الصفحة الأخيرة - عدلي الهواري
القضية الفلسطينية: كيف الخروج من الطريق المسدود؟
ملف: شؤون فلسطينية 2017
بالخروج من بيروت انتهى أيضا دور منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف)، وأي دعوات إلى تفعليها تدل في رأيي على عدم استيعاب المرحلة التي تُوجت بالخروج من بيروت. لقد ناضل الشعب الفلسطيني وضحى كثيرا من أجل أن تحصل م ت ف على صفة الممثل الشرعي والوحيد. ولكن التطبيقات العملية لهذه الصفة ظلت مشوبة بالتعقيدات، فالحصول على هذه الصفة كان في واد، والتمثيل الحقيقي ظلّ في واد آخر، فعلى سبيل المثال، كيف يكون تمثيل الفلسطينيين الذين يحملون جنسيات دول أخرى.
طبعا الغاية من الحصول على صفة الممثل الشرعي الوحيد كانت سحب المتاجرة بالقضية من أيدي الأنظمة العربية، وسحبها أيضا من أيدي شخصيات فلسطينية مستعدة للتعاون مع إسرائيل في التوصل إلى حل يكون وفق التصورات الإسرائيلية، التي أنشأت ما سمي «روابط القرى» وكانت تسعى إلى التعاون مع رؤساء بلديات من أجل التوصل إلى حلول سقفها كان دائما حكما ذاتيا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن المؤكد أيضا أن أمل قيادة م ت ف كان تحول اعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا إلى اعتراف دولي يجعلها طرفا في الجهود الهادفة إلى التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. وقد نالت م ت ف اعترافا من العديد من الدول، وتم فتح سفارات، وحصلت م ت ف على صفة مراقب في الأمم المتحدة. ولكن هذا الاعتراف لم يتوج بتحول م ت ف إلى طرف مقبول في محاولات التوصل إلى تسوية بسبب عدم الاعتراف الإسرائيلي والأميركي بالمنظمة.
كان من نتائج اعتبار م ت ف ممثلا شرعيا وحيدا اختزال هذه الصفة وهذا الحق في شخص رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، وخاصة بعد انفجار الخلاف داخل حركة فتح في عام 1983. من الأمثلة على ذلك، ما ورد في تعميم أصدرته الهيئة التنفيذية لعموم فروع الاتحاد العام لطلبة فلسطين يحمل تاريخ 24/8/1983 عن جولة لوفد من الهيئة في بعض الدول الأفريقية. وقد جاء في التعميم:
«وأكدت المنظمات الأفريقية خلال المباحثات دعمها وتأييدها الكاملين لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد بقيادة الأخ أبو عمار وأدانت التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للمنظمة وعبرت عن وقوفها لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني».
إن تمثيل هيئة لشعب ما لا يرتبط بشخص رئيس الهيئة، وإذا حصل ذلك تتقلص الصفة التمثيلية كثيرا إذا لم تصبح لاغية عمليا. وفي نهاية المطاف، اختفى الاختلاف بين أن تكون م ت ف ورئيس لجنتها التنفيذية، عرفات، الممثل الشرعي الوحيد.
توجه أحيانا انتقادات إلى مسألة استقلال القرار الفلسطيني، وبعضه مشروع بالتأكيد، وخاصة عندما ينظر للأمر من ناحية الممارسات العملية التي تختزل م ت ف في شخص رئيس لجنتها التنفيذية، الذي كان أسلوبه القيادي عرضة للانتقادات حتى في أحسن الأوقات التي مرت فيها المنظمة. أما عندما تذهب الانتقادات إلى أبعد من ذلك، واعتبار مسألة استقلال القرار برمتها خطأ، فإن الانتقادات تتجاوز حدود المعقول، فالمؤكد أن القضية الفلسطينية تضررت بسبب تعدد الجهات التي فرضت وصايتها على الشعب الفلسطيني. والحقائق في هذا الشأن واضحة منذ كانت فلسطين خاضعة للاستعمار البريطاني.
ومثلما لم يكن المقصود من حصول م ت ف على صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني أن يختزل ذلك في شخص رئيس لجنتها التنفيذية في ذلك الحين، لم يكن المقصود من استقلال القرار الفلسطيني وضعه في تصرف شخص واحد أيضا ليفعل به ما يريد باسم الاستقلالية.
