زهرة يبرم - الجزائر
مذكرة يوم عادي
عقارب الساعة تقارب الواحدة ظهرا حين دعاها للخروج في جولة على كورنيش البحر، فكانت سرعتها في تجهيز نفسها بقدر عشقها لتلك الأماكن. وفي دقائق كانت أمام الباب. ولما استقبلهما الشارع انتبهت إلى السماء الغائمة وهمت بالرجوع للإتيان بمظلة تحسبا لنزول المطر، لكنه رأى في المظلة حملا زائدا، فالمواصلات متوفرة على المسار تُـنْجِدُهما إن أمطرت.
وبعد خطوات قليلة، ولما مازحته قائلة إنه استبق فصل الربيع حين غير معطفه الشتوي بجاكيت خفيفة وقد يبرد، انتبه إلى أنه نسي نقوده في جيب المعطف وهم بالرجوع. لكنها طمأنته أن معها بعض المال، وهما في العادة لا يحتاجان إلى مال كثير في نزهتهما تلك.
كان دأبهما بين الحين والآخر أن يسرقا من العمر المهدور في براري الزمن وقتا للانطلاق والحياة، يتوغلان في السير قدر ما يستطيعان، وحين يتعبان يعودان في المواصلات العامة.
إنها تريد لهذه السويعات أن تكون خالصة لها، تعطل فيها بعض الحواس وتنشّط أخرى، فلا تفكر في الأمور الهامة، ولا ترد على الهاتف. لا تتكلم كثيرا مع رفيقها، ولا تسمع إلا بالقدر الذي تريد. تتنفس عميقا، وتسرح ببصرها في كل الإتجاهات تأمّلا في تفاصيل كل شيء.
يهزمها البحر حين تراه، يلغي عقودا من عمرها ويعيدها طفلة في العاشرة. رائعة مدينتها بموقعها على خليج، وحيازتها على شريط ساحلي طويل كثيرِ المعطفات، يزخر بالجمال والدهشة. وكم تحب في كل مرة تأتي إلى هناك، حتى في عز الشتاء، أن تنزل إلى البحر وتداعب موجه بأقدامها، وتعشق من بين الشطآن شاطئ الجنة!
ثمة مشاهد على المسار شاسعة لا مثيل لها قد لا يكترث لها من اعتاد عليها، لكن أولئك الذين يهيمون متأملين من حولهم بحثا عما يبعث في نفوسهم انفعالا وإعجابا ينبهرون حتما بها، وهي من هؤلاء، فرغم اعتيادها ما زالت عيونها نهمة تعب من جمالها الذي لا ينضب.
مفتونة بالأمكنة جميعها ومهوسة بالتقاط جمال وجهها دون ملل. لم تعرف يوما أفقا أوسع وأكثر عجبا من شواطئ مدينتها. تمنت لو كانت تملك ناصية اللغة، إذن لأخذت على عاتقها أن ترسم لنا المشاهد بالكلمات. لبيّنتْ لنا المشاهد بألوانها المتبدلة على وقع تعاقب الفصول، سوداء مائجة تحت المطر، مشرقة منشرحة تحت أشعة أفريل [نيسان] الأولى، ومتوهجة صافية تحت شمس أوت [شهر آب/أغسطس]. الروعة تحيط بها من كل جهة وترويها.
كم ترغب في ضم البحر والجبل والسماء وتتملكها في فسحة عناق! لكن الطبيعة الشاسعة تفلت من بين ذراعيها الأقصر من أن تحضنها. تتأمل كل شيء، تشم كل شيء، وترغب في أن تقول كل شيء. بودها لو تعرف كيف تسكب مشاعرها بكاملها على صفحة بيضاء، ستكون سفينة خلاص كبيرة لها.
كان الهواء يدخل رئتيها منعشا عابقا برائحة الملح، والصيادون قابعون على الصخور وفوق سور الكورنيش يمارسون غواية الأسماك، ولوح إلكتروني يشكل جسرا على الطريق يشير إلى درجة حرارة ما، وإلى يوم وساعة ما، لكنها لا تهتم لدرجات الحرارة ولا لموقعها من الزمن. ولم تكن نشرات الرصد الجوي تشد اهتمامها يوما. لا تعبأ بالسحب التي تزحف نحو سمائها ولا للطيور التي تملأ الجو هروبا من عاصفة قادمة. بل كالطيور هي تحمل غريزة الحرية، وكل أمنيتها أن تبلغ الشاطئ الذي معه تسطر حكاية سحرية.
