نازك ضمرة - الولايات المتحدة
الغازي غازي
سحب الغطاء. نظر إليه. قربه من وجهه. لحظ عليه شيئا ما انحرف للجانب الآخر. ظل ضاغطا عليه بأصابعه. قال لنفسه: "أريد أن أحلم قبل أن أرى الحقيقة".
ابتعد عن المكان ويده قابضة عليه. احسّ بالأمان قليلا. تـناوله بيده الأخرى. رفع يده القابضة على الغطاء مرة ثانية أمام عينيه. تأمل الجملة المطبوعة: "ثلاثة أيام وتذكرة لبيروت".
"أصحيح ما أرى؟" العبارة واضحة جدا. قربه من عينيه ثانية؟ أعاد القراءة: "ثلاثة أيام وتذكرة لبيروت".
رحلة مجانية لبيروت؟ لا أصدق ما أرى. كيف طرق الحظ بابنا؟ أم هل أراد أن يغير فكرتي: من لا حظ له، لا يتعب ولا يشقى؟ لبيروت؟
رغم أنني زرتها مرات عدة قبل عام 1972، لكن ما المانع أن أزورها من جديد ما دام الحظ قال ذلك؟ (لا تقل شئنا، فان الحظ شاء).
في بيروت أراد أن يستمتع بزيارة مواقع كثيرة. صعد للمصايف القريبة والآمنة. أخذ صورا في الساحات وقرب أشجار الأرز، والعمارات السليمة والمشوهة بالقصب. زار جامعة بيروت العربية والجامعة الأميركية. تجول في شارع الحمراء، وتفسح مرات عدة على شواطئ بيروت ومقاهي الروشة، والتقط صورا تذكارية مع الصخرتين الناتئتين قرب شاطئ الروشة.
تمنى أن يلتقي أحدا ممن عرفهم سابقا من الشباب والفتيات وفنانات علب الليل، وشغالات الشقق، والشخصين (الهومو) اللذين سكنا بجوار شقته المستأجرة. مرّ بالقرب من أحد المقاهي التي اعتاد الجلوس فيها.
"سأقعد جلسة من جلسات أيام زمان. آه منك يا بيروت! بيروت تتغير وتـتبدل. سُمعتها كانت غير ما أرى. هل تنحدر المدن مثل الإنسان؟
اتجه صوب المقهى واتخذ له مقعدا في أحد الأركان، حيث كان يجلس مع شلته يوم كان في بيروت. جاءه النادل مسرعا، وكأنه على معرفة به، وكالعادة القديمة طلب شيشة وشرابا.
"هل تريده "عجمي" أم "معسّل" أم "كيف" يا بيك؟"
احتار بماذا يجيبه. "هات أي نوع . كلها تدوخني، وأنا لست مدخنا".
هز النادل رأسه باسما ثم قال: "سلامتك يا بيك، ستكون سعيدا".
بعد قليل كانت الشيشة تقرقر بين رجليه و(المبسم) لا يبتعد عن فمه لحظة. تراخت مفاصله. أحس بخفة في رأسه، فغرغر ورطب حلقه بجرعة من الشراب الذي أمامه، ثم عاد لتدخين الشيشة، فأحس أنه ما يزال عطشانا.
أفرغ بقية القارورة في جوفه، فازدادت الدوخة في رأسه بعد قليل، وها هو الآن يرى مناظر مختلفة، وأناسا يجلسون باهتزاز. احسّ بالراحة بعد التعب من المشي طويلا في شوارع بيروت، يرى الصبايا بملابس كاشفة وفي تحرر جاذب. وهناك عند مدخل المقهى حسناء تنتظر وأمامها شراب خفيف. لماذا لا أتوجه لأدعوها لمشاركتي شرابي، أو أشاركها الجلسة؟
ردد الجملة اللبنانية المأثورة: "كـ... أخت بيروت شو حلوة هيي وبناتها".
"بيروت بلد العجائب. سأريح رأسي على هذه الطاولة لبضع دقائق" (ما حدا بيسأل).
أثناء ثني رأسه باتجاه الطاولة، لفتت نظره صورة بالأبيض والأسود معلقة على الجدار لشاب شامخ الرأس، واثق من نفسه.
"هل هي صورة غازي يا ترى؟ تشبهه. يخرب بيتك يا غازي معقولة؟"
دفن رأسه ثانية بين ذراعيه على الطاولة، وبدأ يتذكر.
كان علما، وكان موضع حب الجميع.
