عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 04: الصحافة وأزماتها في عصر الإنترنت
عندما يحدث تقدم تقني، قد لا يحظى بالقبول الفوري، ولكنه بعد فترة تطول أو تقصر، يفرض نفسه، وينتشر انتشارا واسعا. الفيلم الصامت كان في الماضي شائعا ومقبولا. وعندما ظهر اختراع يمكّن من تسجيل الصوت وجعله يرافق الصورة، لم يعد أحد ينتج فيلما صامتا إلا في حالات استثنائية. وعندما أمكن التصوير بالألوان، صار من النادر بعد بعض الوقت أن نرى فيلما جديدا ينتج بالأسود والأبيض.
الحاسوب كنا نسمع عنه ولكن لا نراه. ظل حجمه يصغر إلى أن أصبح ممكنا حمله من البيت إلى العمل أو الجامعة، وتعددت استخداماته، فصار لا غنى عنه للطالب والكاتب والمصور، إلى آخره. والهاتف الذكي صار في كل يد تقريبا، وهو حاسوب صغير متعدد الاستخدامات، إضافة إلى كونه هاتفا.
عندما ظهرت الإنترنت، كانت تقدم كخدمة مجانية، فالشركات كانت تريد تشجيع الناس على استخدامها تمهيدا لتحويلها إلى خدمة تعود بالمال على شركات الإنترنت. وما أن اعتاد الكثير من الناس على استخدام الإنترنت، بدأت شركاتها تسحب الخدمة المجانية، وتستبدلها باشتراك سنوي، مع إغراءات من قبيل سرعة كبيرة، واستخدام بلا قيود وخاصة بالنسبة إلى تنزيل المواد من المواقع أو تحميلها.
ما أود قوله من الأمثلة أعلاه هو أن التكنولوجيا، ممثلة بالحاسوب المشبوك بالإنترنت، خلقت واقعا جديدا، ربما أهم مميزاته أن كل إنسان أصبح قادرا على التعبير عن رأيه ونشره على الملأ، وهذا لم يكن ممكنا قبل عصر الإنترنت.
هنا المدخل لفهم الأزمة التي واجهتها وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة المطبوعة، وأدت إلى نشوء ظاهرة التوقف عن النشر الورقي والاكتفاء بالنشر على موقع إلكتروني.
ولكن تأثير الوسائل البديلة للمعلومات، مثل الفيديوهات التي ينشرها أفراد في يوتيوب، أظهرت أيضا أن المحطات التلفزيونية تأثرت نتيجة الواقع الجديد، وخاصة لناحية المقدرة على التأثير على الرأي العام. وخير مثال على ذلك حدث لا يزال طازجا، وهو انتخابات الرئاسة الأميركية التي فاز فيها دونالد ترمب.
أخطأت الشبكات التلفزيونية الأميركية، ومعها صحف قديمة وراسخة مثل "نيويورك تايمز"، في تنبؤاتها بأن دونالد ترمب لن يفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية.
فشلت وسائل الإعلام الأميركية مرتين. الأولى متعلقة بالتنبؤات بشأن من سيفوز في الانتخابات، وهي كانت خاطئة إلى حد مخجل، لأنها تحدثت عن استحالة انتخاب ترمب، وقدمت التنبؤات على أساس أنها علم يحسب نسبة النجاح بدقة.
الجانب الثاني من الفشل كان المتعلق بالإخفاق الذريع في تعبئة الرأي العام الأميركي ضد ترمب رغم القصف المركز والشديد عليه، واستغلال كل خطأ ارتكبه أثناء الحملة الانتخابية أو قبل سنوات من خوض ترمب السباق للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري. أكثر من عام من التعبئة ضد ترمب لم تفلح في إنجاح هيلاري كلنتون، بل فاز ترمب رغم كل ما قيل عنه من سلبيات.
فوز ترمب كان مفاجئا فقط لمن لم يكلف نفسه عناء الاطلاع على وجهات نظر مختلفة، وهذه كانت متوفرة في فيديوهات على يوتيوب. كثيرون كانوا ينشرون فيديوهات مؤيدة لترمب رغم كل ما كان يقال عنه، وبعضهم كان يتنبأ بفوزه.
