فنار عبد الغني - لبنان
الحديقة المهجورة
هاربة تعدو وسط السعير المدوي، النافث لحممه على رؤوس المارة من العمال الكادحين القافلين من أشغالهم للتو، وعلى من ساءت حظوظهم وفرضت عليهم المشي في هذا القيظ، على المتواجدين هنا على الشارع كضحايا الحروب الذين أرغمهم الأعداء على المكوث تحت سياط الشمس.
أصوات الباعة المكتظين فوق الرصيف، تلح عليها دون كلل بالشراء. كل يوم يثيرون استغرابها أكثر فأكثر بإلحاحهم المتواصل عليها رغم أنهم ألفوا وجهها جيّدا. تنظر إلى أصناف وألوان الفاكهة الشهية المغرية، تمسح يدها بلطف على معدتها الخاوية، تهدهد ألمها، ثم تضعها بِأسى في جيبها الخاوية أيضا.
أصوات سائقي الأجرة تضاهي زمامير السيارات وأبواق سائقي الدراجات. تشعر بنيران تستعر في كيانها، حسيسها أشد على نفسها من هذه الضجة المشتعلة في الخارج.
مرهقة تعدو بعد يوم عمل شاق، خلته لن ينتهي، تعدو وهي تشعر بأنّ الأرض واقفة، ثابتة.
الباعة والسيارات وشرطي المرور والأشجار المغبرة، والأمكنة لا يزالون على حالهم، باستثناء الشمس التي توشك أن تنقض على الجميع.
يتضاعف عطشها، تحس أن المسافات تطول وتتباعد، وتجرجر ساقيها المرهقتين، يجرها الطريق إلى شارع فرعي، لم تسلكه منذ زمن طويل، تطلق لساقيها العنان، وما إن مشت بضعة أمتار حتى صفعتها المفاجأة: واحة خضراء، متوارية خلف الزحام الصاخب.
فركت عينيها جيدا، ثم حدّقت مجددا: ليس سرابا، إنها حديقة صغيرة، قطعة خضراء تتوسط طريقين فرعيين خاليين تماما من الناس والأشجار والخضراء.
عبرت الشارع إليها. الحديقة مسيّجة بأشجار سرو عالية وزنزلخت، شيّدت عصافير الدوري والحمام البري مدنا فيها، هناك بعض شجيرات الدفلى، تتدلى ورودها بغنجٍ مبتسمة للرائين، تتناثر بين الأشجار زنابق شامخة بقامتها نحو العلاء.
الحديقة تبدو نائمة، لا صراخ لأطفال يلعبون ويتصايحون، لا عشاق، لا نساء وحيدات، لا عاطلين عن العمل، لا عجائز قد ملّوا من كل ما في الحياة، لا باعة هنا، لا أحد على الإطلاق، ما الخطب؟
اقتربت يتنازعها الوجل والحذر وحب الاستطلاع، تقدم قدما وتؤخر أخرى حتى تشجعت أخيرا ودلفت إليها. لكنها بقيت مرتاعة. اختارت مقعدا قريبا من المدخل، أراحت جسدها للحظات، بينما فكرها ظل حائرا، منشغلا بسرِّ الحديقة الصامتة، الغريبة، وعيناها يقظتان، تطوفان في كل أنحاء الحديقة، تترقبان حدوث أمر ما.
فجأة سمعت أصواتا صاخبة قادمة من خلف الأشجار الوارفة الظلال والأسرار، حنت منها نظرة خاطفة، فإذا بفيلق من الأطفال المتشردين، وجوههم قذرة، ملابسهم رثّة، حفاة، يتسلقون الأشجار، يتسلقون السياج ويغزون الحديقة، يسارعون نحوها، يسألونها المال أو الخبز أو بعضا من الكعك.
لا تعرف كيف استنهضت قواها الخائرة واستطاعت النجاة بنفسها من الطوق الذي كاد المتسولون الصغار إحكام قبضته عليها. ولّت هاربة من الأفياء المغرية، المسكونة بالأشباح، وانطلقت إلى الطرقات الهادرة بكل اللغات الحية.
= = =
من يسأل عنها؟
افرح وانتعش يا فؤادي، لقد جاءك سفير السعادة، الساحر الصغير، أصبح الآن في قبضتك، سيجعل العالم في متناول يديك، سيقرب لك البعيد، وسيؤنس وحشتك، إنه تأشيرة دخولك إلى عالم سحري، مضيء بالألوان المبهجة والأصوات الممتعة والألعاب المسلية.
ستتناسى يا فؤادي تباطؤ ساعات النهار المتثاقلة، ستتناسى الالتفات إلى الرزنامة لنزع صفحاتها اليومية وقراءة ما يحمله أسفلها من أقوال وحكم لم تغير شيئا في حياتك، لتمضي الأيام من الآن فصاعدا كما تشاء، بسرعة، بتباطؤ، لن أستعجل رحيلها.
أبعدت ساعة معصمي، لن أحتاجها بعد الآن، فالساحر الصغير، أو هاتفي النقال الذي حصلت عليه لتوي، يحمل ساعة ومنبها أستطيع التحكم بنغمات رنينه، ويحتوي على راديو تعلمني بالوقت دون تذمر.
