د. رضوى زكي - مصر
شارع السيوفية بقاهرة المعز
شارع السيوفية بقاهرة المعز: قصائد التاريخ مسطورة على الحجر
ويتجلى في القاهرة الإسلامية عبر شوارعها وعلى عمائرها ومعالمها تاريخ أهل مصر وحكامها؛ فقد ذهب أصحاب المنازل والقصور، وزائري المساجد والقبور وبقيت البنايات الأثرية. وخير ما بقيت في قلب القاهرة الفاطمية وبالتحديد في شارع المعز لدين الله الفاطمي.
اعتمد تخطيط جوهر الصقلي لمدينة القاهرة على شارع رئيسي يمتد من باب الفتوح شمالا وحتى باب زويلة جنوبا، متوسطا جبل المقطم شرقا والخليج المصري غربا، ولم يكن غريبا أن يلخص هذا الشارع قصة القاهرة بأكملها منذ إنشائها وحتى الآن. أطلق عليه "المعز لدين الله" في عام 1937م تكريما لمنشئ مدينة القاهرة، عاصمة مصر.(1)
ولم يكن المؤرخون قد جانبوا الصواب حين أطلقوا عليه الشارع الأعظم والقصبة الكبرى، وعلى الرغم مما حكوا عنه وعن منشآته ومظاهر الحياة والحركة فيه مما يأخّذ اللب، ويحكي في صمت عن تطوره على مر العصور؛ فإن ما خلفته العصور الإسلامية به من عمائر ومنشآت وحارات ودروب وفنون وصناعات، خلقت منه كتابا مفتوحا يحكي عن شارع احتفظ بقيمته الحضارية لأكثر من ألف عام.
تتفرع عن شارع المعز مجموعة من الشوارع التي تستقي أهميتها وأصالتها من أصالة قصبة القاهرة، وتاريخها المسطور على العمائر والمنشآت على مر العصور الإسلامية المتلاحقة مثل الشارع الذي كان موضعا لصناعة السيوف في القاهرة: شارع السيوفية.
شارع السيوفية
هو أحد الشوارع المتفرعة عن شارع المعز لدين الله الفاطمي، سمي بهذا الاسم نسبة لورش السيوف التي كانت منتشرة به خلال العصر المملوكي، ويزخر بالعديد من الآثار الإسلامية المملوكية والعثمانية. ويبدأ هذا الشارع من تقاطع شارع محمد علي وينتهي عند تقاطعه مع شارع الصليبة.
كان مبدأ نشأة شارع السيوفية يوم كان جزءا من مدينة القطائع في العصر الطولوني، ثم شهد عمرانا ملموسا بالعصر الفاطمي، واستمر هذا العمران في الازدياد خلال العصر الأيوبي؛ فكانت تلك المنطقة عبارة عن بساتين تحيط ببركة الفيل.
وكان لبناء قلعة الجبل والسور الذي يحيط بالقاهرة في العصر الأيوبي أثر كبير في امتداد العمران بتلك المنطقة. وهكذا ابتدأ أمر شارع السيوفية كمنطقة سكنية جديدة عُمرت على أيام الأيوبيين، ثم ازدهرت كحي أرستقراطي يضم أفراد الطبقة الحاكمة وصفوة المماليك، ثم موضع سكن واهتمام بكوات العصر العثماني.
