رحيل الروائي حنا مينة
في وجه التيئيس
في مقابلة تلفزيونية معه منشورة في يوتيوب، يلاحظ أن مينة يتجنب التنظير حول الكتابة الروائية ولا يستخدم لغة متكلفة أو معقدة في حديثه من قبيل مشروعي الروائي وأدواتي، بل يؤكد إنه لم يخطط لأن يكون كاتبا:
"أنا كاتب بالخطأ يا أخي. لا أعرف كيف كتبت، ولماذا كتبت. أنا بدأت الكتابة من كتابة العرائض للناس لأجل تسوية شارع، لأجل الكهرباء. بدأت أكتب الرسائل للجيران الذين لا يعرفون الكتابة والقراءة في حي فقير من أحياء اسكندرونة. لم أفكر أبدا أنني سأكون ما كنته: أن أكون كاتبا".
أدناه رد حنا مينة على سؤال وجهته مجلة "الآداب" إلى مجموعة من المثقفين العرب بعد الغزو الأسرائيلي للبنان عام 1982، وحصار بيروت الذي كان من نتائجه خروج المقاومة الفلسطينية منها. يظهر الرد نظرته للأمور من زاوية استراتيجية.
في وجه التيئيس
أكرر ما قلته سابقا: المناضل الحقيقي، في زمن الهزائم العربية، زمن التيئيس العربي، المخطط، المدروس، المموّل، بالبترو دولار، هو من لا ييأس، والمثقف مناضل على الجبهة الفكرية، ومن كرامة النضال والفكر معا، ألا ييأس المثقف، ويصدق، وأن يتسلح بالوعي التاريخي، وبعمق، ليكون قادرا على مكافحة اليأس الذي يبشر به بعض الكتاب والشعراء الذين تفتح لهم مجلات وصحف عربية، مقيمة ومهاجرة، صدور صفحاتها، وتدفع لهم أجورا خيالية.
إنني لا أتهم بل أذكر بالواقع، أشدد عليه، فليس للثقافة العربية أن تتجدد مع كل حدث جديد، وهذا ممكن طبعا، ولا أن تلهث وراء الأحداث وهي تتسارع، واللهاث لا يفيد، بل أن تعي دورها، مسؤوليتها، شرف مهمتها، وعندئذ لا يكون دورها أن تبدي رأيا فيما جرى، بل أن تسبق فتكون نذيرا بما سيجري، وتتخطى موقف المتفرج على المعركة، أو الشاهد عليها، إلى موقف الفاعل فيها، المغير لمجراها.
وليس للمثقف أن يخرج من مسوح الثقافية إلى رادنجوتات السياسيين، وأن يجعل الخطاب الثقافي بيانا سياسيا، بل أن يمتلك مفهوما عن العالم، وأن يؤمن هو به أولا، وفي ضوئه، يمكن أن يرى إلى حركة التاريخ، ويرصد صيرورتها، ويناصر كل ما يدفع هذه الحركة إلى أمام، لا في آنيتها، التي قد تبدو ثابتة، بل في رحابة مداها، حيث كل شيء يتغير، وكل قديم يزول، وكل جديد يبقى، ليسلم نفسه، في المآل، إلى جديد آخر، أفضل وأرقى.
إن مراجعة الأفكار وإعادة تقييم الدور، والتجددية لا تتم نتيجة الهزيمة، أو بانفعال مؤقت منها، أو بالرجة العصبية، أو لحاقا بالموضة المازوشية المتولدة عنها، فالمثقف المسؤول، الصادق، الواعي لمهمته النضالية علي جبهة الثقافة، ينبغي أن يكون ابن وطنه حقا، ابن شعبه حقا، ابن عصره حقا، وأن يكون مستعدا للإسهام في النقلة الفكرية بين الماضي والحاضر، بين ما صار باطلا بحكم الزمن، وبين ما هو صحيح بحكم الزمن أيضا، وأن يعرف، عن طريق النظرة العلمية، من هم أعداء وطنه وشعبه وبالتالي أعداء جميع الأوطان وجميع الشعوب، ومن هم أصدقاء هذا الوطن وهذا الشعب، ويتخلى عن دور الواقف على حد السكين، باسم الحياد الكاذب، وينتمي بكل طاقاته الابداعية إلى صف الكفاح الوطني، القومي، العالمي، وينبذ اللامبالاة، والتهريج، والارتزاق عن طريق الحرف، وبذلك يحقق المراجعة، وإعادة التقييم، والتجديد الثقافي، لا بأسلوب البيانات والشعارات، بل بأكثر الأساليب الفنية جودة وأصالة وتعبيرا عن الواقع في صراعاته، تناقضاته، تطلعاته، حسه التاريخي، وحركة تغيره الدائمة.