غير مستبعد طبعا أن تنبؤات البعض بفوز ترمب لم تكن علما أيضا، وجاءت متطابقة مع الواقع بالصدفة. لكن بعض المتنبئين استندوا إلى أدلة لم يسلط الضوء عليها كثيرا، فبعضهم كان يذهب إلى المهرجانات الانتخابية التي تقام لترمب، ويشاهد أعدادا غفيرة من الناس، بعكس ما كان يحدث في حالة المرشحة هيلاري كلنتون، التي نشر مؤيدو ترمب في فيديوهاتهم الشخصية غسيلها الوسخ، بخلاف وسائل الإعلام الكبرى التي كانت تركز على خبرتها وأهليتها للرئاسة.
وقد أثبتت تجربة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن النشطاء الذين يتابعون الحملات الانتخابية على أرض الواقع، بالسفر إلى المدن المختلفة وحضور المهرجانات، يكون توقعهم للنتيجة أدق مما يقال في وسائل الإعلام، فالاعتقاد الشائع كان أن نتيجة الاستفتاء ستكون متقاربة، ولكن لصالح البقاء، في حين أن صحفيا وناشطا مثل أوين جونز، كان تنبأ بالنتيجة لصالح الخروج في فيديو نشره قبل أيام من بدء التصويت على الخروج أو البقاء.
أعلاه أمثلة على أن وسائل الإعلام كما عرفناها في الماضي تواجه واقعا جديدا، فهي أولا تواجه تحديات مالية بدأت بنقص المبيعات والدخل من الإعلانات إلى حد أجبر بعض المجلات والصحف على التوقف عن النشر ورقيا. والتحدي الثاني هو فقدان المقدرة على التأثير على الرأي العام كما كانت تفعل في الماضي.
هذا الواقع الجديد لا يميز بين وسيلة إعلامية تصدر في الولايات المتحدة، أو في أي مكان آخر من العالم، ومثلما اضطر صحفا إلى التوقف عن النشر في الولايات المتحدة وبريطانيا، على سبيل المثال، لا عجب أن يؤدي إلى حالة مشابهة في الدول العربية. ولكن بالنسبة لوسائل الإعلام في العالم العربي، هناك ظروف خاصة بالمنطقة لا بد من التسليط عليها، وإلا لكان تشخيص الوضع قاصرا.
وسائل الإعلام في الدول العربية معظمها وسائل إعلام رسمية، ولذا هي تتلقى تمويلها من الدولة لأنها جزء من مؤسسات النظام وناطقة باسمه. هذه الوسائل لن تتأثر كثيرا. قد يطلب منها خفض النفقات، ولكن وجودها غير مهدد نتيجة الأزمة المالية التي تواجه غيرها.
بعد شيء من الانفتاح في العالم العربي ظهرت صحف يشارك فيها أو يملكها القطاع الخاص، وفي هذه الأيام توجد قنوات تلفزيونية خاصة. الوسيلة الإعلامية التي يملكها القطاع الخاص لا تستطيع الاستمرار بدون مصدر دخل، والمصدر الأهم هو الإعلانات.
عندما كانت الصحيفة تباع بخمسين فلسا، أو ما يعادلها من العملات في الدول العربية، كانت كلفة إصدار النسخة الواحدة أكبر من هذا المبلغ الضئيل. لكن دخل الجهة الناشرة من الإعلانات كان يمكّنها من بيع الصحيفة بخمسين فلسا، لأن دخلها ليس معتمدا على بيع مئة ألف نسخة مثلا بخمسين فلسا للنسخة.
المصدر الآخر للتمكن من النشر والاستمرار في الصدور هو الدعم المالي من جهة ما، كأن تتلقى هذه الصحيفة أو تلك، دعما ماليا من نظام عربي يختار الصحف التي يريد دعمها لاستعدادها للتناغم مع خطابه السياسي والأيديولوجي، إما من منطلق أيديولوجي مشترك أو مصلحي محض.
