محمد عبد الوارث - مصر
المسافات
طابور من الرجال والنساء والأطفال. الرجال والصبية معممون بالحطة الفلسطينية. والنسوة والفتيات الصغيرات، ارتدين أثواب – الجلاية وعليها الدامر الموشى صدرها بزخارف قرمزية اللون. الكل حمل آلة القِرَبْ يعزفون لحناً فولكولورياً، يتعاقب الصوت، شاديا كأنين أو نواح:
يا ليل خلي الأسير تيكمل نواحه
راح يفيق الفجر ويرفرف جناحه
يا ليـــــــــل خلـــــي ... (*)
من علٍ يشاهد الطابور العازف طويلا متعرجا، متقدما ببطء، يعبر في مهل السهول الخضراء والجبال وسفوحها، حتى يصل أول الطريق الطويل المترب ذي الوعورة والحصى وقطع الأحجار تفترش جنبيه. يتابعون لافتات الطريق الخشبية العتيقة التي تحمل أرقام مسافات الطريق تتوالى بطيئة كالتالي:
الكيلو 24
الكيلو 48
الكيلو 56
الكيلو 67
الكيلو 73 "الطابور يعزف لحن "بلادي بلادي".
الكيلو 80 عاد الطابور يعزف أنينه.
الكيلو 90 سائراً يعزف أنينه.
الكيلو 100 يعزف أنينه.
الكيلو 210 أنينه.
=====
(*) من أغاني فرقة العاشقين الفلسطينية.
افتراق
لم يكن غريبا أن موعد قيام الحافلة المتجهة إلى مدينة طرابلس بليبيا يسبق صلاة الجمعة بساعة، مما حرمني من أداء هذه الفريضة التي ظللت طوال عمري مداوما عليها مثلما وجدت أبي محافظا عليها منذ وعيت.
لا اعرف لماذا تذكرت أمي في ذلك الوقت بصوتها الناعم الرنان وهي تقول ذلك المثل "من فات داره أتقل مقداره."
حافلة النقل السريع كانت اسما على مسمى، تقطع بنا المسافات تلو المسافات، حتى أن لحظات من النوم الخاطف كانت تنتابني، ولكني في كل مرة استيقظ وحفيف الإطارات التي تنهب الأرض ما يزال لاصقا في الأذن، فأظل مستيقظا مفتوح العينين أرقب كل شيء.
عندما وصلت موقع العمل قرب مدينة سرت، على الطريق الساحلي، استقبلني الزملاء بحفاوة دافئة وافسحوا لي مكانا في غرفة وتركوني أنال قسطا من الراحة بعد عناء رحلة العشرين ساعة.
كان صوت الحافلة الهادر ما يزال عالقا بأذني حتي أنني استغرقت وقتا ليس بالقليل حتي غلبني النوم. ولكني لم أستطع اصطياده إلا في لحظات يسيرة، فأنا من الذين يخشون النوم العميق أثناء السفر.
أيقظني عند منتصف الليل فزعا صوت حمار ينهق نهيقا متواليا بأعلى صوت كأنما أحد ما يقسو عليه. وبعد طلقات نهيقه الذي عم فضاء الليل للحظات، صمت صمتا فجائيا. كأنما هذا الصوت قد اندلع من الغيب واختفى في الغيب. فأخذني النوم.
نهق ثانية فانتبهت. نهيقه ليس نهيق حمار كبير، لكنه يبدو صغيرا فنهيقه الموجع ما زال مستمرا للحظات. ثم صمت صمته الغريب.
تمثل الموقف في ذهني وصار في بؤرة الفكر، هذا الصريخ المؤلم المفاجئ لهذا الناهق الصغير كان صوته يأتي من مكان قريب كأنه مجاور لي. الغريب أن المحيطين بي بدو كأنهم لا يلاحظون هذا الصوت، أو ربما قد اعتادوا عليه.
في الصباح الباكر، فاجأني صوت النهيق، وازداد عجبي. وطافت بخيالي أفكار غريبة عن قصص تعذيب الحيوان وإيلامه بهذه الصورة القاسية. طاف ببالي لو أن أهل هذه البلاد يعذبون الحيوان هكذا. فما بال الإنسان.
