل أوجه النسيان الكثير من الأسباب التي لا أذكر منها واحدا، ولكنني لا أنسى أنني أريد النسيان وأنسى أنني سأنسى.
كيان يصرخ بداخلي: انتظري قليلا، هل تتذكرينه حقا كما ينبغي لك أن تفعلي؟
مرت عشرون سنة كاملة، ولا يزال يتكاثر كالجراد، ملامحه واضحة المعالم، جسده المفتول، عيناه العسليتان، الشامة على خده الأيسر، سنه المكسورة، وشعر لحيته النافر.
عشرون سنة يا غبية، لا بد أنه قد تغير كثيرا، حتى شوارعنا قد تغيرت، المقهى الذي كنا نتجمع فيه للتحضير لمظاهرات المعارضة قررت البلدية إزالته لتوسيع الطريق، شرفة الفندق التي كانت تطل على البحر أزالها المالك الجديد، شجرة التين التي كنا نقطف منها الثمار ثم نركض هاربين قد استبدلوها بنخيل اصطناعي. حتى رائحة المطر قد اغتالتها رائحة الوقود السامة، فكيف لا يتغير؟
هو قد تغير بالفعل، أصبح أكثر رجولة، أكثر جاذبية وغموضا أيضا، لكنه لم يصلح سنه، أعلم أنه لم يحاول أن يفعل، يؤمن هو بأن بعض النقص كمال، كما آمنت دوما بأنه يكمل نقصي.
= كيف علمت أن الزمن قد اغتاله كما اغتال وجهك؟
= أعلم لأنني حلمت به بالأمس، حلمت أنني أفتش عنه في صحراء أجهل اسمها بين حبات الرمل الكثيرة جدا، ثم عندما التفت وجدته بالقرب مني، نائما بين الصخور، وثعبان كبير رابض فوق قلبه تماما، حاولت أن أبعده لكنني لم أستطع، صرخت فيه بأعلى صوتي لعله يستيقظ لكنه لم يفعل.
بقيت لساعات طويلة وأنا أبكي، حتى ابتعد الثعبان فجأة ليستريح، اقتربت منه لكنه لم يجب، استلقيت بالقرب منه، حتى هجم الليل، لكنني لم أحرك ساكنا. بقيت أعد النجوم: ثلاثمئة وأربع وعشرون نجمة كل ما استطعت حصره قبل أن يجيئ الصبح على استحياء.
أفقت مفزوعة كعادتي في كل يوم، أفيق باكرا، أحضر لنفسي القهوة المثلجة التي أحبها، أضع القرص في جوف الحاسوب، وأنتظر قدوم فيروز، تصدح بصوتها عاليا، لكنها لم تزعج أحدا أبدا، تخبرني أن الأمل موجود دائما في مكان ما. أعلم أنني أضعته و أنني سأجد الطريق إليه عاجلا.
حتى وان مرت عشرون سنة، لم أفقد الأمل يوما، أتعلق بقشة وحيدة منه حتى أنجو، أستمع إليها مطولا، حتى يرن جرس الباب، أحدق قليلا في فنجان القهوة، بقي نصفها، أشربها على مهل قبل أن أمضي إلى باب شقتي، أفتح الباب وأنظر إلى الأسفل في حركة لا إرادية.
عندما كنت حديثة العهد بالفراق، انتظرت رسالة منك تلقيها أسفل بابي، كنت أفتح الباب كل يوم متوهمة أنني قد سمعت طرقات حانية تشبه طرقات يدك، أركض إلى الباب بأمل كبير وأعود بقلب محطم.
وبعد ثلاث سنوات من تلك العادة الغبية، قررت أن أسجل اشتراكا في جريدة يومية، لتصلني بدلا عن رسالتك التي لا تأتي، أعلم أنك مستغرب كثيرا، تعلم أنت بأنني أكره قراءة أخبار الجرائد منذ أن كانت تحمل عمودا خاصا بالتغني بالأمجاد العربية المفقودة، فكيف يكون حالي معها بعد أن أصبحت مليئة بالدراما من طلاق الفنانات، إلى العنف ضد الأزواج، إلى محاكمات الفساد ضد من هم خارج البلاد في انتظار أن يهرب الفاسدون الآخرون حتى يحاكموا أيضا.