"يا غازي، يا غازي: أهلك هنا، وسنوات مرت عليك وأنت مرتاح في عملك. اعتدت على روائح وخيرات البترول وتوفير الدولارات، فلماذا لا تفكر بالزواج أولا قبل الذهاب إلى بيروت؟ إلى لبنان وجنوب لبنان؟ لماذا يا صديقي؟
كنا في شارع البطحاء. مرت مجموعة من الأعمدة السوداء المتحركة في الشارع يصدر من ثناياها أحاديث ناعمة مغناجة، وقهقهات رقيقة تدير رأس اي رجل قربها.
قال غازي: "أتريدني أن أتزوج امرأة من مثل هذا القطيع النسائي المجلل بالسواد أم أن احضر واحدة من دولة أخرى لتنضم لهن؟ حياتنا وتاريخنا وماضينا كله سواد في سواد".
وتمر في هذه اللحظة سيارة (جيب ويليز) أميركية مكشوفة يجلس بها اثنان من الشباب.
قال غازي: "صحيح أنني أخدم فلسطين والفلسطينيين هنا، لكنني أريد أن أكون في مكاني على الحدود، ننهك العدو، ونخطو على درب التحرير في لبنان كل يوم".
صاح النادل مناديا لتجهيز طلب لزبون جديد. كان ذلك بصوت مرتفع، وبلحن خاص قوي. لفت ذلك انتباهه فسمعه، تململ قليلا، سحب يده الأولى وقد بللها العرق، فتصور الأمطار الغزيرة قبل أعوام في منطقة الرياض.
شاهد السيل وسط المدينة يفور بجريان المياه المتدفقة، حتى أنها فاضت على الشوارع المعبدة، وأضرت بالكثير من المنازل، وعطلت السيارات.
وجرى سيل غزير من الدماء في لبنان وشمال فلسطين.
لم يصدق الناس كثرة المطر وغزارته ذلك العام، ولا كثرة ما سال من دماء عربية كثيرة في المخيمات والقرى في لبنان، ودماء الأعداء في المستوطنات قرب الحدود.
سرح بحلمه أبعد وأبعد. رأى غازي يقف أمامه، يتحرك في كل اتجاه، لا يستطيع الثبات حتى لثوان. قلت له:
"يا غازي كل من رآك ظنك خبيرا أوروبيا أو أميركيا. أشقر الشعر جميل الشكل. حتى لباسك وطريقة نطقك مثلهم. هل أصبحت خواجا؟ أم لأن الفلوس كثرت معك، بسبب حصولك على وظيفة جيدة في الرياض؟
"تعلم أنني قطعت مرحلة متقدمة في تعلم اللغة العبرية. وأتقنت اللغة الإنكليزية من خلال علاقتي مع خبراء الأميركان".
تخدرت يده الأخرى كذلك. رفع صاحبنا رأسه. نفض يده وحرك أصابعه، فاتجهت عيناه ثانية على صورة الجدار. أراد أن يبحث عن الحسناء التي تجلس وحدها، فوجد أنه قد انضم لها شاب جذاب وامرأة متعرية أكثر جمالا من الأولى. لكن صورة غازي كانت اكثر جذبا لعينيه المتعبتين المخدرتين.
تأمل الصورة مرة أخرى. رأى شلالين أسودين ينبعان من عينيه ويجفان في الطريق قبل وصولهما إليه. أمال رأسه للخلف حتى يهيء نفسه للنهوض بعد قليل.
بعد عامين من سفره، وفي حفلة عرس الدكتور إبراهيم، أتذكر أننا سألنا شقيقه المحامي عن أخباره فأجاب:
"وصلتني قبل أيام رسالة من غازي بعد مرور عام على استقراره في بيروت".
مد يده وأخرجها من جيبه. "هذه هي الرسالة". اختطفها صديقنا كمال منه، وراح يقرأ على مسامعنا:
"بيروت رئتنا التي نتنفس بها، نمارس فيها بعض حريتنا، نستعد يوميا لكل الاحتمالات. أعداؤنا أيضا يمارسون حريتهم وهم يجربون طائراتهم مغيرين بأحدث أدواتهم التدميرية. أصبح ذلك برنامجا مألوفا لنا. هذه فرصتنا يا أخي للتعود على عدم الخوف منهم. أصبح تعامل الناس مع السلاح كالتعامل مع الغذاء والدواء والكساء.