مثل هذا المثقف، وخاصة المثقف الكاتب، لا يأتي، أو لا يكون وليد الهزات، أو النكسات أو الهزائم وحدها. هذه تفجر فيه طاقات جديدة، لكنها لا تخلقه خلقا جديدا، إذا لم يكن قد خلق نفسه منذ البدء، وفهم التناقض الطبقي، والصراع الطبقي، وتحالفات القوى، وحدد موقفه منها، وانحاز إلى صف قوى التقدم الذي يأتي إليه جميع المثقفين الشرفاء، من كل الطبقات.
وعندما يفعل المثقف ذلك، يجد طريقته في القول، وفي الإبداع، وفي، التوصيل، ويبلغ قلوب الناس، ويؤثر فيها، ويلعب دوره الصحيح، الكامل، مستمدا نسغ شجرته الفنية من عصب الحياة، لا من عروق الموت الباردة، المتفسخة.
إن معركة بيروت لم تكن هزيمة. والعدوان الإسرائيلي على الشعبين اللبناني والفلسطيني لم يكن عدوانا، كان حربا كاملة خططت لها أميركا ونفذتها إسرائيل، وما زالت اللعبة قائمة بينهما لجعل لبنان محمية أميركية إسرائيلية، وقد أفدنا من هذه الحرب دروسا ثمينة، في رأسها أنه يمكن محاربة أميركا وإسرائيل كما جرى في لبنان، ويمكن للمدن العربية أن تصمد كما صمدت العاصمة اللبنانية، ويمكن لدولة عربية واحدة أن تخوض الحرب ضد إسرائيل كما خاضتها، ولو لأيام، سورية، وأن وحدة مصالح الأمة أكذوبة، فمصالح الملوك والرؤساء العرب غير مصالح الشعوب العربية، وأن المعركة طويلة، لخمسين سنة مقبلة على الأقل، وأن علينا أن نبني ثقافيا واقتصاديا وعسكريا، ونفرز بعد كل معركة، أشياءنا على هدى معطياتها، وأن يكون لنا نفس صمودي، فلا نمضغ المرارة، ولا نقتات اليأس، ولا نضيق دائرة رؤيتنا فنقصرها على منطقتنا، بل نرى إلى العالم، وما يجري فيه، وما يتصاعد من قوى التحرر والتقدم، وما يتضامن من قوى الاستعمار والتخلف.
هذا يعني أن أكتب رواية جيدة، صادقة، جميلة، أصيلة، فنية، إذا كنت روائياً، وقصة بالشروط نفسها إذا كنت قاصا، وشعرا إذا كنت شاعرا، وبحثا إذا كنت مفكرا، وألا نخشى على الفكر التقدمي من الانكسار، ومن الاقتلاع، فهذا الفكر ليس خزفا، ولم يهبط من فوق بل نبت من الأرض، وهو أقوى وأرسخ مما يظن الذين يشحذون السكاكين لذبحه وذبح أصحابه.
لا أقول إن كل شيء جيد، لكني أؤكد أن كل شيء سيكون جيدا، فمنذ أربعين عاما والإمبريالية والصهيونية والرجعية تحاول تصفية القضية العربية، وحتى الآن لا تزال هذه القضية حية، وستبقى كذلك، لأنها قضية الشعب العربي لا الحكام العرب، وحتى لو نجح هؤلاء في تآمرهم لتصفيتها، فإنها ستظل حية كما الضمير العربي، كما النضال العربي، كما الإنسان العربي، وستطرح نفسها من جديد، في مناخ جديد، وفي صداقات وتحالفات أقوى فأقوى.
المهم ألا نيأس.
والمهم ألا يخيفنا البعض منا.
والمهم أن نفهم التاريخ، العصر، المستقبل، ونكتب في ضوء هذا الفهم.
دمشق.
= = =
حنا مينة: روائي سوري. المصدر: مجلة "الأداب" عدد خاص 1983.
http://al-adab.com/sites/default/files/aladab_1983_v31_01-03_0006_0007.pdf
|
|
|
◄ حنا مينة
المفاتيح
- ◄ مقالات وآراء
- ◄ وفيات
1 مشاركة منتدى
في وجه التيئيس, هدى الدهان | 14 أيلول (سبتمبر) 2018 - 18:36 1
احسست وانا اقرا المقال بان كاتبه من كوكب ناءٍ،وعجبت لكاتب كحنا مينا عاش ألم العيش و التعب والحاجة ان يكتب بهذا الكم من التفاؤل عن الشعوب العربية .ثم نظرت الى ان المقال مكتوب عام 1983 فتم حل اللغز.القضية العربية في ذاك الوقت كانت لاتزال موضوعا للافلام الوطنية والاغاني الحماسية.كنا نتغنى بامجاد الماضي و نتفاءل بالمستقبل .ثم اصبح الم الماضي هو واقع الحاضر ومنذ عام 1983 الذي يُعد العصر الذهبي مقارنة بيومنا هذا،اقول منذ ذاك الوقت حدثت حروب وغزوات و تهجير وقتل وتكفير وتفجير وتفخيخ. قلم مينا رحمه الله كتب في الزمن الجميل وجف في هذا الزمن زمن السنوات العجاف العربية التي لاتنتهي .