طه بونيني - الجزائر
الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ
نادرون هم من يدركون حجم الثقافة والتاريخ والفنّ الموجود في ذلك المستطيل الصغير الذي نُلصقه في أظرفتنا البريدية قبل إرسالها.
أوّل طابع بريدي صَدر في بريطانيا (The Penny Black) يوم 1 ماي 1840. ومنذ ذلك الحين تطوّرت الطوابع البريدية فصارت لها أحجام مختلفة، ومواضيع متنوّعة فلم تعُد ذات شكل واحد بل اتّخذت أشكالا كثيرة، ولم تعد تقتصر موضوعاتها على صور العائلة الحاكمة، كرمز الملكة في الطابع الأوّل المذكور، بل صارت متحفا لثقافة البلد كلّها. فلو تتبّعتَ طوابع بلدٍ ما عبر السنين، لوجدتَها تحكي كفاح ذلك البلد، وتسردُ قصصه وتعرض صور شخصياته الفذّة، وتروي عاداته وتقاليده.
تحمِل طابعا بريديا فتجدُ صورة زربِيَّة مُزخرفة أو فخّارا مُزركشا، وتحمل آخر فتجدُ صورةً لفنّان أو كاتب خلّد اسمه بين سطور تاريخ هذا البلد، أو قد تجدُ صورةً لمعلم أثري تتواجد في إحدى مناطق هذا البلد، إلى آخره.
باختصار، الطوابع البريدية تعرضُ أجملَ ما يودُ هذا البلد إظهاره والاحتفاء به أمام العالم. فالطابع البريدي يسافر مع الرسالة حيثما حلّت وارتحلت داخل الوطن أو خارجه. وفِي الجزائر لدينا تعبير شعبي، بحيث يُقال للوجه المألوف: "أنت مثل الطابع البريدي"، أي في انتشاره وذيع صيته.
ولذا فهو خير سفير لهذا البلد. سفير تتلخّص دبلوماسيته في مدى ما تستوعبه تلك الميليمترات المُربّعة، من ثقافة وفنّ وتاريخ وإبداع.
طابع صادر سنة 2017، موضوعه إنساني وهو التبرع بالدم |
أتذكّر أوّل مرّة وصلتني فيها رسالة تحمل طوابع بريدية، من طرف شخص يُشاركني هذه الهواية، عن طريق المراسلة. لا أتذكّر البلد بالضبط، لكنّي لم أنسَ ذلك الشعور الساحر، الذي تمتلكه المراسلة البريدية، فضلا عن استلام مجموعة من الطوابع أو غيرها.
تعتبر الطوابع البريدية لدى هواةُ جمعِها عُملةً يتقبّلونها جميعا، ولُغةً يفهمونها كلّهم، وكنزا يتنقّل داخل ظرف صغير. كثيرا ما كانت تصلني طوابع لبلدان لا تكاد تظهر على خريطة العالم، لكنّ طوابعها تصرخ بالوجود. بل ما لاحظتُه أنّ هذه البلدان الصغيرة المغمورة وسط المحيطات، هي التي تبذل جهدا أكبر في إصدارها للطوابع البريدية.
تنظرُ إلى مجسّم الكرة الأرضية فترى بلداً مثل غرينلاند، يغمره الجليد، فتقول: هل تدبّ في هذه الأرض حياة؟ ثمّ يصلُك طابع بريدي فتهبُّ على خيالك نسماتٌ من ذلك البلد نابضة بالحياة في أسمى معانيها.
تثقّف بالطوابع
بإمكانك أن تضع طابعا بريديا وتفحصه بعينك المُجردة أو بوساطة عدسة مكبّرة، فكأنّك تقرأ كتابا أو تفتح نافذة على ذلك البلد. فإذا درستَ مواضيع الطوابع البريدية لبلد ما كوّنت فكرة عميقة حول هذا البلد.
في الحقيقة ليس عالمُ الطوابع حكراً على الرسائل بل هو عِلم وميدان واسع: (Philatélie) باللغة الفرنسية. وله مصنّفاته وخصائصه وإصداراته وقواعده، وموضوعاته. فالمجال الحيوي للطابع البريدي يعدو الظرف والرسالة إلى أبعد من ذلك، بل جمعُها يُعدُّ هواية قائمة بذاتها. ومن الناس من يُعنى بها عناية شديدة، ويعتبر ما بحوزته من طوابع وبطاقات بريدية، ورسائل أوّل يوم إصدار (lettre 1er jour d’émission)، مفخرةً وكنزاً.
أمّا رسالة أول يوم للإصدار فهي تأخذ مظاهر عدّة أشهرها ظرف بريدي يحمل داخله (أو على ظهره الطوابع الصادرة حينها، وعليها ختم المركز البريدي. وهي تُرافق صدور الطابع البريدي.
رسالة أول يوم إصدار بمناسبة إعلان قيام دولة فلسطين، وقد صدر الطابع يوم: 15 نوفمبر 1988. |
والبطاقة البريدية، هي ذلك التذكار الذي تُرسله لصديق أو قريب من مكانٍ تزوره، مع كتابة كلمة، تكون بمثابة تحيّة تصله من مكان عزيز على قلبكما معا، أو لمجرّد التعبير على أنّك لم تنسَه حتّى في أبعد المناطق وأكثرها جمالا.