الصحف العربية في البداية تفادت النشر على الإنترنت ظنا منها أن ذلك يؤثر على المبيعات، وإذا بها تكتشف بعد فترة أنها إذا لم تستخدم الإنترنت، فسوف تكون فترة احتضارها قصيرة. ولذا أسست كل صحيفة موقعا، وصارت تستخدم الإعلانات في مواقعها أيضا، بل وصل استخدام الإعلانات إلى حد مزعج، فأحيانا تذهب إلى موقع صحيفة وبدل أن تفتح لك الصفحة الأولى يظهر لك إعلان لا يمكن إغلاقه إلا بعد مرور عدد من الثواني.
قد يكون الإعلان في الموقع الإلكتروني مفيدا في حل الأزمة المالية لوسيلة إعلامية ما، كصحيفة مثلا. لم أطلع على إحصائيات تمكنني من تناول هذا الجانب بشكل أفضل. ولكن وسائل الإعلام ليست صحفا فقط. فماذا عن قناة تلفزيونية؟
لا أظن أن قناة تلفزيونية تستطيع الاعتماد على إعلانات في موقعها على الإنترنت لتواصل البث، فكلفة البث التلفزيوني أكبر بكثير من كلفة البث الإذاعي وإصدار الصحف والمجلات. لذلك، يجب أن يكون الدخل من خلال إعلانات تبثها القناة على شاشاتها، وإذا لم يكن الدخل من هذه كافيا، فلا بد من مصدر آخر. الأرجح أن الدعم سيكون من جهة ما، ثري أو نظام.
تستطيع الحكومات العربية أن تغلق مصادر الدخل الآتي من الإعلانات، كما حدث للصحف الأسبوعية في الأردن ومنها صحيفة "المجد" (انظر/ي مقالة فهد الريماوي حول قرار توقف صحيفة "المجد" عن النشر). ورغم محاولة الاستمرار في النشر بإصدارها كل أسبوعين، إلى أنها لم تقو في نهاية المطاف على الاستمرار. وكان يمكن لها أن تقصر فترة المعاناة لو أنها اعتمدت على النشر الإلكتروني فقط، ولو فعلت ذلك لاستبقت الآثار السلبية لنضوب الدخل الآتي من الإعلانات في النسخة الورقية، وواكبت العصر مبكرا في الوقت نفسه.
من الأمثلة الأخرى مجلة "الآداب" التي أرى أنها تأخرت في الاعتماد الأكبر (إن لم نقل الكلي) على الإنترنت، فهي أيضا لم تتمكن من مواصلة الصدور شهريا، ولم يكن ممكنا إرسال اشتراك في النسخة الورقية إلا بالطريقة التقليدية، أي تحويل مبلغ عن طريق البنك. وبدل التوقف الكلي عن النشر الورقي، واصلته بنشر المجلة مرة كل شهرين أو ثلاثة. ولكن ذلك لم يكن كافيا، فأعلنت التوقف عن الصدور في مطلع 2013.
خلال فترة توقف "الآداب"، أعادت النظر في استراتيجيتها، وقررت العودة إلى النشر إلكترونيا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. وعندما عادت، زاد عدد قراءها خمسة عشر ضعفا كما يقول رئيس تحريرها سماح إدريس على صفحته في فيسبوك.
بالنسبة إلى تجربة "عود الند"، فقد صدرت في عام 2006، في وقت كانت وجهة النظر التي تعتبر النشر الورقي هو الأصل، والإلكتروني ثانوي، قوية. ولكن كان واضحا لي في ذلك الحين أن هذه النظرة رومانسية أكثر منها واقعية، فحتى لو توفرت المقدرة المالية على تمويل مشروع نشر ورقي، من غير المعقول البدء به في زمن يشهد مرور الصحف والمجلات بأزمات تجبرها على التوقف.
وسنة بعد سنة، تبين أن الرهان على الوسيلة الإلكترونية رهان رابح، ومكّن المجلة من الاستمرار في الصدور أحد عشر عاما حتى الآن تم خلالها تطبيق معايير الجودة التي تعرف بها المجلات الورقية الرصينة، ولم تسر على النهج الذي أساء إلى سمعة النشر الإلكتروني، لأن أكثره يعتمد على النسخ واللصق.
