شيخة حليوي - فلسطين
هنا لا صوت للسّماء
سيّدي القاضي، بنصل قلبي أصنعُ السجّادة.
يدي ليست سوى رسول يتقنُ فنّ البشارة، أقصد طبعا فنّ حياكة اللوحات الملوّنة.
انثر على فراغها ذاكرة لحمي الهشّ وأوقّع ذيلها بوردة من دمي. تستطيع أن تراها إذا دقّقت النظر في أسفلها الأيمن. ألم تُعرض عليكَ وهي الدافع لجريمتي كما يسمّيها مجلسك الكريم؟ وردة حمراء لا تذبل أبدا، بل تزدادُ إشراقا مع الأيّام، هي عيني التي تراقب روح الألوان.
بنصل قلبي أحرّر الخيوط الملوّنة وأترك لها ممارسة الحبّ بحريّة. أعينها فقط على المرور من ثقب فراغ. رغم وثاقها البعيد تعرفُ طريقها جيّدا. تعانق بعضها بحبّ وانسجام، وشهوة صامتة هي من سمات الخيوط الملوّنة، لذلك لا أختارُها بعناية، فكلّها حين تلتقي تتنازل عن خلّطتها السّريّة وتتقاسمها مع لونٍ أو اثنين أو جماعة. تصيرُ واحدا كليّا لا ترى أجزاءه مهما أجهدت عينك وكنت عارفا بصيرا.
وأنت القاضي يا سيّدي، لا أقصد أن أنتقص من معرفتكَ أو علمك، ما أقوله إنّني أنا مَن غزل نسيج الحكاية ولا أعرف أين بدأت وأين انتهت وأيّ طرق سلكت خيوطها حتّى اكتملت.
أنا لا أقرأ الشعر يا سيّدي القاضي، ولا أفهم في شؤون القصص والحكايات ولكنّي أقولها بثقة إنّ سجّادتي هي قصيدة متكاملة وحكاية مدهشة. أمضيتُ خمسة أعوام أرسمُ تفاصيلها ليل نهار. لا أنامُ إلاّ سويعات، ولا آكل إلا لقيمات. لم أجالس النساء ولم أشاركهنّ ثرثرتهنّ. تخلّفتُ عن أفراح الحيّ وأحزانه. لم أعرف برحيل البعض إلا بعد أن انتهيتُ من سجّادتي. خجلتُ من تقديم واجب العزاء بعد سنوات. أن أنبش أحزانا من المُمكن أنّها ماتت مع أصحابها. إحدى الجارات قالت لي: كانت الحربُ ستقوم، ولو قامت لما عرفتِ بها وما كنتُ سأخبركِ بذلك حتّى!
"أليس من الجميل أن تموتي فوق سجّادة ملوّنة وتظلُّ هي تقصّ حكايتك؟"
تخيّل سيّدي القاضي حتّى في الحرب الّتي لم تقمْ كُنت سأموت فوق سجّادتي. لم أكن أرجو ميتة أفضل. يموت الآخرون فوق أرض جرداء أو تحت سماء باهتة ووحدي أموت فوق حكاية مدهشة. ولكنّ هذا الشاب الّذي لا يفهم من الحروب سوى كيف يحملُ بندقيّة وكيف يهربُ منها، هل يفهم معنى أن تموت فوق حلمك المكتمل؟
أنا أيضا لا أفهم في الحروب ولا في التخطيط لها. أنا يا سيّدي القاضي لا أعدّ تخطيطا على ورق أعلّقه أعلى النول وأتابعه وأنا أنسجُ، لا أعرفُ كيف يمكن أنْ تمشي في طريق مرسوم، أحبُّ أن أهيم على وجهي وهكذا أصلُ إلى مناطق مدهشة. ليس على الخيوط بل على الأرض أيضا. أثقُ بالطرق وبالخيوط.
كنتُ في طفولتي أرافق جدّتي التي كانت تكلّم الشجر والحجر وأمشي معها لساعات وفي كلّ مرّة نصلُ إلى مكان جديد. كانت تقول لي:
"لا تمشي، بل اتركي الطريق تمشي، اتبعيها بعينيك والتقطي ما استطعت من صور، لا تتوقّفي عندها أبدا. ستكتملُ كلّما مشيت أكثر. الصّور ستكتمل في نهاية الطريق".
أكثر من مرّة وقعت على وجهي وأنا أمشي وراءها، حتّى عرفتُ كيف تكتمل الصّور وصرتُ خبيرةً في التقاط الأجزاء. حتّى وهي تبدو ناقصة وغريبة في البداية، كانت تُصبح في النهاية لوحة واحدة متكاملة.