عندما علمت بأن اليوم بالنسبة لي راحة من العمل، آثرت تعويض ساعات اليقظة الإجبارية التي أمضيتها في ليلة البارحة. إلا أن النوم عاندني وطفقت أفكار أخري تناوشني وتلح على تفكيري. صور أهلي وأولادي وهم واقفون على الرصيف يلوحون لي، البعض يلوح مبتسما كأنما أنا ذاهب في نزهة، والآخر يلوح وإشارات يده تعبر عن اللوعة والدموع تنهمر من عينيه. أما الأطفال فراحوا يمرحون في وداعهم لي ضاحكين.
كانت رحلة العمل هذه محاطة من بعض زملائي بأحاسيس الغيرة التي قد تصل إلى حد الحسد. أما البعض الأخر فكان متضامنا معي يؤازرني في هذه اللارحلة التي يعلم المقرب منهم لي أنني أقوم بها على غير رغبة مني، بل أذهب مجبرا.
لحظة تحرك الحافلة أحسست كأنها تنزعني من أرضي وأهلي ومنطقتي وشارعي وإشارات مروري، ومحلاتي، وناسي، وصخبي، وألواني وكل شيء، أحسست أنها تنزعني بإصرار من كل الخيوط التي تربطني بعالمي وتمضي بقوة، قوة غريبة. تدفعها إلى التقدم ثم التقدم ثم التقدم والاستمرار في التقدم.
كل الطرق صارت سهلة هينة تحت إطاراتها القوية، كل الطرق صارت مطوية ومخترقة من هذه التي تشق الطريق بقوة غير مألوفة وهي تحملني بعيدا. كأن جنا يدفع بها بعيدا بعيدا إلى أرض لم أطأها من قبل وأناس لم أعرفهم بعد.
كل هذا والساعات تمضي بقوة كأنما تنتزعني انتزاعا كأنني أمسك بيدي في كل شيء أراه حولي. وهي تشد يدي معها وتبتعد، فتطول اليد، فتشد أكثر، فتطول اليد أكثر، فأكثر فأكثر وتشدني وتشدني وتشدني.
بعد أن عمت الشمس الأركان، وبدت الدنيا من حولي مكانا صحراويا تتناثر عليه كثبان صغيرة مخضرة تملأ ذلك البراح المحيط بموقع العمل، لاحظت الخضرة والصفرة تملأ المكان الساكن بشكل لافت للنظر حتي أنني ربطت بين لون علم البلاد الأخضر وانتشار هذه الخضرة.
نهق الحمار مرة أخرى وأشتد نهيقه بقوة فملأ المكان وأستمر لبعض لحظات ثم همد ثانية.
عن لي أن أسأل عن سر هذا الصوت؟ شعرت بألم في ذراعي. يبدو أن شدا ما قد أثر فيها كثيرا.
عاد النهيق يتوالى في الأفق، فيذكرني بوليد يعاني معاناة يعجز عن الإفصاح عنها بغير هذه الوسيلة. كان الصوت يتماوج قاصيا ودانيا كأن دوامات الهواء تحمله من بعيد إلى هنا ثم تعود به إلى هناك.
قبل ساعة المغيب مر بعض الأولاد بحمار يحمل ثمار البطيخ ذي القشرة المخططة باللونين الأخضر والأصفر و يسمونه هناك دِلاَع. وعرضوا علينا الشراء. عنّ لي سؤالهم عن ذلك النهيق الذي تصادف وطفق يتواصل في الفضاء.
أجابوا بأن صغير الحمار هذا، أخذوا أمه لتعمل مع السعي –الإبل والماعز– في مكان غير قريب. ولهذا فالحمار منذ تركته أمه وهو على هذه الحالة.
اشتريت منهم واحدة من ثمار البطيخ. لعل حلاوتها تذهب عن نفسي بعضا من ذلك الألم الدفين الذي عاود ذراعي مع ارتفاع صوت النهيق في هذا الفضاء الفسيح.
◄ محمد عبد الوارث
▼ موضوعاتي