الطابع البريدي يقاوم
ربّما نتّفق جميعا، على أنّ كلّا من الطابع البريدي والبطاقة البريدية، قد عرفا أزمنة ذهبية، أمّا في زمن الأنترنت والهاتف النقال، فقد صار كلاهما أشبه بالأشياء التقليدية، أو على الأقل قد قلَّ استعمالهما، لكن مع ذلك، لا غنى عنهما عند هواة الطوابع، والمراسلة البريدية، والكثير من الناس لا يزالون يرون في البريد العادي نكهة خاصّة لا تُعوّضها سرعة اتصالات اليوم، وتكنولوجيا الحاضر. تماماً مثلما لم تَقضِ التكنولوجيا على الكتاب.
= = =
=1= يمكن الاطلاع على هذا الطابع وغيره من الطوابع البريدية الجزائرية، من خلال الموقع: poste.dz
=2= صورة لرسالة أول يوم إصدار مأخوذة من مجموعتي الخاصة.
◄ طه بونيني
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, فنار عبد الغني | 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 - 17:45 1
الموضوع شيق والطرح جيد ومثير للذاكرة ويفتح باب الحنين لايام الطفولة البريئة.طبعا لازالت أفكاري وروحي أيضأ بريئة من التلوث المادي والفكري،لقد اثارت حنيني ولهفتي لأيام ولت كنت أجمع فيهاالطوابع من رسائل الأقرباء واحتفظ بها في علبة اختفت كما تختفي الأشياء الجميلة من حولنا لكن تبقى بصماتها في القلب تقاوم مغريات العالم الجديد.
1. الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017, 17:45, ::::: بونيني طه/الجزائر
شكرا على التعليق. إنّه من الجميل أن تُحيي مقالتي ذلك الشغف، وتلك الذكريات في نفسك. فمن الجميل أن تعيش ذلك النوع من الذكريات، وإنما أقصد الذكريات المتعلقة بالمراسلة البريدي، وكل الهوايات التي كانت متاحة قبل أن تغزو الانترنت ووسائل الاتصال عقول الناس وقلوبهم...تلك الرسالة وذلك الظرف البريدي، كان جديرا بفتح خيالنا على العالم، على بساطته، وطول الأمد الذي يأخذه نحو المرسل إليه،بشكل أرقى وأفضل من وسائل اليوم المتطورة.
الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, يوسف ـ الجزائر | 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 - 17:10 2
وأنا أقرأ هذه المقالة الممتعة " الطابع البريدي، سفير الثقافة والفن " ، تذكرت أياما خلت، كنا فعلا نحب ونستطلع كل ما له صلة بالثقافة والمعرفة.
كم كانت سعادتي كبيرة ، وأنا أقتني من بعض الباعة بالقاهرة في 2011 ، طابعا بريديا للدكاترة " زكي مبارك".
هذا وأغتنم هذه الفرصة لأقول أني لم أصادف على الإطلاق من يهتم بجمع الطوابع الجبائية، في حين تعتبر هاته الطوابع معنية بعملية جمع الطوابع عرفا!.
شكرا لصاحب هذا الموضوع ، فالظاهر أنه مولع بجمع الطوابع إلى جانب كتابته للمقالة والقصة.
1. الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, 6 كانون الأول (ديسمبر) 2017, 07:41, ::::: بونيني طه/الجزائر
شكرا يا سيدي على التعليق. المثال الذي ضربته، بالطابع الذي أُصدر عن الملاكم الأدبي زكي مبارك، إنما هو دليل على أنه رمز من رموز مصر وأدبها وثقافتها. وهذا ما يرمز إليه الطابع البريدي، فهو يحمل شعلة الثقافة ولا يضعها أبدا، مهما مر الزمان. فالطوابع منذ أنشأت لا تزال موجودة لدى جامعيها ومحبيها، وكلما قل هذا الطابع، وطال الامد عن يوم صدوره، زادت قيمته، مما يجعل الثقافة التي بين أضلاعه المربعة، خالدة.
أما عن الطوابع الجبائية، فهي في الحقيقة، لا غرض لها غير الجباية نفسها، وهي لا تؤدي نفس الغرض الذي يؤديه الطابع. وقد نجد ربما من يختص فيها. تحياتي وشكرا.
الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, معتز الجزائر | 8 كانون الأول (ديسمبر) 2017 - 16:40 3
لم اهتم يوما بموضوع الطوابع البريدية ،رغم انني كنت من هواة التراسل،في زمن الجمال..لكن عالم المقال الساحر شوقني للتمتع باللوحات التي وضعت بين اضلاع ذلك المستطيل المفعم بالثقافة والتاريخ والفن كما تصف..احسنت الوصف و أبدعت في جذب القلوب للاهتمام بهذا الفن الجميل..تحياتي اخي المبدع طه.
1. الطابع البريدي: سفير الثقافة والفنّ, 18 كانون الأول (ديسمبر) 2017, 14:02, ::::: بونيني طه/الجزائر
سعدتُ بتعليقك. شكرا سيّدي