بالَغَا في الابتعاد. تجاوزا كثيرا من الشواطئ وبلغا شاطئ الجنة. أبدت رغبتها في النزول إليه، فليس أجمل من نزهة على حدود الماء.
اعذرها سيدي، ليس عنادا منها بل متيمة بشاطئ يحيط به الجمال أنى ولّيت وجهك. لا عليك منها. افترش جريدتك واجلس على الرمل. متع ناظريك بالجمال وبهدوء المكان. انظر إلى البحر يلتحم بالسماء الرمادية في تواطئ لوني، لكأن البحر نسي أنه البحر والسماء نسيت أنها السماء وصار كلاهما يهيم في الآخر.
مشت على طول الشاطئ ذهابا وإيابا لا تفكر في غير متعة اللحظة، إلا أن السماء باتت تنذر بقرب نزول المطر. وبدأت أولى القطرات تنزل. يا لهنائها، موج ومطر! فتحت ذراعيها وأغمضت عينيها وأودعت وجهها للمطر.
شرع المتواجدون القلائل على الشاطئ يجمعون أغراضهم استعدادا للمغادرة، كما سارا مغادرين المكان. مشت على حدود المد تودع البحر قبل صعود السلم إلى الكورنيش، لكن موجة عاتية هاجمتها في ارتفاع لم تكن تتوقعه، طالتها وبللت حذاءها وأطراف ثوبها، وصار السير بحذاء مبلل مضنيا.
على الطرف الآخر للطريق كافيتيريا اعتادا احتساء كؤوس من الشاي بالنعناع فيها مع حلوى "قلب اللوز" اللذيذة. ولن يغيرا من عادتهما. شربا كأسيهما، وأخرجت حافظة نقودها لتدفع للنادل، لكن الفجاءة أن لا نقود فيها. فتشت جيوبها الكثيرة علها تعثر على بعض الدنانير، لكن كانت كلها تصفر مع الريح. آه من آفة النسيان! لقد حولت النقود إلى جيب حقيبة أخرى.
غزر المطر وهما يسيران تحته دون أن يملكا ثمن سيارة أجرة. لكنها عاشقة مواسم المطر. حذاؤها الطري يتمدد تحت وزنها يوشك أن يتفكك. كم تمنت لو يتهتك لتكمل طريقها حافية! وتتذكر عهد الطفولة حين كانت تخاتل أمها لتقلد أطفال الحي في اللعب تحت المطر. يدعكون الأتربة المبللة تحت أقدامهم لتصير طينا لزجا. تلك من المتع النادرة لكنها تحت الخوف من العقوبة.
واستولت عليها الفكرة. لكنه حذاء عنيد من الجلد الجزائري عالمي الجودة. إلا أن طريقة مشيها جعله ينهار تحت قدميها.
واحتفت. نعم احتفت ملبية رغبتها. وصمها بالجنون وهي تسير جنبه حافية منـتشية بملامسة قدميها الأرض، والمطر ينزل فوقهما مجنونا. أمنية طفولية ما فتئت تطارد خيالها وتحققت، أن تسير بكل حرية كما الأطفال والمجانين في شوارعنا دون أن تقيدها نظرات الكبار والفضوليين.
لم تعد تنظر في عينيه، فقد غرق وغرقت في الصمت كما يغرق الفارون إلى لجاج البحر. اتسعت خطاه وأصبحت تفصلهما مسافة. صار يعاني كلاجئ في نوبة سفر. أما هي فلا تعاني. هي ليست مثله وهو ليس مثلها وليس على أحدهما أن يكون شبه الآخر. فليعش لصمته وليَدَعها فقط لمتعتها، فملامسة الأرض عشق.
كما لم تعد تنظر في عيون المارة، ليس كي لا يصيبها الخجل فلم يكن ذاك أمرا يخجلها، بل كي تستقل بمتعتها، فلا أحد يعنيه أمرها ولا نظرته لها تعنيها، وأمنيتها أن يخلو الطريق إلا منها.
لكأنها عادت طفلة في العاشرة في أول لقاء لها بالبحر في مخيم صيفي، فراحت تنشد بصوت خفيض تطرب له حواسها:
Un kilomètre à pied, ça use, ça use
واحد كيلومتر على الأقدام، هذا يمزٌّق، هذا يمزّق
Un kilomètre à pied, ça use les souliers
.
