عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد عبد الوارث - مصر

مدارات الشجن


محمد عبد الوارثأدار زر المذياع، بأطراف أنامله الرخوة وأظافـره الطويلة بغير عناية. راح الراديو يبث شفرته؛ زجزاجية الصفير، لعله يجد من بين رموزها برنامجاً، أويسمع موسيقى وغناء يبعث فى قلبه ذكرى لحظات ماضية، أو ينصت خاشعاً لتلاوة شيخ من شيوخ زمن وحيد قد لا يأتي غيره.
تَـِــكْ. شيششيشش شااااااااااااا شاشششش ووووووووـشـشـش.

رنم الصوت واضحاً رخيماً، وفى خلفيته، تماوج وشيش ضعيف وصفير جيئة وذهابا.

أيها السادة، إلى قصر رأس التين.

هنا قصر الملك. أيها السادة السلام عليكم

ورحمة الله. هذه ليلة جديدة مباركة من ليالى شهر رمضان المبارك. نذيع على حضراتكم طواله القرآن الكريم والأحاديث الدينية، التى تُلقى وتُردد هنا فى قصر رأس التين العامر، حيث يستضيف الملك العزيز شعبه العزيز بجميع طبقاته وهيئاته. يَفِدون هنا من كل صوب، ويجتمعون ضيوفاً على الفاروق. وقد وصلت إلى ساحة الملك الآلاف العديدة من سكان الثغر والمصطافين، وأخذوا أماكنهم، يشربون المرطبات، وقد أخذت الأضواء الكهربائية المختلفة الألوان، تنعكس على مقر الفاروق. وهم الآن فى انتظار أن ينقل إليهم صوت القارىء تلاوة لسورة النجم وسورة التين. والقارىء اليوم هو الشيخ مصطفى إسماعيل، وسيستهل تلاوته بقوله عز وجل:

"ولله ما فى السموات وما فى الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. الذين يجتنبون كبائرالإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة".

أيها السادة الشيخ مصطفى إسماعيل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم

...

***
تِــك. شيـشـشـشش وووششششششششااااااااااااااااااااا شيـشـشـشـشـشـشـش.

منذ سافرت زوجته فى رحلتها الأبدية والتي مر عليها أربعون عاماً، قرر وقتها ألا يتزوج بعدها أبداً. ورحلت ابنته الكبرى مع زوجها إلى أقاصى الصعيد. وهاجر ولده الكبير الى مدينة البترول الخليجية مع زوجته وأولاده، لا يزوره إلا كل عام أو عامين أو ثلاثة أعوام. ولم يبق له إلا ولده الأصغر ذلك الذى أهداه هذا المذياع القديم ماركة "فيليبس" بزعم أن البيوتات الحديثة لابد أن يكون فيها ركن يضم هذه التحف القديمة. ومنذ أهداه المذياع، صار يراه كل ليلة أو ليلتين أو ثلاث. ففى المساء يقبل عليه ليلقى تحية المساء ويسأله سؤالاً ثلجياً متكرراً عن صحته، وهل هو سعيد من عدمه. وبعدما كان الابن ينتظر ليسمع إجابة الأب، صار مع الأيام يلقى سؤاله ثم يهرول مسرعاً ملبياً نداء زوجته، تلك العجفاء النحيفة، مدمنة التباهي بما تملك هي وأخوتها وأهلها من مقتنيات. يلسعه صوتها وهى تتحدث عن فستانها "السينيه" وحذائها المصنوع من جلد التمساح وسعره الذى يتجاوز الآلاف، وغيره وغيره من الأشياء التى تباهى بها ولده الأصغر والذى بدعوى انشغاله بالعمل ترك أمر تلبية رغباته واحتياجاته للخادمة الصغيرة.

حتى أحفاده الصغار يرفضون بإصرار وكبرياء تنفيذ أوامره أو طلباته فهم يرفضون تنفيذ أوامر أبيهم وأمهم فكيف يلبون طلبات الجد، حتى بات الرجل يغلق عليه بابه ويلوك أيامه فى قراءة القرآن. وكلما هاج به الشوق، فزع إلى المذياع ذي الوشائج، يبحث عمن يحيي لواعج نفسه المكروبة والمهمومة صباح مساء.

***

تِــــــكْ. شيـشـشـشش شاااااااااااااااااااااااا شـشـشـشـشـش.

أيها المواطنون، إليكم البيان التالي:

"اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير، من الرِشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد الحرب ... وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد ... وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا فى الجيش رجال نثق في قدرتهم وفى خلقهم وفي وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء ... وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب ... ونعمل لصالح الوطن في ظل الدستور ...وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة... وإن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس، وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم، والله ولى التوفيق."

...

***

اللواء سعيد، يعيش قريباً من قصر رأس التين، فالبحر عن يمينه وأمامه والقصر عن شماله، وهو بينهما منذ خرج من الخدمة. شعر بأنه خرج فعلاً من الحياة؛ فلحظة خروجه من الديوان بعد إنتهاء آخر يوم عمل له، سها الحارسان الأبلهان اللذان يقفان بالباب عن تقديم تحية "سلام سلاح" للسيد اللواء، الذى يغادرالعمل نهائياً.

وقد كان هذان الحارسان فى السابق، عندما يسمعان نفير السيارة من بعيد، يؤديان تحية سلام سلاح بكل شدة والتزام، حتى تقف السيارة أمامهما وتلامس قدم السيد العميد الأرض.