يختص هذا الشارع بتنوع زاخر في أنماط العمائر الإسلامية التي تشغله، على الرغم أن طوله لا يزيد عن كيلو متر على أكثر تقدير؛ فيحفل بوجود منشآت دينية كمسجد ألماس الحاجب وخانقاه أيديكن البندقداري، ومنشآت خدمية كالأسبلة والكتاتيب التي تعود لعصور مختلفة، وكذلك بالعمارة السكنية كالقصور المملوكية. وأهم ما يميز شارع السيوفية مجموعة التكية المولوية أو تكية الدراويش؛ الأثر الإسلامي الفريد الذي لا يوجد له نظير في مصر.(2)
مدرسة سنقر السعدي والتكية المولوية
تتعدد مسميات هذه المجموعة المعمارية الرائعة؛ فيطلق عليها السمع خانة أو تكية الدراويش أو التكية المولوية أو مدرسة سنقر السعدي أو قبة حسن صدقة، تحمل المدرسة رقم أثر مسجل 263. كانت المنشأة الرئيسية في هذا المجمع مملوكية الأصل، وقد بناها الأمير شمس الدين سنقر السعدى، نقيب المماليك السلطانية في عهد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في عام 715هـ/1315م، وكانت المجموعة المعمارية تضم مدرسة لتعليم القرآن، وقبة للدفن، ورباطا للنساء والأرامل.
وقد استخدم دراويش الطريقة المولوية في العصر العثماني هذه المجموعة لشعائرهم وأنشأوا بها قبة عرفت فيما بعد بالسمع خانة، تضم القبة ضريحا للشيخ العارف بالله حسن صدقة حفيد الشيخ ناصر الدين صدقة الذي دفن بالقبة، والذي كان واحدا من أبرز الدراويش في العصر العثماني، لذلك سميت بقبة حسن صدقة بالنسبة إلى الشيخ حسن صدقة المدفون بها.
أما بالنسبة للتكية المولوية فشيّدها الدراويش المولوية في القرن 11هـ/ 17م على أجزاء من بقايا قصر ومدرسة سنقر السعدي. كذلك أنشأ فيها "السماع خانة" على الطراز الباروكي العثماني. وتعد هذه حاليا التكية من أهم المعالم السياحية في القاهرة القديمة.
ولم يبق من الأثر المملوكي سوى المدخل والقبة والمئذنة، والقبة من الداخل تحوي تابوت مكتوب به اسم منشئ المدرسة وتاريخ الإنشاء 715 هجرية كما تضم القبة رفات الشيخ حسن صدقة.
|
قاعة السماع خانة – التكية المولوية |
أما عن تخطيط التكية فتتكون من أربعة أقسام، هي: منطقة الحجرات السكنية للطلبة وتحيط بها حديقة بنافورة في الوسط، ثم منطقة الإنشاد الديني والموسيقى والرقص الدوراني المولوي وهي "السماع خانة"، ثم منطقة المطبخ والمطعم، وأخيرا منطقة الاستقبال والمدخل الرئيسي. وبهذه المجموعة المعمارية تعد التكية واحدة من بين الآثار القليلة في العالم التي ما زالت تحتفظ بقطاعاتها المتعددة.(3)
قصر قوصون – يشبك من مهدي- آق البردي (القرن 14-16م) المجاور لمدرسة سنقر السعدي
يقع شرق مجموعة سنقر السعدي ومجاور لها، وتطل التكية حاليا على بقايا قصر الأمير قوصون، نديم السلطان الناصر محمد، وكان قصره أفخم منشآت القاهرة المملوكية، وقد أنشأه سنة 738 هـ /1338م الأمير قوصون الساقي، وسكن فيه مدة حياته، ويعرفه عامة الناس باسم حوش بردق. وآلت ملكية القصر بعد ذلك إلـى الأمير يشبك من مهدي أحد أمراء السلطان قايتباى. ثم آلت كل منطقة القصر بالإضافة إلى مجموعة سنقر السعدي إلى الدراويش المولوية في القرن 17م.(4)
قصر الأمير طاز
من المؤسف أنه لم يبق من قصور العصر المملوكي قصر يحتفظ بجميع مكوناته وعناصره المعمارية، ولا تزال بعض القصور المملوكية تحتفظ بجانب من عمارتها الباقية؛ مثل قصر الأمير طاز، والذي أنشأه الأمير سيف الدين طاز بن قطغاج عام 753هـ/1352م، أحد أكابر الأمراء في عهد السلطان الناصر حسن، ويعود لعهد دولة المماليك البحرية، ومسجل برقم أثر 267.