واحد كيلومتر على الأقدام، هذا يمزق الأحذية
Deux kilomètres à pied, ça use, ça use
كيلومتران اثنان على الأقدام، هذا يمزق، هذا يمزق
Deux kilomètres à pied, ça use les souliers
كيلومتران اثنان على الأقدام، هذا يمزق الأحذية
وهكذا كان الأطفال يمضون مع إنشاد طفولي لا يتوقف عند رقم معين، حتى يصلوا إلى البحر، فيهرعون إلى الماء بكل قلوبهم البريئة.
= = =
لمشاهدة أغنية الأطفال (بالفرنسية)
- عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
مذكرة يوم عادي, يوسف ـ الجزائر | 28 شباط (فبراير) 2017 - 11:59 1
هاته التي كان لقاؤها مع البحر أول مرة في مخيم صيفي والتي تحسن انشاد un kilomètre à pied ça use ça use هي الآن قد جاوزت الخمسين من عمرها بكثير على ما يبدو .فالمخيمات الصيفية يومها كانت تعلم فعلا الأناشيد الفرنسية الخالدة التي مازلنا نرددها إلى الآن ، على شاكلة de loin je vois tourner la mouette أو elle descend de la montagne à cheval .ولكن يا ترى كيف كان حال رفيقها طيلة كل النزهة؟ مشكورة أنت على هذا الصفحة من هذا اليوم العادي .
1. مذكرة يوم عادي, 28 شباط (فبراير) 2017, 20:36, ::::: زهرة يبرم-الجزائر
قد تكون ملاحظاتك واستنتاجاتك في مواضعها، وهي قراءة مختلفة لنص أدبي. وهاته التي تعشق البحر مهما كان سنها،قد تكون تجاوزت الخمسين بكثير أو قليل، وقد تكون أصبحت في مصفّ الجدات، إلا أن روحها الجميلة المحبة للحياة جعلتها تتقن فنها فتمارس المشي على مسافات طويلة وعبر طريق يضج بالجمال، وهذا تميز. وما تلك الأناشيط الطفولية إلا شذرات من الذاكرة عصية على النسيان. أما عن حال رفيقها فهو حاله، والتركيز في النص على المرآة.
كل الشكر لك على القراءة والتعليق.
مذكرة يوم عادي, فنار عبد الغني | 1 آذار (مارس) 2017 - 17:29 2
أسعد الله أوقاتك
أ.زهرة
تحياتي ومودتي
قد يبدو اليوم عادي اذا كنا قد أعتدنا على رؤية ومعايشة كل تلك التفاصيل دون ان تحدث تغييرا في ذواتنا،لكن مع هذا الفيض الرائع الذي أضاف على الطبيعة والإحساس بروعتها مشاعر التجدد هو بالتأكيد ليس عادي.والمرأه هنا هي رمز للتجددوقلبها بوصلة تشير إلى مواطن الانطلاق والحركة الدائمة التي تتخطى الزمن .اعجبتني عبارة كم ترغب في ضم البحر والسماء وتتملكها في فسحة عناق!لوحة فريدة من نوعها!
1. مذكرة يوم عادي, 23 آذار (مارس) 2017, 09:36, ::::: زهرة يبرم- الجزائر
تحياتي مبدعتنا الكاتبة أ. فنار
صدقت فيما ذهبت إليه، فبالرغم من أنه يوم عادي، "كليشيه" لأيام عديدة سبقته سلكت فيه بطلتنا نفس الطريق، إلا أن نبع الصفاء بداخلها يتدفق عبر حواسها بكل إحساس جميل بالمناظر والأشياء حولها، حتى بدا اليوم متميزا وغير عادي.
شكرا لإحساسك الأنيق بكلماتي، وهذا لعمري من رفعة ذوقك الأدبي.
مذكرة يوم عادي, بونيني طه/الجزائر | 4 آذار (مارس) 2017 - 14:54 3
السلام عليكم،
أعجبني النصّ، وما شدّني هو السرد الجميل الذي ينساب مع موج البحر، وما شدّني أيضا هو عمق الفكرة وتميّزها رغم الموضوع المعتاد، وأقصد الجولة العاطفية...فالتفاصيل والجزئيات هي التي تصنع النصّ وتصنع الفارق وتصنع الكاتب. ولهذا تبقى الملايين من الأفكار والعواطف موضوعا للكتابة والتنقيب كأنها جواهر تنتظر من يجدها، ويكشف اللثام عنها. إنّها النفس البشرية بكلّ بساطة ولا أجمل من يفشي بعض أسرارها ويحلّ بعض شفراتها من كاتب يُتقن الإنصات...