ولكن مناقشة هذه التفاصيل يجب ألا تنسينا المسألة الأكبر التي أناقشها هنا، وهي انتهاء دور م ت ف بعد خروج المقاتلين والقيادة من بيروت، فالقرار فيها اختزل في شخص واحد، وبعد التوصل إلى اتفاق أوسلو أنشئت السلطة الفلسطينية التي تدير حكما ذاتيا محدودا. وأصبحت م ت ف كيانا أجوف. والدعوات إلى تفعيل دور م ت ف ستؤدي في حال نجاحها المشكوك فيه كثيرا إلى إعادة إنتاج التجربة التي فشلت في الماضي.
هناك أسئلة عملية سوف تطرح نفسها من قبيل قوات جيش التحرير الفلسطيني. ليس لدي إجابات عن الأسئلة المشروعة، والنقاش حولها مسؤولية جماعية. ولكن بناء على التحليل المنطقي لما آلت إليه تجربة م ت ف ووضعها الحالي، من غير المعقول العودة إلى صيغ وهياكل من الماضي، وخاصة أنها لم تكن ناجحة إلا جزئيا ولفترة محدودة.
الشعب الفلسطيني بحاجة هذه الأيام إلى صيغة جديدة تمكنه من مواصلة النضال. قد تكون صيغة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا مناسبة، فالمؤتمر الوطني الأفريقي كان تجمعا لقوى مختلفة، وكان للمؤتمر جناح عسكري، واعتمد النضال أيضا على مقاطعة نظام التفرقة العنصرية، حيث أفلحت حركة سحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا في حمل النظام العنصري على التفاوض مع القائد السجين، نيلسون مانديلا، على نظام جديد قائم على المساواة.
تجربة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية وغيرها من تجارب سيكون فيها دروس مفيدة للنضال الفلسطيني، ولكن استنساخ التجارب خطوة غير حكيمة، ومن الممكن أن يحصل تطبيق مشوه لتجربة ما، فالاكتفاء بالمقاطعة على سبيل المثال لن يكفي. والاكتفاء بالكفاح المسلح لن يكفي، وهو كما مورس في الماضي لم يكن السبيل الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين كما قال الشعار.
والمقاطعة إذا نجحت ذات يوم كما نجحت في جنوب أفريقيا، ستظل هياكل التحكم بالاقتصاد والمال على حالها، وسيظل الفلسطينيون مواطنين يتمتعون بحقوق متساوية ظاهريا، ولكن الفقر سيظل منتشرا، وسيكون هناك تفاوت كبير بينهم وبين من كانوا مسيطرين عليهم.
هل سينتصر الشعب الفلسطيني في نضاله ذات يوم، ويتحرر من الاحتلال، ويعود اللاجئون إلى مدنهم وقراهم؟
كان الحديث عن تحرير فلسطين يتم على أساس أن هذا حتمية تاريخية. ولكن حذار من التعويل على الحتميات التاريخية. لا شيء حتميا في التاريخ. وهناك أناس يؤمنون بأن النصر سوف يتحقق ولو بعد زمن طويل، ودليلهم على ذلك من التاريخ، ممثلا بتحرير القدس من الصليبيين بعد نحو مئة سنة. رغم أن هذا المثال من التاريخ مهم، ولكن ما حدث يوما في التاريخ قد لا يتكرر، فكل عصر له ظروفه.
في ظاهر الأمور، تبدو احتمالات انتصار الأمر الواقع انتصارا نهائيا قوية جدا، فهناك سلطة فلسطينية حريصة على علاقة ودية مع الاحتلال الإسرائيلي؛ وقطاع غزة محاصر منذ سنوات؛ والأوضاع العربية تدهورت كثيرا بعدما بشرت التطورات في نهاية عام 2010 وبداية 2011 بأن الدول العربية مقبلة على تغيير يحرر الجماهير المقموعة. ولكن قوى الثورة المضادة تحركت وأجهضت ما جرى، وسعت إلى تغيير أنظمة أخرى. ولم تعد تحاول إخفاء استعدادها للتعاون مع إسرائيل.
بعبارة أخرى، الخروج من الأوضاع الراهنة مليء بالصعوبات، ولكن هذه ليست دعوة للاستسلام للأمر الواقع، فتواريخ الشعوب مليئة بالأمثلة على النهوض رغم صعوبة الظروف، والنهوض مرتبط دائما بقوى طليعية تقتنع أغلبية الشعب بأنها تعمل من أجل تحقيق أهدافه في التحرر من الاحتلال والهيمنة.