صار هذا القصر بعد وفاة منشئه سكنا لغيره حتى تخرب، كما استخدم كمخزن للعتاد الحربي في زمن محمد علي باشا، ثم استعمل القصر كمدرسة للبنات (مدرسة الحلمية الثانوية) بناء على أمر من الخديوي إسماعيل باشا في عام (1308هـ/ 1871م)، إلى أن هُجر وصار بعد ذلك تابعا لوزارة الأوقاف، ثم تحول لمخازن تابعة لوزارة التربية والتعليم.
ولاحقا نظرا للتدهور الشديد الذي عانى منه القصر، وبخاصة بسبب تأثره بزلزال أكتوبر 1992م؛ فقد قامت وزارة الآثار بترميم القصر وإعادة افتتاحه بشكل لائق. وقد استغلت وزارة الآثار هذا القصر بأن أعادت تهيئته ليصبح حاليا "مركز الإبداع الفني"، ليقام به فعاليات فنية وثقافية مختلفة، ومعرض "روائع المماليك" الذي يعرض جانبا من تراث حكام وأمراء دولة المماليك في مصر.(5)
|
فناء قصر طاز والمقعد الصيفي الباقي |
وكان هذا القصر عند إنشائه يتكون من فناء أوسط كبير خُصص كحديقة للقصر، تتوزع حوله عناصر القصر وأهمها جناح الحرملك والمقعد والإسطبل. ولم يتبق من القصر الآن إلا الواجهتان (الرئيسية المطلة على شارع السيوفية، والخلفية التي تطل على درب الميضأة "حارة الشيخ خليل") والمقعد، وهم من تجديدات علي أغا دار السعادة في العصر العثماني. وقد تهدمت أغلب بقايا قاعات الحرملك، بالإضافة إلى وجود بعض القاعات المستحدثة التي استخدمت كمخازن أو قاعات دراسية.
مسجد الأمير الماس الحاجب
أنشأه الأمير سيف الدين ألماس الحاجب عام 730هـ/ 1330م، أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، ويحمل رقم أثر 130. يقع المسجد بشارع السيوفية ناحية القلعة، ويطل بواجهتين علي شارع السيوفية بالحلمية، إحداهما بحرية تسودها البساطة وبها الباب الجانبي، والأخرى غربية وهي الواجهة الرئيسية.
|
مسجد ألماس الحاجب من الداخل |
وتتألف عمارة المسجد الداخلية من صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة أكبرها رواق القبلة، والأروقة محمولة على أعمدة رخامية منقولة من عمائر قديمة. ويتوسط جدار القبلة محراب مغطى بالرخام الملون، وتشغل القبة الركن الغربي البحري من الجامع. وفي نهاية رواق القبلة توجد دكة المبلغ، وهي من الرخام ومحمولة على أعمدة رخامية، وهي أول ظهور لهذا النوع من دكك المبلغ الرخامية التي شاعت في العصر المملوكي.(6)
خانقاه علاء الدين أيديكن البندقدارى (زاوية الآبار)
أنشأها الأمير أيديكن علاء الدين عام 730ه/ 1330م، أحد أمراء السلطان الظاهر بيبرس البندقداري لذا لقب بـ "البندقداري"، ويحمل رقم أثر 146. وتتكون تلك الخانقاه من قبتين؛ الأولى تطل واجهتها على شارع السيوفية ويوجد أسفلها قبر الأمير علاء الدين، ويعلوها تابوت خشبي حُفر عليه تاريخ وفاته. والثانية تقع خلفها، ويرجح أن علاء الدين أنشأها لزوجته، وتستخدم كقبة دفن ضريحية للنساء، ويفصل بينهما مساحة للصلاة وخانقاه للصوفية.(7)
سبيل أغا دار السعادة الشهير بـ "القزلار"
أنشأ هذا السبيل مصطفى أغا عبد الرحيم أغا دار السعادة في عام 1028هـ / 1618م، وكلمة كيزلار: معناها في اللغة التركية "البنات"، وحُرّفت في العربية الى قزلار. وأغا ادار السعادة: لقب تركي وظيفي مركب من كلمة أغا بمعنى كبير ورئيس، ودار السعادة تشير إلى أجنحة الحريم وسيدات القصر في العاصمة العثمانية الآستانة.