صرتُ أجلسُ بجانبها لساعات وهي تحيك سجّاداتها ثمّ تبيعها وهي تبكي. كلّما فارقت سجّادة عملتْ عليها لشهور طويلة أشعرُ انّها تشيخُ بأعوام. قالت لي مرّة:
"أشفقُ على ألواني من أقدام الطغاة".
تُشفق على ألوانها من أقدام الطّغاة. ماذا تفهم من ذلك سيّدي القاضي؟ أنا فهمتُ ذلك بعد سنوات طويلة، فهمت معنى أن تـترك بهجة الخَلق تحت أقدام الأغبياء والطغاة من البشر. ماذا يعني أن تمسح أوساخ حذائك بحكاية مدهشة؟ أيّ عقل يستوعب ذلك؟ ونادرا ما تتوقّف لتفهم تفاصيلها الملّونة، بل تتابع ما يتركه حذاؤك على خيوطها.
أعذرني سيّدي القاضي إن أطلتُ عليك ولكنّي المتّهم ومحامي الدّفاع أيضا. وحجّتي لا يعرفها أحد مثلي. قد تجدُ في ماضيّ ما يستحقّ تدوينه في تقريركم الكريم. كما أنّ هذا الشّاب المتعجرف يعتقدُ أنّه قد يُخيفني بمحاميه الواثق من نفسه.
كنتُ لسنوات أخافُ القانون وأهلهُ حتّى وأنا أمشي على الرصيف، وأنا أضعُ رأسي على وسادة من صوف أيضا. تعلّمت أن أحذفهم من صوري قبل أن تكتمل. ولم أعد أراهم أبدا. هؤلاء الذين يبيعون أخلاقهم مقابل محافظ منتفخة وربطة عنق حريريّة سوداء تحبسُ في أعناقهم صوت العدل والحقّ. لا أحبّهم ولا أخافهم. أصواتهم المحبوسة تصمّ أذني.
حين دقّ بابي ذات صباح والد هذا الشّاب وكان يرتدي بذلة سوداء أنيقة، لا أعرف حقّا سرّ تعلّقهم باللون الأسود، سيّاراتهم وبدلاتهم وربطات العنق كلّها سوداء، فتحتُ الباب وأنا أتساءل ماذا عساهُ يريد من امرأة مثلي بالكاد يعرفها الشّارع وبالكاد تحفظ انعطافاته؟
من حظّه أنّه كان برفقة هاني بائع الجبنة البلديّة التي تصنعها زوجته من حليب أغنام يسرح بها ابنه البكر. يعرف الكثير من الأغنياء وأصحاب المناصب، يأتون إليه في السّوق بسيّارات سوداء فارهة ويصرّون أن ينزلوا منها كي يتذوّقوا الجبنة بأنفسهم، ويختارون القطع أيضا وأحيانا يُساومونه على سعرها. لا أعرف، ربّما يجعلهم ذلك أقرب إلى الإنسان الأرضيّ فيهم ولو أنّ الجبنة لا تعلق فيها رائحة الراعي بل رائحة الأم النعجة. هي روائح تبخّرت في الطرق التي سلكوها. ليس فيها رعاة ولا نعاج.
بادرني هاني قائلا برهبة وهو ينظرُ إلى الرجل ويحني ظهره بعفويّة:
"هذا السيّد الوزير راضي المُهاجر يبحثُ عن سجّادة فاخرة لمكتبه. دللته عليكِ فأنت خير من صنع السّجاد ليس في الحيّ بل في المنطقة كلّها".
كان ينتظر منّي أن أشكره على اللقب الّذي أوجده لي ربّما ليدلّل على خياراته كما يدلّل على جبنته البيضاء. كلاهما لا يدَ له في صنعهما. جبنة زوجته وسجّادتي.
قبل أن أرحّب بهما قلتُ له: "أنا لا أصنع السّجاد الفاخر الّذي يمسح به الأثرياء أحذية بؤسهم، أنا أرسمُ لوحات من خيوط ملوّنة تتدلّى من يد السّماء ولا تلمس الأرض".
كاد هاني يُغمى عليه خجلا من الموقف، راح يتمتم ويعتذر عنّي، ولكنّ الرّجل ابتسم بلطفٍ وقال: "وهذا ما أبحث عنه فعلا، لوحة تحكي حكاية سماويّة. السّجاد الصّامت تزخر به الأسواق".
قلتُ له: "ولهذا يُداس بالأقدام. الصمت يُغري بالمذلّة. لهذا تراني سيّدي القاضي لا أنفكّ أحكي قصّتي".
