عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

الغادية


فنار عبد الغنيجسدها الهزيل العجوز، الناتئ العظام، ذو الحدبة الضخمة البارزة، يتقدمنا جميعا. الداني منها يرى الحدبة الضخمة كجبل عظمي صغير، وهي تسير ببطء شديد، تقدم خطوة قبل الأخرى، فيتحرك الجبل العظمي ببطء. هي والحدبة تظهران كجبل هزيل، مركب من كتلتين عظميتين، تعلو إحداهما الأخرى، تتحركان معا وتتوقفان معا وتتقدمان معا وتعرقلان حركة الشارع.

هي جبلان بشريان يتوسطان الشارع الرئيسي في المخيم الذي يكون كعادته في مثل هذا الوقت، مزدحما بالمارّة من عمال بؤساء يسارعون الخطى للوصول إلى ورش أعمالهم قبل بزوغ الشمس، وطلبة صغار وكبار ترتسم على وجوههم صفرة لا تفارقهم، يمشون وهم يتثاءبون، يحفظون معالم الشارع ظهرا عن قلب، فلا يخطئون مواقع الحفر، أو البقع الموحلة، أو الحجارة المتكومة.

كان الشارع المزدحم لا يخلو أيضا من بعض المارّة من الموظفين، وهم فئة محدودة العدد، يُعرفون من ملابسهم النظيفة والمرتبة بعض الشيء. لقد سدت العجوز الطريق الوحيد، الضيق، المزدحم بالكتل البشرية وعربات الخبز والخضار. استطاع جسدها النحيل المتكئ على عصا سميكة، يطرق بها حجارة الشارع المبعثرة، أن يسد الطريق ويعطل حركة الناس والعربات.

ما الذي دفع بهذا الجسد الهزيل الذي لا زالت تدبُّ فيه الحياة للخروج من داره في هذه الساعة المبكرة؟

لم يكن هذا يوم موعد استلام المؤونة الشهرية من مكتب الإغاثة، ففي العادة يبلغون سكان المخيم عبر مكبرات الصوت وقبل يوم أو يومين من موعد توزيع المساعدات الغذائية. ربما كانت متوجهة نحو عيادة اللاجئين لاستلام أدويتها الشهرية، لكنها لا تحمل كيسا، أو لعلها علقته في عنقها كما تعلق مفتاح دارها، وهي عادة منتشرة لدى العجائز الفلسطينيات، متوارثة عن الأسلاف.

هل تشعر بألم ما في جسدها الهزيل الذي تحمّل أصنافا وألوانا من القهر؟ وهل لا يزال يشعر جسدها الذي تجاوز عمر النكبة بأي من الآلام؟ وهل هناك ألم أقوى من ألم النكبة؟ أي ألم أخرجها وحيدة من دارها في مثل هذه الساعة؟ وإلى أين تتوجه؟

إن نكبة سنة 1948 قد ألغت الإحساس بأي وقت. الزمن قد اضطرب عندها، وجعل كل الأشياء تهرم دفعة واحدة، وتسرق لدى الفلسطينيين الإحساس الحقيقي تجاه ما يعيشونه. الشتات والضياع هما العنوانان الصارخان في حياة كل من لجأ من الفلسطينيين.

قد تجد لاجئ يضحك وهو غارق في الألم، أو يخطط لتنفيذ عمل ما وهو لا يملك القدرة المادية أو الفكرية، وفي الغالب ترى كثيرا من اللاجئين يعيشون ضياعا ذاتيا يخلعهم عن أنفسهم ويسيرهم دون إرادة منهم.

وهذه العجوز يُخيل إليّ أنّها تمشي منذ ثمان وستين سنة، تحمل في جمجمتها المهترئة الآلام الأشد قسوة على النفس. تمشي ببطء شديد، بالكاد تتحرك، تعلوها الحدبة، ثم تعلو الحدبة عنق متحجر، تعلوه الجمجمة المهترئة التي تعج بصنوف القهر، وتحبس في صدرها قلبا لا زال ينبض بالحياة.

كم تختزن في ذلك الصدر من آهات! ربما تنتظر أن يأتيها الموت لتخرج كل تلك الآهات الحبيسة بشهقة واحدة، تنطلق دفعة واحدة، فتنقذ روحها المتعبة. لماذا غادرت دارها مبكرة؟ أمن أجل أن تـنقل قدميها ببطء وتعرقل حركة المارين؟

لكن لماذا عليها أن تعجل خطاها؟ كل العالم من حولها جامد وعاجز، لا قلب يحركه، ولا ضمير يخزه. بالطبع، هي كانت تمشي وتتحرك فيما مضى بحيوية حتى أتاها يومٌ أدركت فيه أنه لا فائدة من العجلة، ورغم ذلك بقيت تمشي على قدميها حاملة عصاها، فالمشي قدما خير من الجمود الذ ي يحمل معه علامات النهاية الوشيكة.

هي لا تريد أن تشعر بالعجز يتسرب إلى ذاتها. تقوم في ساعة مبكرة من الصباح، تخرج من دارها كما يخرج العمال والطلبة والموظفون وغيرهم.

بدأ الناس من خلفها بالتذمر والتأفف، ربما لا زالت تحتفظ بسمعها وسمعت التنهيدات والتأفف، وأرادت إفهامهم أنه لا فائدة من الاستعجال.

بالتأكيد هي مشت في حياتها أكثر من أي شخص منهم ولا زالت تمشي ولم تحصد من حركتها شيئا ذا أهمية إلا احتفاظها بالإرادة الحيّة التي جعلتها تتخطى العجز والقهر، وتخرج من دارها لتقول:

"نعم، أنا هنا. ولا زلت موجودة رغم الشتات والضياع وصنوف القهر التي لا تنتهي".

لماذا تبطئ؟ ولماذا نحن على عجلة من أمرنا؟

لا أحد يمكنه توجيه اللوم لها. هي تريد أن تزج بنفسها وسط الأحياء، لتثبت لهم أنها رغم بلوغها الشيخوخة تستطيع فعي شيء ما، حتى ولو كان سد الطريق.

هي تسمعنا بلا شك، وإلا لماذا تطرق الأرض بعصاها كلما سمعت تذمر وتأفف الذين يقفون خلفها.

ولأنها سمعت أحد المنتظرين يستفسر عن سبب هذه العرقلة الصباحية بنبرة عالية وخالية من الصبر، أدارت جسدها إلى الخلف وعدّلت من قامتها بكثير من الجهد، لتريه وجهها ذا العينين المفقودتين.

عود الند تبدأ عامها 12

D 1 حزيران (يونيو) 2017     A فنار عبد الغني     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • عدت بي إلى أيام طفولتي، عندما كنت أدرس بمدارس الغوث، وأمر بزواريب مخيم اللاجئين الفلسطينيين في الزرقاء، وهي مزدحمة بطلاب المدارس، وسكان المخيم، ومن سارعوا للذهاب إلى الوكالة لأخذ العلاج، ومن ذهبوا لأخذ المؤن الشهرية.

    لا زالت تلك الذكريات تعيش بذاكرتي، رغم أني لم أعش في تلك المخيمات إلا أني أكلت من خبزههم ولامست أوجاع وطني فلسطين من خلال ذاكرتهم.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 05: عود الند تبدأ عامها 12

مبادرة خطوات نَحْوَ التَّمَيُّز

شارع السيوفية بقاهرة المعز

أنفاس الذاكرة: العالية: تاريخ وآثار وحنين

بنية الزمن في المجموعة القصصية بهية لمرزاق بقطاش