ويعني لقب أغا دار السعادة رئيس الطواشية المكلفين بحراسة وإدارة أجنحة سكن الحريم وسيدات القصر.(8) وكان يشغل هذا المنصب الأغوات السود. والسّبيل مُلحق بحوش وخمس حوانيت يعلوه كّتاب لتعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة وعلوم القرآن الكريم. وللسبيل والكتّاب مدخل على الشارع، إلى يساره يوجد بابان أحدهما يؤدى السبيل والثاني يؤدى إلى سلم صاعد إلى الكتّاب. ويمتد المدخل حتى يوصل إلى الحوش الملحق به السبيل.(9)
سبيل أم عباس
يعد سبيل أم عباس (1284هـ/1867م) أحد أشهر الأسبلة بمدينة القاهرة، ويقع في تقاطع شارع السيوفية مع شارع الصليبة بمنطقة الخليفة. بنته "بنبي قادن" هانم والدة الخديوي عباس باشا الأول وزوجة الأمير أحمد طوسون باشا. أوقف الخديوي عباس حاكم مصر هذا السبيل على اسم والدته، ليشرب منه الناس الماء المبّرد والمحلى بماء الزهر والورد. كما يعد هذا السبيل من أهم وأندر الأسبلة في مصر حيث تتخذ واجهته تخطيط مثمن الأضلاع، ويحمل زخارف الفن المعماري العثماني والأوربي. كما يحمل كتابات قرآنية بخط الخطاط التركي الشهير عبد الله بك زهدي. وقد ألحق بهذا السبيل كتّاب لتعليم الأطفال القرآن الكريم.(10)
وهكذا ظلت تسمية شارع السيوفية تشير لصناعة من زمن مضى: صناعة السيوف في العصر المملوكي التي اندثرت بالكلية، وبقت الآثار التي شهدت على أحداث هذا الشارع وتعاقب الزمان على عمارته، والتي بقيت تحتفظ بعبق وذكرى أصحابها، لتهديها لنا مسطورة على قصائد من الحجر، بين مسجد وقصر وسبيل وكتّاب وتكية وخانقاه للصوفية، مفردات العمارة الإسلامية التي اجتمعت سويا في شارع السيوفية بقاهرة المعز.
= = =
مراجع الدراسة
(1) عبد الرحمن زكي، موسوعة مدينة القاهرة في ألف عام، القاهرة: مكتب الأنجلو المصرية، 1987، ص 142.
(2) محمد إبراهيم عكاشة، شارع السيوفية بمدينة القاهرة منذ نشأته وحتى نهاية العصر العثماني، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب- جامعة جنوب الوادي، 1998، ص 17-26.
(3) مدرسة سنقر السعدى والمتحف المولوي، المركز الإيطالي المصري للترميم والآثار، المجلس الأعلى للآثار، القاهرة، 2002، ص 14-15، 19؛
Giuseppe Fanfoni, The Foundation and Organization of The Cairo Mawlawiyya, Quaderni di Studi Arabi, Vol. 17 (1999), p. 105.
(4) حسن عبد الوهاب، بين الآثار الإسلامية، د.ن.، د.ت.، ص 51.
(5) قصر الأمير طاز والمنطقة المحيطة، القاهرة: المجلس الأعلى للآثار، 2000، ص 16-18؛ عبد الرحمن زكي، موسوعة مدينة القاهرة، ص 208.
(6) عبد الرحمن زكي، موسوعة مدينة القاهرة، 295-296.
(7) علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، جزء 6، القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1987، ص 43.
(8) ماجدة مخلوف، الحريم في القصر العثماني، القاهرة، 1998، ص 14.
(9) محمود الحسيني، الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة (1517-1798م)، القاهرة، 1988، ص 135-136، 452، 357.
(10) علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر، ص 169.