سلطت الضوء أعلاه على أحد ظروف النشر في الدول العربية، وأقصد كون الصحف رسمية، أو قادرة على النشر بسبب الدخل من الإعلانات، أو مدعومة ماليا، جزئيا أو كليا، من جهة ما محلية أو خارجية. ولا يزال هناك ظرف آخر يجب التعرض له بالتحليل.
لكي أظل في سياق أثر الدعم المالي، هناك نقطتان أود الإشارة إليهما، أولهما: هل هناك مصدر دعم مالي أفضل من غيره؟
خياري المفضل أن تكون الوسيلة الإعلامية مستقلة تماما، ولا تتلقى الدعم المالي من أحد، فالدعم المالي يؤثر على القرار التحريري. مارست خياري في إصدار "عود الند"، فهي مجلة لا تتلقى تمويلا من أحد، وخالية من الإعلانات منذ صدورها. ولأنها مشروع صغير، لم يكن صدوره أو استمراره بحاجة إلى دعم مالي. وفضلت عدم التوسع في المشروع، لأن فعل ذلك سيدفعه إلى البحث عن مصادر تمويل.
ولكن لنضع خياري المفضل جانبا، ونناقش الأمر من زاوية نظرية أوسع.
قد تكون صحيفة ما ممولة من ثري أو نظام (لا أتحدث عن الصحف الرسمية أو شبه الرسمية)، ولكن قراءها لا يمانعون ذلك، لأن صدور الصحيفة أفضل من عدم وجودها، ويعتبرون الأمر مقبولا طالما أن الصحف الأخرى تتلقى أيضا تمويلا من جهة ما.
الجمهور لا يعتبر كل مصادر التمويل سواسية. في الستينيات ظهرت مجلة أدبية اسمها "حوار" وكان رئيس تحريرها الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ. تبين أن المجلة تتلقى تمويلا من «منظمة حرية الثقافة العالمية»، التي كانت تتلقى بدورها تمويلا من وكالة المخابرات الأميركية، سي آي أيه. نتيجة لذلك تعرضت "حوار" لانتقادات، ومنعت من دخول مصر.
مصدر تمويل "حوار" لم يكن مقبولا لدى قطاعات واسعة من الجماهير في ذلك الحين، وسبب حرجا لرئيس التحرير أدى إلى استقالته، وتوقفت المجلة عن الصدور في عام 1967.
المسألة الثانية التي تحتاج إلى تحليل هي: هل تمويل دولة عربية خليجية لصحيفة "النهار" اللبنانية لا غبار عليه، وتمويل العراق أو ليبيا لصحيفة "السفير" غير جائز؟ الأفضل طبعا أن تكون "النهار" و"السفير" (كأمثلة على بقية الصحف) مستقلتين تماما.
ولكن دعونا نأخذ مثالا واقعيا، وغايته التوسع في التحليل، وعدم نسيان الواقع عند تشخيص الأمور.
في بعض الأحيان يحتدم التنافس بين التيارات السياسية والأيديولوجية، ولا يعقل في هذه الحالة أن يكون التمويل لتيار تؤيده مقبول، ومشين للتيار السياسي الذي تعارضه.
هناك مثال يوضح النقطة أعلاه بشكل أفضل. أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982 لعبت صحيفة "السفير" دورا مهما في الصمود ورفع المعنويات. في وضع مهم كهذا، يكون من السذاجة أن يعاب على "السفير" تلقي دعم من منظمة التحرير الفلسطينية أو غيرها للتمكن من الاستمرار في الصدور في هذه الفترة الحرجة، وتجاهل الدور المهم الذي تقوم به الصحيفة في رفع المعنويات وتعزيز الصمود.
وفيما يتعلق بدور المال في الإعلام، يجب ألا ننسى أيضا أن بعض المشاريع الإعلامية تكون وسيلة للاسترزاق، ففتح صحيفة لها مكاتب وتوظف محررين ومراسلين لا يمكن لشخص كان موظفا في مؤسسة إعلامية، مهما كان راتبه فيها، أن يتمكن من تحمل التكاليف المالية لمشروعه الإعلامي الجديد.
