عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

اعتزال


زكي شيرخانبدا وكأنه لم يُفاجأ عندما أخبرته أن الأستاذ نعمان جابر قرر الاعتزال، أو التقاعد، أو التوقف. لا أدري ما الذي أستطيع وصف قرار حرماننا من عطاءئه.

كل ما فعله هو أنه أدار وجهه قليلا، ووجه ناظريه نحو الكتب المرصوصة على الرفوف التي تقابله. هذه عادة أعرفها عنه منذ أن كنت أحد طلابه في الجامعة. خيّل لي أنه ركّز نظره على التمثال العاجي القابع بين الكتب.

بعد أن طال تمعنه، ولكسر الصمت، أكملتُ: "مساء أمس زرته لإكمال ما نُعده في ذكرى ميلاده السبعين".

وكأنه لم يكن يستمع، نهض متجها نحو الكتب. سحب كتابا، وعاد لمقعده.

كان ما يزال يدرس في الجامعة عندما صدرت له هذه المجموعة. بعد عشرين عاما وأثناء ما كنت أُعد أطروحة الماجستير تعرّفتُ عليه، واطّلعتُ على ما كتب النقاد عنه.

"سبق وأن حدثّتك عن بعض ما ربطني بنعمان جابر من صداقة ما زالت قائمة لحد الآن. أستطيع أن أدّعي أني أكثر معرفة به من أي شخص آخر. وأعرف ما يعانيه".

سكتَ برهة قبل يكمل: "كنت على يقين من أن ما يجري سيترك فيه جرحا".

"ألمّحَ لك بشيء حتى استنتجتَ؟"

"قالها بصراحة".

= =

"أهلا دكتور نمير. بعد غدٍ، الساعة التاسعة صباحا سنكون عند الأستاذ. لنا يومه كله".

"قد يكون محرجا ان أحضر نقاشا بين صديقين و..."

"آسف لمقاطعتك، هو من طلب أن تكون موجودا. فلنقل استكمالا لما تُحضّره".

أنهى المكالمة من دون أن يسألني إن كنت في حاجة لشيء، كما اعتدت منه.

= =

"خلال ما يقرب من خمسين عاما كُتب عني الكثير. لن أقول أكثر مما استحق حتى لا يتهمني الدكتور بالمبالغة في التواضع. ولهذا السبب لم أتحمس لفكرة أن يُحتفى بي في ذكرى مولدي في الملحق الشهري للجريدة التي تترأس صفحتها الثقافية، عندما أخبرني الدكتور نمير".

"الدكتور كان هو صاحب فكرة الملف عن حياتك وأعمالك وتأثيرك على الصعيد الأدبي. من الإجحاف نكران ما قدمته للقارئ، ومن الظلم ألا يُعترف بجهدك...".

"في هذا الملف بالذات الذي تستطيع تقديمه لقرائك هو اعتزالي الذي فاجأك عندما كنت عندي قبل أيام".

هنا تدخّل الدكتور: "شخصيا، ربما افهم بعض ما تعانيه، لكن هذا لم يسبقك إليه أحد".

وجهت كلامي للأستاذ:

"أفهم أن لاعب كرة القدم يعتزل بعد بلوغه سنا معينا لأن قابليته البدنية تضعف، وأفهم أن الممثل يعتزل بعد فترة قد تطول أو تقصر لأن لا أحد يعرض عليه دورا. السياسي يعتزل لسبب أو آخر. لكن القاص، أو الشاعر، أو الرسام، أو الموسيقار لا يعتزل أي منهم لأن هذه ليست مهنا. يمكن لأي من هؤلاء ألا ينشر ما ينتجه، ولكن أن يتوقف، هذا ما لا أستوعبه".

أكمل كلامه بعد أن ارتسمت على شفتيه ابتسامة لم أستطيع تفسيرها:

"لا. يمكن لأي من هؤلاء أن يعتزل عندما لا يجد ما يقدمه. عندما لا يفهم الناس ما يقدمه. عندما لا يستسيغ الناس أعماله".

مرة أخرى تدخّل الدكتور نمير: "دائما هناك من يُعجب بالنتاج وهناك من لا".

"يا نمير، أنا لم أعد..."