1. مذكرة يوم عادي, 23 آذار (مارس) 2017, 11:35, ::::: زهرة يبرم- الجزائر
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بالفعل فإن النفس البشرية بحر عميق صعب تتطلب غواصا يحسن بأدواته صيد جواهرها. فلو كتبت عن نفسك ونفسيتك عديد المرات لجاء موضوعك كل مرة مختلف عن سابقيه بحسب اختلاف المزاج والظرف. فالنفس البشرية أعظم مستودع أسرار وضعه الله في خلقه.
كنت أعتقد لما كنت طالبة رياضيات أن مسائل الرياضيات والفيزياء والكيميات من أعقد المسائل في الفعل التعلمي، وأن دراسة الأدب رفاهية زائدة، لكني أكتشف بالتدريج أن أعقد المسائل تكمن في عمق الفكر والإنسانيات، فهي علوم موضوعية تخضع للنسبية والمقارنة ولا تطبق عليها الوسائل التجريبية، لذا تكون متشعبة لكنها تمنح الإنسان حرية أوسع وأمتع وجموح فكر بلا حدود لمن يملك أدواتها.
2. مذكرة يوم عادي, 23 آذار (مارس) 2017, 12:38, ::::: زهرة يبرم- الجزائر
أردت أن أضيف معلومة أ.يوسف لا أدري إن كنت تعرفها، وهي أن بعض مناطق الوطن لم تتوقف عن تلقين الناشئة تلك الأناشيد "الخالدة" كما أسميتها، بعد الإستقلال وإلى يومنا هذا، في المخيمات الصيفية والمدارس الإبتدائية ودور الحضانة. عرج على بلاد القبائل، تيزي وزو وبجاية، قُرَاها ومداشرها، ادخل دور الحضانة، ستجدهم يعلمون الأطفال دون سن الرابعة الفرنسية قبل العربية، والعربية لغة ثالثة لأن الأمازيغية لغة التخاطب، وتعلم العربية في السنة الموالية. وتلك الأناشيد الخالدة كلها ينطقها الطفل بكل طلاقة قبل سور القرآن الكريم والنشيد "قسما". أجيال متعاقبة تحسن الإنشاد الفرنسي.
مذكرة يوم عادي, ابوخالد نازك ضمرة | 30 آذار (مارس) 2017 - 15:31 4
وصف رحلة وليست قصة، وكأن زهرة طالبة تنفذ رغبة معلمتها لوصف رحلة للبحر، لكنها فضحت أوجهاً متناقضة مع توازنات الحياة، الوجه الأول الوصف المسهب للطبيعة وللرحلة ولنفسية المرأة في لحظات راقتها، وصف يحسب للكاتبة في وصف الطبيعة والبحر والمطر والسماء والحذاء والمشي والمشاعر، وقد أتطرف فأقول أنها بالغت لدرجة الفيض الزائد، ربما لتخفي الوجه الآخر لتصرفات البطلة بشكل يخالف المعتادفي رحلة مع رفيق دعاها لمرافقته، ونحن في غنى عن بيان المشاعر العادية من مرافقة رجل وأنثى في رحلة بمفردهما، فتركيز بطلة الحكاية على نفسها بأنانية ونرجسية مرفوضة مع شخص جشم نفسه الكثير ليحاول إسعادها، ولا نلومه لعدم حمل نقوده ومعطفه ومظلته، فلقد أخطأت هي الأخرى بأن نسيت نقودها، ثم ومنعته من العودة، ومع قدوم المطر، وهذازادهاتماديا في ساديتها ومتعتها متناسية مشاعر الآخر، بل بالغت في إظهار السعادة لتعيد لنفسها ذكريات طفولة لن تعود، ولم تطلعنا كيف تخلصا من مفارقة عدم وجود نقود معهما لدفع ثمن ماشرباه في المقهى، وتغفل الكاتبة ردود فعل ذلك الإنسان، وكأنه كان خيالا لها بوجود الشمس، ثم اختفى مع اختفائها،أوتمثال صغير في جيبها