من المؤكد منطقيا أن هذا المشروع لا يولد ويعيش بالاعتماد على دخل أو مدخرات مؤسس المشروع. ولا يقدم أو يؤخر شيئا وصف المشروع الإعلامي بأنه "مستقل" لأن الاستقلال ليس مجرد كلمة تكتب في مكان بارز من الصحفية أو موقعها، بل حالة تدعمها الأرقام الواردة في كشوف الحسابات المصرفية والموازنات.
وبالنسبة إلى مصادر التمويل من أنظمة، اختفى من الخريطة السياسية نظامان كانا يدعمان الصحف ذات التوجهات القومية واليسارية، هما النظامان العراقي والليبي، فرئيس الأول، صدام حسين، أطيح به عند غزو العراق في عام 2003، ورئيس الثاني، معمر القذافي، أطيح به بمساعدة حلف شمال الأطلسي في عام 2011.
إضافة إلى ذلك، لم تعد الدول الخليجية تكتفي بتقديم الدعم المالي لصحف تصدر في دول عربية أخرى، بل صارت تؤسس صحفا وقنوات تلفزيونية ومواقع، عائدها المعنوي (وربما المادي) أكبر من العائد من تقديم دعم مالي لصحف أو مجلات عربية إما تجنبا لتوجيه الانتقادات إليها، أو سعيا لشراء المديح والولاء.
رغم أن تغير الخريطة السياسية العربية عمّق الأزمة المالية للصحف القليلة التي عرفت بخطها القومي أو اليساري، إلا أنني أرى أن الدعم المالي من العراق أو ليبيا أو أي نظام ما كان ليحل المشكلة الأهم التي واجهت الصحف العربية في عصر الإنترنت، وهي المقدرة على التأثير كما كانت تفعل في الماضي، لأن البيئة التي تعمل فيها تغيرت كثيرا، وما كان يصلح في العصر الذي خلا من الإنترنت، لم يعد صالحا في عصر الإنترنت.
على سبيل المثال، عندما بدأت الصحف تنشر على الإنترنت وتتيح المجال للتعليق على ما ينشر فيها، كثيرا ما يجد القارئ في التعليقات ردودا تصحح خطأ، أو تعبر عن رأي بديل، وهكذا لم يعد الكاتب كالأستاذ الذي يلقي المحاضرة، ويلتزم التلاميذ الصمت.
من أهم مشكلات الصحف القومية واليسارية قبل سنوات من قرار توقفها عن النشر أنها لم تهتم بتعدد الآراء التي تنشر فيها. حتى التي لا تزال مستمرة في الصدور، كصحيفة "الأخبار"، لا تجد فيها تنوعا في الآراء، بل تجد فيها صفحة رأي فقيرة.
هذه الصحف ظلت متمسكة بالأسلوب السابق الذي لا يسمح بنشر آراء مختلفة لأشخاص ليسوا غرباء عن دعم المقاومة مثلا، ولكن لهم وجهة نظر لا تتطابق مع الخط السياسي والأيديولوجي للصحيفة. نتيجةُ ذلك ليس فقط صحفا لا تقرأ خارج نطاق مؤيدي الخط الذي تسير عليه الصحيفة، بل هو أيضا مؤشر على جمود فكري، يظن مؤيدوه في مرحلة ما أنهم وحدهم قابضون على جمر دعم المقاومة والتصدي للناهب الدولي، وغيرهم على باطل.
وهكذا تلحق وسيلة الإعلام المتمسكة بهذا الأسلوب الضرر بنفسها، وتفقد الكثير من القدرة على التأثير. من الممكن دعم المقاومة والتصدي للناهب الدولي دون كتم الأنفاس وتكميم الأفواه. ولا يضر قضية تراها عادلة أكثر من صم الآذان عن الاستماع إلى أراء مختلفة بشأن أفضل الوسائل لدعمها وتحقيق أهدافها.