بعد انتهاء خدمته بوقت قليل، وُجه للعمل بإحدى شركات القطاع العام. ولأنه كان أثناء خدمته مسئولاً عن المخازن وما تحويه من أدوات وأجهزة ومعدات، فقد عُين مديراً للمخازن بعد تقاعد المدير السابق. وصار مسئولاً عن مخازن موزعة فى محافظات عدة، وعن عمالتها، هذا بخلاف ما كان منوطاَ به لتنفيذ ما كان يعرف وقتها بـ "القرض الروسي" الذى كان يقدم لمصر بفائدة 2% وفترة سماح 40 سنة، مع تقديم الأموال والقمح وتوريد المعدات بأنواعها لمصر. هذا فى مقابل القرض الأمريكى الذى يفرض على مصر صرف القرض فيما تراه الولايات المتحدة ...!

تسلم العمل بعد وقت من صدور حركة ترقيات بالشركة. كان لها بعض الضحايا من الموظفين الذين لم تكن لديهم مقدرة القفز فوق أسوار الترقيات أو السير فى دهاليز الشلل، كانت المجاملة أمراً معروفاً لكنه مستتر. وأبرز ضحية لهذه الترقيات كان الأستاذ "صيام" الذى توفي بعد أيام من صدور تلك الترقيات. والتي تخطته بعناد واضح. هذا المحاسب هادئ الطبع دمث الخلق، كريم، سمح المعاملة، وديع تلك الوداعة المعروف بها أهل بلده نيلية المنبت. وجنازته كانت هائلة لم يُر لها مثيل. والسيد اللواء بعد أن أدى خدمته نظيفاً، شريفاً، مجتهداً، متفادياً بشتى السبل اللينة والصارمة كل ما من شأنه تلويثها. غادر الشركة متقاعداً مرتاح الضمير، لأنه لم يمت أحد من مرؤوسيه عقب صدور أي حركة ترقيات، سوى اثنين فقط لا غير، لكنهما ماتا بعد شهور عديدة.

***

تــــِك. سسسششسششش ووووو شـيـشـشش ااااااااااااا شششش.

من مبنى الإذاعة والتليفزيون إليكم بيان الرئيس جمال عبد الناصر إلى الشعب والأمة.

أيها الأخوة:

لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفي أوقات المحنة؛ فى الساعات الحلوة وفى الساعات المرة، أن نتصارح بالحقائق، مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتاً. ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة ...

أيها الإخوة، نحتاج ... إلى نظرة على ما وقع.

...

أولا: العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب.

وثانياً: العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات ... ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته.

وثالثاً: الدلائل واضحة على ... تواطؤ استعماري ... هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق ـ وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي ... فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه؛

لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي ... وأن أعود إلى صفوف الجماهير ... أؤدى واجبـى معها كأي مواطن آخر.

إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر ...إن قلبي كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معي، وليكن الله معنا جميعاً. والسلام.

***

إلى هنا أيها السادة تختتم هذه التلاوة لما تيسر من آي الذكر الحكيم. نقلناها إليكم من قصر رأس التين العامر من عند الفاروق أعزه الله وضيوفه من أفراد الشعب المصري الكريم.

***

تــَك.

الرجل أغلق المذياع، وراح يقلب فكره، فيما سمع وعاش، وهو ينيخ ظهره على السرير بعد يوم طويل ومشحون، وعيناه تلمحان فى السماء نجوماً تتأهب للرحيل، بعضها مطفأ وبعضها وامض. أنامله تتعلق بزر المذياع تأهباً لسماع أذان الفجر، وفي الخلف كانت فيشة الراديو العتيق، معلقة تتأرجح بعيداً عن مقبس الكهرباء.

D 26 أيلول (سبتمبر) 2011     A محمد عبد الوارث     C 3 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • كل إنسان يختزن فى ذاكرته الكثير من الذكريات التى تثير شجونه وآلامه وآماله وأحزانه فد يحركها ويجعلها تقفز أمام عينيه كأنها اليوم وقد ضفر القلص كل ذلك وربطها بأحداث الوطن وصوت الشخ وإذعة البيانات وجاء التضفير فى إنسيابية ونعومة


  • القصة أخذتنا معها من لمسة زر الراديو الى حقبة هامة من تاريخ مصر بدءا من بيان ثورة 52 ومرورا بالرؤساء الذين حكموا مصر ...بأسلوب مشوق مفعم ببعض التفاصيل الأنسانية لحياة بطل القصة وذكرياته التى هى جزء مكمل لهذه الحقبة من التاريخ كى تنفى عنها صفة التقرير التى فرضت نفسها على بعض مقاطع من القصة مثل بيان الثورة ....وانتهت القصة بلمسة زر"تك" ولم ينته التاريخ ولا الذكريات بعد .
    تحية للكاتب أستاذى العزيز ...أ/ محمد عبد الوارث ..مع أطيب أمنياتى له بمزيد من الابداع والتألق


  • الان اصبح المذياع هو الاخر الذي يؤنسنا في وحشتنا ان احببناه و يضل يتحدث يتحدث كطفل يتعلم للتو و يكثر من الاسئلة . العجيب اننا حين لانرغب بسماعه يضل يتحدث متحديا المقبس المفصول . حتى المذياع تعلم العناد.


في العدد نفسه

كلمة العدد 64: عشر ملاحظات في عصر الثورات

عن مبدعة الغلاف

مقابلة: الفنان علي الرفاعي

أيادي الفن المتسخة

شكرا جورج قندلفت