في العدد 104 من مجلة «شؤون فلسطينية» (تموز 1980)، يروي ممثل م ت ف في لبنان، شفيق الحوت، تفاصيل نقاش حدث في ندوة عقدت له في جامعة هارفارد الأميركية في نيسان 1979. ويشير إلى نقطة مهمة أثارها في الندوة أستاذ بولوني (بولندي) لم يُذكر اسمه في مقالة الحوت. ومن الواضح أن الحوت أدرك أهمية النقطة التي أثارها الأستاذ، بدليل الإشارة إليها في بداية المقالة. وهي نقطة تجعل التفاؤل بانتصار الشعب الفلسطيني قائما على أسس واقعية. قال الأستاذ البولندي:
«أنا واثق بأن شعب فلسطين، مثل أي شعب آخر في هذا الكوكب، يعشق حريته وحقه في سيادة نفسه. وبالتالي فهو ضد الاحتلال الإسرائيلي ولا يمكن أن يستسلم له مهما تعرض لأنواع القمع الجماعي والإرهاب المنظم الذي تقوم به إسرائيل. فمهما فعلت إسرائيل، فإنها لن تتفوق على من سبقها من قوى النازية والعنصرية وكل الأيديولوجيات الاستعمارية. وفي النهاية، لا بد للشعب الفلسطيني من أن ينتصر وأن ينتزع حقوقه الوطنية والإنسانية. ومن هذا الفهم أريد أن أطرح سؤالا محددا يتعلق بما يعرف بـ«النضال الجماهيري» [...] مع كل التقدير لظروفكم النضالية، فإني أشعر أحيانا بأن منظمة التحرير الفلسطينية لم تعط هذا البعد النضالي ما يستحقه من عناية واهتمام. وهو في رأيي بُعـد لا يقل أهمية عن النضال المسلح والنضال السياسي وكل أنواع النضالات الأخرى. أكثر من ذلك، أنا من المؤمنين بأن النضال الجماهيري[1] هو أب هذه النضالات جميعها» (ص 4-5).
هذا تفاؤل واقعي غير معتمد على حتميات تاريخية، ولا على نبوءات دينية، وإنما على نضال جماعي. وهو أيضا مناقض لمنطق الاستسلام والقبول بالأمر الواقع. ولكن لا تزال هناك حاجة ماسة إلى حوارات حول أفضل السبل للخروج من الواقع المحبط الراهن. وللأسف أدت وسائل الإعلام الاجتماعي إلى زيادة النزعة الفردية، واعتقاد أن للحملات على صفحات الإعلام الاجتماعي مفعولا سحريا، مثل تغيير الأنظمة. ورغم أهمية الإعلام الاجتماعي كمنبر بديل لإيصال معلومات لا تنقلها وسائل الإعلام التقليدية، إلا أنه ليس البديل للعمل الجماعي المنظم، وبدون هذا لا يحدث تغيير على أرض الواقع.
ومثلما نجحت منظمات المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967 في تحدي الأمر الواقع، وتحقيق حالة من الالتفاف الجماهيري المبهر حول المقاومة، سيمكن لهيكل أو هياكل جديدة تحقيق نجاح مماثل، ولكن من المؤكد أن كسب ثقة الجماهير سوف يحتاج إلى جهود كبيرة وأسلوب مختلف في التعامل معها. ورغم صعوبة الظروف وكثرة التحديات، إلا أن الشعب الفلسطيني تواق إلى الخروج من الحالة المتردية التي يعيشها، ويتطلع إلى نشوء حالية نضالية قادرة على إدارة الصراع بكفاءة، وتتمكن من تحقيق الأهداف التي لم يكف الشعب الفلسطيني منذ مئة عام على النضال وتقديم التضحيات من أجل تحقيقها.
= = =
[1] النضال الجماهيري لا يعني زرع الأشجار المثمرة كما تقول أغنية فلسطينية من عصر اتفاقية أوسلو. الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في أواخر عام 1987 مثال جيد على النضال الجماهيري، فهي استمرت ثلاث سنوات، وكانت تشهد إضرابات ومواجهات بالحجارة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
|
مقاتلون فلسطينيون في بيروت |
|
غلاف كتاب بيروت 1982: اليوم ي |
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
القضية الفلسطينية: كيف الخروج من الطريق المسدود؟, هدى الدهان | 28 كانون الثاني (يناير) 2018 - 08:27 1
ليتني بتفاؤلك.كنا بفلسطين فاصبحنا بالعراق وفلسطين .اذا كان جيل الحجارة الذين قبلنا وجيل القلم الذي نحن منه لم يستطع سوى المقاومة و الاحتمال .فماذا سيفعل جيل الايباد؟