"حتى الأطفال أصبح السلاح يعوضهم عن السينما وأفلام الكرتون والنوادي والملاعب الرياضية. أصبح الموت مهنة لنا. أحاول أن أنسى كل ما عندكم، فالجمال والتغيير في بيروت يملأ حياتنا أينما ذهبنا: في المخيمات، في الشوارع، في الخنادق، في ساحات التدريب على الحدود. لا فرق في المهمات ولا في المعاملة ولا في الحقوق بين الرجل والمرأة. ما لم يصبح جميع العرب مثل بيروت، فسنظل أضحوكة للعالم المتعطش لدمائنا وأموالنا.
"أخي العزيز: ابلغ كمال أنني زرت قريتي وقبر والدنا. حينما شاهدني بعض من قريتنا في فلسطين. ظنوني صهيونيا أميركيا أو أوروبيا بسبب لون بشرتي الأشقر، لكنهم لم يهربوا، بل توقفوا ينظرون إليّ بشك وبحقد. أسند معظمهم ظهره للحائط أو لباب ليرى ماذا سأفعل.
"قابلني شخص كبير في السن. قال: " كأني اعرف هذا الوجه، هل أنت من حَمولة الفهود؟"
"لا أعتقد أنه من أحد أقاربنا. لم يكن لدي الوقت للتعرف عليه. كان أمامي مهمات أهم من ذلك بكثير، فأنا متسلل خفية لداخل الأرض المحتلة.
"هناك وبسبب خبرتي في اللغة الإنجليزية، تم تحويلي من الهلال الأحمر إلى الجناح السياسي ولست نادما على ترك العمل والدولارات والهدوء عندكم، احس أن عدونا هنا معرض لنا في كل مكان.
"نجوت من الموت مرات عدة. اصبح النار والرصاص والسلاح زادنا اليومي.
"قد لا تصدق يا أخي أن مجموع أفراد المخابرات من الدول الأجنبية يفوق عدد المقاتلين هنا، وهم الآن موجودون في كل مهنة وفي كل مكان."
رفع أحدهم صوت المذياع فجأة، فأيقظه صوت أم كلثوم: "اروح لمين؟! وأقول يا مين ينصفني منك؟"
عدل رأسه. سمّر عينيه على صورة الجدار ثانية وثالثة. تأملها جيدا، وتفرس بملامحها. قال لنفسه مرة أخرى:
"هل يعقل أن تكون هذه صورة غازي؟ وهل يعرفه أصحاب المقهى؟ ولماذا يعلقونها؟"
أحس بالقليل من الصداع، وتعبت كلتا يديه. رفع رأسه. استطلع جميع جدران المقهى. نظر في وجوه الحاضرين. مد يده في جيبه. سدد الحساب للنادل وأكرمه، ثم غادر المقهى متراخيا.
انعطف لليمين إلى شارع يقل مرور السيارات فيه. مشى طويلا. ما زال يحسّ ببعض النعاس. أراد أن يستعيد نشاطه، فمشى ومشى. استعاد الكثير من ذكريات الماضي، ومروره بهذا الشارع لاختصار الزمن والبعد عن ضجيج السيارات في المرات التي زار فيها بيروت.
في يوم قائظ، نزلت من باص الشركة التي أعمل بها. كنت مرهقا من كثرة العمل في ذلك اليوم. وعليّ أن أمشي مئات الأمتار قبل الوصول إلى منزلي. وما أن طرقت الباب، حتى أسرعت زوجتي تطلب مني التحدث مع كمال على الهاتف لأمر هام.
تحلقنا حول شقيقه المحامي في ساحة العزاء المسقوفة أمام منزلهم بعد مغرب ذلك اليوم. سألته: "كيف حدث ذلك؟" قال شقيقه:
"خرج على رأس وفد للإصلاح بين فريقي تنظيمين عربيين مختلفين في لبنان، ربما أن المخابرات الأجنبية كانت وراء هذه الخلافات. وفي آخر النهار، وبعد حل الإشكال، ودع غازي الفريقين وتعانق الجميع فيما بينهم، فرحين بما توصلوا له. هنأوا بعضهم بعضا. شكروا غازي على دوره وصبره. سار متحمسا وبخطى ثابتة متلهفا لسيارته على عجل، وكان يحرسها نفر من اتباعه من مساعديه.
"وعلى بُعد مئة متر من السيارة، سمع رفاقه طلقة خفيفة من كاتم صوت تنطلق من جهة ما. توقف غازي قليلا، شاهده رفاقه يلتفت لليمين. انحنى قليلا. استند على ركبته وبدأ يصوّب سلاحه. وقبل أن يضغط على الزناد، انزله بهدوء ثم ارتخى، واحتضن الأرض التي أحب".
- عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
◄ نازك ضمرة
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