زكي شيرخان - السويد
كراهيـة
مضى عليه وقت طويل وهو يسير في شوارع المدينة وأزقتها القديمة بلا هدف بعد أن خرج من داره غاضبا إثر مشادة كلامية بينه وبين زوجته كادت أن تتحول إلى مشاجرة غير محمودة العواقب لولا الفكرة التي قدحت في ذهنه وهاجس يصرخ في داخله "اترك الدار".
بعد هذا المسير الطويل، أحس بالهزيمة متمثلة في انسحابه، ولم يصمد برد الكلمة بكلمتين، ولا النقد بنقدين، ولا…
طيلة هذا الوقت كان الغضب قد أخذ منه كل مأخذ وملأت جوارحه موجة كراهية عمت كل ما وقعت عيناه عليه.
لم تكن كراهيته لما حوله بسبب مشاجرة اعتبرها كأي حوار ساخن يجري داخل أروقة المؤتمرات. هو ليس بهذا الغباء العاطفي حتى تجره انفعالاته إلى حد الكراهية للتوافه من الأسباب. تراكمات من معاناة يومية عاشها ويعيشها هو ومن معه هي السبب. فشرطي المرور الذي وقعت عليه عيناه وهو يهم بعبور الشارع، أثار فيه حوادث محاسبته لا بسبب خطأ مروري ارتكبه بل ليعطي إتاوَة.
نعم إتاوة. لا يستطيع تسميتها بغير هذا. فعندما يُتهم من قبل الشرطي بأنه ارتكب مخالفة عقوبتها غرامة مالية قدرها ثلث مرتبه الشهري ثم يأخذ منه ثلث الغرامة ليضعها في جيبه، فماذا يسمي هذا؟ قواعد اللعبة عرفها عندما كان يملك سيارة، ويعرفها غيره ممن ما زالوا يملكون السيارات.
طالت كراهيته دائرة رسمية مر من أمامها وهو هائم على وجهه. إذ ذكّره مشهدها كيف أُبتزَ عندما راجعها يوما ما، وكيف عرقل الموظفون معاملته وبالغوا في طلب وثائق وأوراق وأدلة. كان يومها يتقاذفه الجميع ككرة، وظل يدور بين الغرف بلا طائل حتى سأله أحدهم: "ألم تفهم المطلوب؟ كأنك لا تعيش هنا".
رد متهكما: "في الحقيقة أنا عدت من السويد قبل ثلاثة أيام". ضحك الموظف. أخيرا رأى وجها يعمل هنا غير متجهم. بعد حوار قصير مع الموظف فهم ما مطلوب منه. دفع بعد المساومة وأُنجزت المعاملة دون أن تنتهي معاناته.
تذكر معلومة ذكرها له صديق أثناء حوار معه حول انتشار ظاهرة الرشوة، وخاضا في التفاصيل قتلا للوقت لا محاولة منهم لإيجاد الحلول لأنهما أضعف من أن يستطيعا فعل شيء.
قال له الصديق: "يقال إن بعض المتفقهين بالدين قد أفتى بجواز أخذ الموظفين للرشوة في ظل الظروف الاقتصادية التي نعاني الأمرين من صعوبتها، ولكنهم اشترطوا أخذ ما يسد الرمق فقط".
"ما يسد الرمق فقط؟!" قال مستغربا، واستطرد: "وعلى فرض صحة هذه الفتوى، والتي لا أصدق إنها تصدر من رجال وهبوا حياتهم لدينهم ولم يعد يهمهم من حطام الدنيا شيء، ألم يضعوا حدود سد الرمق؟"
قال صاحبه استكمالا للنقاش: "كما تعلم فإن الناس درجات، فواحد يكفيه عدة آلاف لسد رمقه، وآخر يحتاج إلى عدة ملايين لسد نفس الرمق".