أحمل الجريدة، و أضعها بتثاقل فوق منضدة المطبخ، أرتدي ملابسي مسرعة، أتأمل وجهي في المرآة، و تغتالني غصة، وجهي أصبح باهتا جدا، أتتبع التجاعيد أسفل عيني، لقد أصبحت أكثر وضوحا، حتى كريمات الترطيب لم تعد تجدي معها نفعا، تدمع عيني مرغمة.
كم يقسوا الزمن علينا حينما يعلّم بيده الباردة على وجوهنا أسطرا تذكرنا بأن الغائبين قد تأخروا كثيرا وربما لن يعودوا أبدا، لكنني أعلم أنك ستعود، أمسح دمعتي اليتيمة بيدي، أتنهد بقوة، أنظر لتلك الأربعينية التي لا تشبهني بقسوة وأخبرها بصوت قوي وصارم: سيعود حتما.
احمل حقيبتي بقوة و أخرج مسرعة، أتوقف قليلا أسفل الدرج لألتقط أنفاسي، ينظر لي العم "أبو عدي" بواب العمارة ضاحكا لأنني أنسى دوما استعمال المصعد، وأنزل الكثير من الدرجات، أبادله الضحك كما جرت العادة من ثلاثين سنة، وأكمل طريقي بثقة كبيرة، يكفيني أنني أستطيع في كل مرة أن أتغلب على نفسي التي لا تهدأ أبدا، وأجبرها أن تنتظرك بشغف الطفلة التي لا أريدها أن تكبر.
أصل بعد دقيقتين إلى محطة الحافلات، أجلس على الكرسي بجانب القط النائم ذي الثلاث أرجل، أنظر إليه بشفقة وكأنني أراه لأول مرة، ربما لأنه يخبرني عن عجزي أيضا، عن الجزء الذي فقدته من روحي دون أن يكون له أثر على جسدي، تجلس في الجهة المقابلة تماما ثلاث نساء مواليات ظهورهن للنافورة يضحكن على همومهن بصوت عال يظنه المارون ضحك بهجة.
تقول أحلام: "وماذا سنستفيد إن لم تكن في حياتنا بعض المشاكل؟ المشاكل هي ملح الحياة".
أقول في نفسي: "هذه أسخف حجة سمعتها من أربعين سنة مرت" ثم أفكر الآن في انتظار ما سأكتب. إنها محقة تماما، سأخبرها بذلك عندما ألتقيها غدا، أضحك معهن لأتذكر أنني لم أضحك منذ يومين كاملين.
تأتي الحافلة، و نصعدها تباعا، أجلس في المقعد المنفرد في الصف الأخير، حيث التقيتك أول مرة. منذ عشرين سنة والمقعد محجوز باسمي، أستمع دائما إلى همسات نساء الحي بخصوص الأمر، يقلن إنني فتاة مجنونة، أنتظر شيئا لن يحدث، أنتظر منك أن تفي بوعد لم تقطعه يوما، و أفكر: أيهما أسوء: وعد مفهوم يقينا غير منطوق ولم ينفذ، أم وعد منطوق أجهضه الزمن؟
ياه يا يوسف، الرسالة التي أوقعتها عمدا على حجري في الباص في ذات المقعد، كم وعد ضمني بين أسطرها؟ أعدها على التوالي: أن تبقى معي حتى تذبل آخر ياسمينة في العالم، أن تحملني على رموشك لأغادر إلى السعادة التي لا حزن بعدها، أن تحبني ما غرد الشحرور وما غنت فيروز.
الياسمين لم يذبل أبدا، و فجيعتي فيك حزن لا ينتهي، وفيروز كيمام بيتنا لا يغادرني، وصوت الشحرور أصبح اليوم نغمة للموبايلات الحديثة.
آه، كيف أمكنك أن تتخلى عني هكذا؟ أن تنحرني بغيابك وأنت تدرك أني سأعيش بدون نبض، تهرب دمعة من عيني، أمسحها و أنا ألتفت حتى لا يرى أحد ضعفي.
يصل الباص إلى مكان عملي، أغرق في وسط أوراق الحسابات الكثيرة، أتأفف وأعد نفسي كذبا بأنني سأتقاعد قريبا وأنتهي من هاته العلة التي تسمى عملا.
يرن هاتفي على غير العادة، أستغرق وقتا وأنا أبحث عنه وسط حقيبتي المليئة بالأوراق، أجيب بلهفة سرعان ما تختفي حينما أجد أن المتكلم هو أحلام، ومن غيرها يتصل بي؟ إلى متى سأنتظر من لا يتصل أبدا. تطلب مني كعادتها أن أرافقها إلى حفل توقيع لكاتب ما لا أعرفه ولم أقرأ له قبلا، منذ فترة طويلة جدا لم أقرأ كتابا، أصبت بوعكة كتابية بعد فراءتي للكتاب الجدد الذين يفرطون بالتغني بالحب الأفلاطوني الكامل الذي لا وجود له.