ثوانٍ مرت على سكوته قبل أن يعاود حديثه:

"أدّعي أني من خلال قصصي ورواياتي قدّمتُ إجابات عن بعض أسئلة كانت تدور في ذهن القراء. اليوم، وبعد كل ما جرى ويجري وسيظل إلى أمد لا أحد يعرف منتهاه، زادت الأسئلة عددا وتعمقتْ. محاولة الإجابة عنها ستدخلنا في دهاليز مظلمة ليس من السهل تحسس طريقنا فيها. ومن المؤكد أنها ستثير الأكثر والأعقد من الأسئلة".

عندها تكلم الدكتور: "نحن من علينا واجب تفسير الأحداث واقتراح الحلول".

"سأستعرض ما قدّمناه من تفاسير نحن الذين تقصدهم. قلنا إن ما جرى ويجري ما هي إلّا مؤامرة تستهدف ديننا الذي نحن متناحرون حول الكثير من تطبيقاته. وقيل نحن قوم تأريخ موروثنا الثقافي متخم بالعنف والقتل والتدمير. هناك من ذهب إلى أنها عوامل وراثية متأصلة بنا تنتقل من جيل لآخر. وقيل غير هذا. أيها الأقرب للصواب؟ والأهم، هو الحل الذي سينجينا من هذه الدوامة. ذهب البعض أن ما يصيبنا هو قدر لا نملك رده. أيعقل أن يصل بنا الخور إلى حد أن نرمي فعلنا على الأقدار؟"

بدا لي أن النقاش معه لن يوصلنا إلى نهاية. الإحباط، واليأس، تمكّنا منه. ومن منا لم يحبط أو ييأس؟

"استأذنا الجليل..."

العبارة التي يستخدمها الدكتور عندما يريد أن يُخفف من انفعالات نعمان جابر، وغالبا ما ينجح. هذه المرة بدت عديمة الجدوى. لم يدعه يُكمل. هو من استرسل:

"يا نمير، اللغة، رغم كل ثرائها بالمفردات، انعدمت إمكانياتها في وصف ما نحن عليه".

التفت نحوي قائلا: "غسان، يمكن أن تعطي ملفك هذا العنوان "نعمان جابر ينهي قلمه بموت رحيم". الموت الرحيم هو حالة يلجأ إليها الأطباء في إنهاء حياة مريض ميؤوس شفاءه وبناء على طلبه ليتخلص من آلام لم يعد يحتملها".

أراد أن ينهي النقاش. وجّه كلامه لكلينا: "هل زرتما معرض الفنون التشكيلية للشباب؟ الأعمال المعروضة تُنبئ بإفراز جديد، تماما كما الظواهر الأخرى التي يلفظها رَحِم".

JPEG - 12.7 كيليبايت
عود الند: تصميم خاص بالعدد الفصلي الرابع
D 1 آذار (مارس) 2017     A زكي شيرخان     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • أسعد الله اوقاتك
    عندما تتعب الروح وتتيقن بأن أفق الأمل قد أطبق يحدث الاعتزال.تاريخ كل البشرية مفعم بآلام لا تنتهي .لا أعتقد ان الأمر يعود للموروثات،إنها التربية والبيئة ،إضافة للعوامل النفسية وغيرها.اعتقد ان الأمل يكمن في التربية والارادة الإنسانية وتغيير أفكارنا.ودمت بخير.


    • عزيزتي فنار... أولا، اشكر تفاعلك مع النص من خلال تعليقك، ولك امنيتي أن يعمك الخير.
      1."نعمان جابر" يستعرض بعضاً مما يمكن ان تكون أسباب ما آل إليه مآلنا (المؤامرة)، (الموروث الثقافي)، (العوامل الوراثية)، (القدر) وها أنت ذا تضيفين (التربية، البيئة، العوامل النفسية). غيرنا يمكن أن يضيف الأكثر مما أوردنا. أي من الأسباب يمكن أن يكون صحيحاً، ويمكن أن تكون كلها مجتمعة.
      2.اليست (التربية) و(البيئة) و(العوامل النفسية) هي ناتج ما ورثناه من ثقافة؟

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 04: الصحافة وأزماتها في عصر الإنترنت

«السفير»: مذاق قهوة الصباح

خبر ومقالة عن توقف المجد عن الصدور

مكتبات بلا زمان

الغازي غازي