كان أثناء سيره يتفرس وجوه الناس فتزداد كراهيته لهم. ثم فطن إلى أنه من هؤلاء الناس فشمله الكره. ومتى كان يحب نفسه؟ إنه يكرهها. يكره الضعف فيها. يكره ازدواجيتها. يكره كرهها.
أفاقه مما هو فيه مروره بزقاق اعتاد أن يسير خلاله للوصول إلى مدرسته الابتدائية. لاحظ أثر الزمن على جدران البيوت في هذا الزقاق الذي لم يكن يتخيله بهذا الضيق. معظم الدور تحول إلى ورش لأناس يصنعون من النفايات والأنقاض أشياء تجد لها سوقا لآخرين سُحقوا.
مر بمدرسة قضتْ أخته فيها المرحلة الابتدائية من دراستها. أعجبه بناؤها الذي بدا مقارنة بالدور المحيطة به كشاهد جديد وسط قبور بالية لأناس يجهل مرقدهم حتى أقاربهم.
هالته الروائح النتنة التي تنبعث من جدول لمياه فضلات يشق طريقه بصعوبة وسط الزقاق. دب ألم في صدره لم يتبين إن كان بسبب روائح الأبخرة المنبعثة من الجدول، أم من كراهيته للزمن الذي نسي أن يمر على هذه الأزقة.
توقف أمام محل. ما أن رأى صاحبه حتى تذكره. ها هو ذا الرجل ما زال حيا يُرزق بالرغم من مرور أكثر من أربعين عاما. إنه نفس الرجل الذي اعتاد هو وأقرانه أن يشتروا منه البسكويت والحلوى. ألقى نظرة على المحل. خيل إليه أنه نفس البسكويت، وأنها نفس الحلوى. التراب يغطي كل شيء.
نظر الرجل إليه بلا أبالية. هم بالسلام عليه وتعريفه بأنه كان أحد زبائنه. عدل عن الفكرة رأفة بالرجل الذي بدا أكثر بدانة مما كان عليه، وانحناءة ظهر بادية للعيان. لام نفسه لأنه نسي هذا الرجل ولم ينس غيره، وألح عليه سؤال: "كم من الأشخاص، وكم من الأماكن، وكم من الذكريات طواها النسيان؟"
نسمة أخرى من الروائح النتنة أعادته إلى موقعه في هذا الزقاق، "أهذه الروائح هي عبق التاريخ؟"
قرر أن يخرج بسرعة من هذا الزقاق ليصل إلى الشارع. عليه أن يعود إلى البيت. التعب بدأ يدب في أعضاءه.
"البيت؟ أمعركة جديدة؟ أم تراها هدأت؟" ذهنه مشتت، ومع هذا عليه أن يفكر بأسباب هذه المعارك التي كثرتْ في الآونة الأخيرة ويحاول إيجاد الحلول لها.
لم يكن بحاجة إلى جهد ذهني كبير لمعرفة السبب، فببساطة شديدة جدا إن مشكلته ومشكلة الآخرين هو أنه لم تعد المدخولات توازي الاحتياجات المتزايدة.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- ● إحباط
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
كراهيـة, هدى الدهان | 5 أيلول (سبتمبر) 2018 - 08:25 1
سيعود للزقاق من جديد .في المدينة تكره كل شيء كما تريد .تكره الجدول النتن و الجدار والباعة والموظفون المرتشون.الرائع انك تستطيع بكل سهولة ان تكره الهواء لانه حار ولان رائحته نتنة وتكره الماء لانه غير صافٍ وتكره نفسك لان لااحد احبها منذ كنت طفلا فلم تتعلم ان تحبها انت ايضاً .المؤلم هو حين تعود الى البيت يجب ان تتعايش و تتوقف عن الكراهية فلا مساحة حرية داخل البيت لتكره شجارات بسبب المال.اما التطبيع او الخروج الى الجدول النتن الذي يمر بين الازقة التي هي اضيق من القلب لو بقي بين الجدران