أما أعجب ما فيه فهو قيامه بدور ساعي البريد السريع جدا، وأيضا دور المفرح المضحك، وهذا ما أصبو إليه بحق: تلقي رسائل مفرحة مضحكة، تعكس ظلال السعادة على وجهي كما يحدث مع جميع من أعرفهم وأجهلهم، أولئك الذين ألتقي بهم في أماكن العمل وفي الطرقات والأسواق والمصاعد والباصات والمقاهي والسيارات وغيرها. أولئك الذين يحرصون على صحبته، وحمله بكثير من الود والتبجيل والإمساك به كمن يمسك بالورقة الوحيدة الفائزة بالجائزة الكبرى في يانصيب عالمي.
ماذا يحدث لهم ومعهم في هذه العوالم الانفرادية التي اختاروها لأنفسهم بأنفسهم؟ سوف أقتحم هذه العوالم الخفية وأكتشف أسرارها.
هنأني الزملاء بهاتفي النقال وتبادلنا أرقام الهواتف. وعلقت إحدى الزميلات: "سوف نتواصل مع بعضنا بشكل أفضل، بقي عليك الاشتراك بشبكة النت". وأضافت زميلة أخرى: "إن حياتك سوف تتغير خاصة إذا أصبحت من مدمنين الشات"، وضحكت.
أتقصّد أن أصبح ذات جاذبية اجتماعية بامتلاكي لمعرفة آخر الأخبار والمستجدات الاجتماعية وغير الاجتماعية وذلك بالمشاركة بجلسات النميمة النسائية التي اكتست طابعا جديدا بفضل تطور التكنولوجيا واستخدامها للصفحات الفضية، أو ربما سأخترع شخصية جديدة لنفسي وسأبدأ حياة جديدة مع أشخاص جدد، نتواصل معا في القارة السابعة.
انتظرت مكالمات الزملاء وانتظرت رسائلهم، وبدا الانتظار كصحارى ممتدة، تبتلع وبشراهة آمالي وأحلامي بحدوث شيء ما مفرح في حياتي. وقمت بكتابة رسائل صغتها بكلمات عذبة استخرجتها من روحي وأرسلتها لزملائي، لكني تلقيت منهم رسائل متشابهة، مجرد كلمات وعبارات مرصعة ومنمقة ومجهزة وجاهزة للرد السريع. أكاد أجزم انهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءتها.
الكلمات هي رداء الروح، وعندما يستعير الإنسان بلا مبالاة كلمات ليست كلماته فهو كمن يرتدي ثوبا خياليا، كاشفا مدى العري المخزي في روحه.
بعد أيام قلائل، توالت الرسائل المختلفة الواردة على هاتفي، وكانت حقا رسائل مدهشة وغير متوقعة، وردتني بشكل مفاجئ:
الرسالة الأولى: ماذا تخبئ الأشهر القادمة؟ أرسل اسمك واسم والدتك إلى xxx واعرف حظك بـ (0،89 $)
الرسالة الثانية: هل تعلم أن للألوان دورا في حياتك؟ أرسل لونك المفضل إلى xxx واكتشف بـ (0،89$)
الرسالة الثالثة: هناك حبيب وحيد ومعذب ينتظرك في مكان رائع. إذا أردت أن تعرف اسمه اتصل بـ xxx واكتشف من هو بـ (0،89$)
الرسالة الرابعة: بمناسبة عيد الحب، إذا أردت أن تعرف نسبة حبك في قلب حبيبك، أرسل اسمك واسمه إلى xxx وبـ (0،89$)
الرسالة الخامسة: مش مزحة! نمرة رجلك تؤثر في طبعك، أرسل نمرة رجلك إلى xxx واكتشف نفسك بـ(0،89$)
الرسالة السادسة: لقد حصلتم على خدمة الخبر العاجل مجانا لمدة أسبوع. اتصل بـ xxx وثبتها بـ1$
الرسالة السابعة: مبروك؛ لقد ربحت سيارة. أرسل أولا مبلغ 3000$ إلى الحساب المصرفي xxx لاستلام السيارة من ماليزيا.
الرسالة الثامنة: لقد ربحت مبلغ 100000$. أرسل رقم حسابك المصرفي لنرسل لك المبلغ.
الرسالة التاسعة: أرسل حرف ت إلى xxx واحصل على توقعات فلان الفلاني وغيره بـ0،89$
وانهالت الرسائل العديدة. لا أستطيع أن أنكر كم هي مسلية! ومنها ما هو مضحك بعض الشيء. كانت تردني في كل الأوقات، صباحا ومساء ووقت القيلولة وفي أوقات عملي وأثناء تجوالي في السوق، وخلال ركوبي في سيارات الأجرة والباص والمصعد وأماكن أخرى. لقد حفظتها في هاتفي لأقرأها من حين لآخر، خاصة عندما أسمع رنين هاتف قريب أو أقرأ بريقا في عيون تعبة مستوحدة، باحثة عن أحد ما يسأل عنها حتى لو كانت رسالة تقول:
Please recharge your line within2 days; otherwise, your line will no longer be active.
[الرجاء شحن خطك خلال يومين، وإلا سيتوقف الخط عن العمل.]
- عود الند يافطة العدد الفصلي 8
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