لا أذكر المبلغ السخيّ الّذي تركه الوزير على طاولة مطبخي العرجاء، صدقا لا أتذكّر، ولكنّه كان كافيا لشراء خيوط حريريّة لثلاث حكايات واسعة وكبيرة تـندلق من فم السّماء. وشراء الجبنة البيضاء ومعطف شتويّ وبما تبقّى بنيت قبرا يليق بموت جدّتي. كان قبرها مكشوفا عاريا لسنوات طويلة، والآن صار بيتا. قبرها صار بيتا.
لن أطيل عليك يا سيّدي القاضي ولكنّي لن أخنق صوتي. حين أحيك سجادتي أصمت لأيّام وأحيانا لشهور، كيف أزاحم صوت السّماء وهي تضحك وتبكي وترتّل؟ هنا لا صوت للسّماء، هنا تُقتل السّماء، فهل أصمت؟
كان يصوّب بندقيته نحوها، صورة قاتمة بحجم نصف حائط علّقها فوق مكتب والده يقتل فيها السّماء والألوان عشرات المرّات في اليوم. وحكايتي المدهشة؟ تحت حذائه. يقفُ عليها كفزّاعة غبيّة ويمثّل دور آخر القياصرة وهو يتلقّى العزاء في والده.
جاءت إليّ زوجة هاني بائع الجبنة لاهثة تركض كمساءات الشّتاء لتخبرني وهي تتلعثم أنّ الوزير الّذي اشترى حكايتكِ أقصد سجّادتكِ قد مات بسكتة قلبيّة. ليس من عادتها زيارتي، هل صار زوجها يعتقد أنّ سجّادتي جعلتني في دائرة أقارب الوزير كما جبنته البيضاء؟ ربّما، ولكنّني رافقته إلى مركز المدينة لتقديم واجب العزاء في الوزير الراحل، وليس من عادتي أن أفعل ذلك.
وقد أسدى لي هذا الهاني المخبول خدمة وهو يأكل الآن أصابعه ندما وخجلا. نعم سيّدي القاضي، وكيف كنت سأعرف أنّ حكايتي سقطت من مكانها بين الأرض والسّماء فوق رأس الوزير المهاجر وصارت مربّعا يحفظُ دعسات حذاء شابٍ وقح؟ لقد وعدني أبوه وصدّقته وكان صادقا.
لم تكن حالة جنون تلك التي أصابتني كما يسجّل كاتب مجلسكَ، ولا أعرف بأيّ حقّ يصفني بذلك، كنتُ يا سيّدي القاضي في أصفى حالاتي ذهنيّا كما أكون وأنا أختارُ خيوطي الحريريّة وأعقد بينها ملحمة أبديّة.
سحبتها بقوّة من تحت قدميه فسقطَ على حافّة المكتب وسال الدم من رأسه.
كانت سجّادتي رغم الندوب الّتي خلّفتها النعال على أديمها ما زالت تحتفظ بأنفتها وكرامتها البدائيّة منذ اكتمال خلقها. لففتها وضممتها بين ذراعيّ. ما زالت حكايتها تتدلى من السّماء ولا تلامس أرضنا. ليست أقلّ من أنْ تبعثَ الحياة في الجدار الرخاميّ وراءك تحتَ "العدل أساس الملك" أو ربّما ،ولا أبالغ، فوقَه بقليل.
أليس من العدل يا سيّدي القاضي أن تسمح لي بأخذ نولي وخيوطي معي إلى السّجن فلا يقتلني الصّمت؟
3 مشاركة منتدى
هنا لا صوت للسّماء, زهرة يبرم / الجزائر | 13 حزيران (يونيو) 2016 - 22:36 1
راقت لي الفكرة التي دار حولها النص، أسجل إعجابي ها هنا بما قرأت.. تحياتي..
1. هنا لا صوت للسّماء, 24 حزيران (يونيو) 2016, 06:10, ::::: شيخة حسين حليوى
محبّتي وتقديري العزيزة زهرة
هنا لا صوت للسّماء, هدى أبوغنيمة عمان الأردن | 14 حزيران (يونيو) 2016 - 23:24 2
قصة تجلى فيها الإبداع ثرية بفكرتها وأسلوب صياغتها تحية تقدير للكاتبة شيخة حليوي .
1. هنا لا صوت للسّماء, 24 حزيران (يونيو) 2016, 06:09, ::::: شيخة حسين حليوى
كل الشكر والعرفان العزيزة هدى
هنا لا صوت للسّماء, الشلاوي عبدالوهاب | 23 حزيران (يونيو) 2016 - 22:16 3
قصة جميلة جدا وغنية بكل المعني اللغوية .تحية احترام وتقدير .
1. هنا لا صوت للسّماء, 24 حزيران (يونيو) 2016, 06:08, ::::: شيخة حسين حليوى
ممتنّة لرأيك. كل الشكر