هل ستختفي الصحف الورقية والشبكات التلفزيونية؟ لا أتوقع ذلك، فهناك اعتبارات أخرى. الصحف الرسمية في الدول النامية كانت في الماضي تصدر بصرف النظر عن عدد القراء، فهي لها ميزانية تمكنها من إصدار عدد معين من النسخ، وما يكفي من الموظفين. لن يختلف الوضع كثيرا بالنسبة إلى هذه الصحف، فقد يطلب منها خفض النفقات، أو إعادة هيكلة نفسها، ولكنها تستمر في الصدور.
وإخفاق الإعلام في التأثير على الجمهور في بعض الحالات لا يعني أنه لم يعد له تأثير بالمطلق، ففقدان التأثير ليس كاملا ودائما، وحالات الإخفاق في التأثير يكون وراءها عوامل أخرى يتجاهلها الإعلام مثل الغضب الجماهيري على الوضع الاقتصادي، وعدم اعتراف المسؤولين بالمشكلة أو بمشروعية هذا الغضب.
والمنابر الإعلامية البديلة (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها) ليست خارج الجدل المتعلق بحرية التعبير، وطالما أن الفرد ينشر في موقع لا يملكه، فهو دائما تحت رحمة مالك الموقع، الذي يمكنه أن يغلق الصفحات، أو يسهل انتشار ما يريد أن يعطيه فرصة أكبر للظهور. ولكنها لا تزال توفر حتى الآن متنفسا مهما للتعبير عن وجهات نظر بديلة.
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن رأي مختلف في وسائل الإعلام الاجتماعي لا يعاقب عليه في الدول التي تضمن للمواطنين حريات أساسية، في حين أن التعبير عن الرأي فيها يعاقب عليه في الدول العربية لأن السلطات الحاكمة لا تزال لديها مشكلة كبرى مع الحريات الأساسية، وخاصة حرية التعبير.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- [...]
2 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 4: الصحافة وأزماتها في عصر الإنترنت, إيمان يونس | 4 آذار (مارس) 2017 - 17:35 1
كعهدنا بكم دومًا يا د.عدلى كلمة العدد تتناول موضوع معاصر من كافة جوانبه والنشر الإلكترونى فرض وجوده بعصر تكنولوجيا المعلومات الذى نعيشه، وإن كان له بعض السلبيات كالأقتباسات والسرقات ابتداءً من نص أدبى ....إلى الأبحاث بمختلف أنواعها، أما الإعلام الخاص بأنواعه المسموع والمنظور والمقروء يخضع لرؤى وتوجهات أصحاب رأس المال وأجنداتهم الخاصةوتصفية حسابات مع بعض المسئولين أو غيرهم بغض النظر عن المصلحة العليا للوطن لذا أصبح لدينا فضائحيات لا فضائيات ...كل التحية والتقدير لكم دمتم ودامت عود الند فى إزدهار ونجاح برئاستكم الحكيمة
كلمة العدد الفصلي 4: الصحافة وأزماتها في عصر الإنترنت, وسام أبو حلتم. الأردن | 12 نيسان (أبريل) 2017 - 11:33 2
جميل هو ما جاد به قلمكم د.عدلي الهواري، أخذنا حرفك الى عالم الصحف الورقية التي بات وجودها في زمن التكنلوجيا الحديثة نادراً، لفت إنتباهنا إلى نقاط مهمة لنسفيد منها على الصعيد الشخصي والعامي، كتأثير الصورة ٱو الفيديو المرفق مع الخبر على القاريء، الذي بات مشاهدا في ذات الوقت، وأن نبحث ونتعلم لنواكب التطور ونصل للنجاح، كالنشر في مواقع التواصل الإجتماعي والصحف والمجلات الإليكترونية، نظراً إلى الإقبال الكبير عليها من قبل القاريء والمتابع، وكل من يهتم بالخبر أو العمل الإبداعي، وأن نتقبل الرأي الٱخر و وجهات النظر، كل ما ذكرت له انعكاس ايجابي على نجاح المجلة او القضية او العمل الإبداعي كالرسم والكتابة والتصوير والنحت وما الى ذلك، اتمنى ٱن يتغير حال وطننا العربي ويصبح حق التعبير عن الراي حرية من أبسط حقوق المواطن.
أتمنى لك ولهذا الصرح الثقافي دوام التقدم و النجاح
دمت بخير.