أرفض في خجل وتسجنني بكم هائل من كلمات الترجي التي تجبرني أن أنصاع لها، لا ضير أبدا من تغيير بسيط في خطة يوم واحد.
أخرج من العمل على الساعة الرابعة عصرا، أنتظر الباص وأحس بحر شديد يغتال جسدي من رأسي إلى أسفل قدمي، وكأن الشمس قررت أن تترك العالم كله وتوفر أشعتها لتصبها مباشرة فوق رأسي، أنظر إلى السيدة التي تبيع الذرة المشوية تحت المظلة التي ظنت أنها تقيها من الشمس ولكنها لا تفعل شيئا سوى ما تفعله المصفاة بالماء، يغتالها حر الفحم فتبتعد عن المصطبة حتى لا تحرق الحرارة ما تبقى من قوتها.
يتأخر الباص و أقرر أن أذهب مشيا، قرار شجاع في يوم حار. أتصل بأحلام التي لا ترد على هاتفها، وأنسى عنوان المكتبة الذي أخبرتني عنه على عجل، أقف قليلا لعلي أتذكره لكنني لا أستطيع، يبدو أنني قد أصبت بضربة شمس، عصفت بجزء من ذاكرتي، أقول في نفسي: ربما لو بقيت أكثر تحت لهيب الشمس اللعينة سأنساك.
ثم أتنبه لوصول رسالة لهاتفي. وأخيرا عنوان المكتبة، أتجه مباشرة إليها في خطوات متسارعة، أمني نفسي أنني سأصل بعد خطوات قليلة حتى لا أسقط أرضا من فرط التعب، أصل متأخرة كالعادة، يا الهي عدد كبير من الناس، حشد من الوجوه والنظارات الطبية.
لا أرى شيئا، أين أحلام؟ أجلس على كرسي في الخلف، وجه الكاتب بعيد جدا، لكنني أسمعه بوضوح وهو يلقي كلمته الافتتاحية:
"حين أنساق إلى خريفك، تسقط الخضرة من قلبي بتأن تنبت شجرة اليأس في غير موسمها، تتفرع على امتداد الروح، أحاول جاهدا قطعها لكنها تبقى في داخلي".
كلمات بديعة لامست قلبي، أرتدي نظارتي بسرعة كي أرى الوجه الذي يقولها، ثم تختفي المعالم من حولي، الشامة على الخد، السن المكسورة، العينان العسليتان، ونفس شعر اللحية النافر.
هل يمكن أن...؟ لا، لا يمكن، أقف وأخرج مسرعة، أحاول التقاط أنفاسي، أحس بالدوار، أريد أن أتشبث بأي شيء، أي كائن حي يمر بجانبي. أحس بأنني أختنق، جبل ما بحجم قارة يقف في حنجرتي يمنع وصول الهواء إلى رئتي، دقات قلبي تتسارع، لا يمكن للأمر أن يحدث.
أحس بيد تتسلل من خلفي، تربت على كتفي، أصيح بصوت مختنق: أريد ماء، تمتد اليد حاملة كأسا، أشرب وكانني أشرب لأول مرة في حياتي، تسحبني اليد وتجلسني على الكرسي، أبكي كثيرا، أسقط منهارة تحت الأرجل الكثيرة، أتقوقع على نفسي، أضمني إلى، أتشبث بروحي.
يمسك أحدهم بي، يسحبني إليه ويضمني. تتعالى الأصوات طالبة استدعاء الإسعاف، أرفع رأسي، تلتقي عينيّ بعينيك على الصورة المعلقة التي كتب تحتها: يوم لإحياء ذكرى شهيد القلم: يوسف نجد.
أغمض عيني و ترتفع فقاعات الصابون مرة أخرى وكأنها أول مرة من عشرين عاما.
1 مشاركة منتدى
بين فقاعات الصابون, زكي شيرخان-السويد | 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 - 22:41 1
شيماء غفار... تحيتي لك
نجحتِ في نقل القارئ بين انفعالات راوية الحكاية وتفاصيل حياتها اليومية، بسلاسة. رقة المفردات أضافت جمالية على النص.
التوفيق للمقبل من ابداعكِ.