إصدارات جديدة - نازك ضمرة
رواية ومجموعة قصصية
أضاف الكاتب نازك ضمرة إلى رصيد مؤلفاته رواية ومجموعة قصصية جديدتين. عنوان الرواية "غيوم سارحة". وعنوان المجموعة "قرع". ناشر الإصدارين: دار أمواج، عمان-الأردن، 2018.
تدور أحداث الرواية خلال عامين عاشهما يافع ريفي في المدينة، نتيجة اضطراره للعيش فيها بعيدا عن أهله وأسرته وهو لم يبلغ خمسة عشر عاما من عمره بعد، لمواصلة دراسته الثانوية، لعدم توفرها في قرى فلسطين والأردن في الخمسينات من القرن الماضي.
المراهق فقير يعاني الضيق المادي، ويخشى من التعلق بالحب وفتيات المدينة، حسب وصايا أهله. ريفي نشأ على التزمت والتدين، لكنه اضطر لتبني بعض العادات المدنية، والتعلق بأمور مختلفة عن حياة القرية المعزولة.
زار الحدث يافا واللد والرملة قبل عام النكبة 1948، وما زالت ذكريات تلك الزيارات وإقامة الشهور عند أخواله في تلك المدن عالقة في ذهنه.
أول ما لفت نظره في المدينة هو الدراجة الهوائية، فتعلم ركوبها، وصار مهووسا بركوبها مرات كل أسبوع، وعلى حساب نقود قوته القليلة، لكنه لم يشعر بالتعاسة وشقاء العيش حتى ولو عاشه بكل شظفه، لأنه طموح يحلم بالعلم والمستقبل وحب الحياة والبنات والجمال.
أدناه مقطع من الفصل السادس عشر من رواية "غيوم سارحة"
يعود مرزوق متحمسا إلى غرفته بعد حضور فيلم "غزو القمر"، ينهب الأرض مسرعا حتى يصل إلى غريفته الصغيرة، ولكي يشرح لجارته أم باسم عن الفيلم الذي أعجبه، قبل وصوله سمع نداء قويا وبصوت ملحن وجميل:
"هريسة، هريسة، هراييييس! يا عيني عليك يا يافا! كلك حلاوة يا يافا، يا خسارة عمره اللي ما شافك يافا، كلك هريسة يا يافا، خدودك عسل يااااااااااا أمل".
تضطرب مشية مرزوق وهو يسمع هذه الكلمات الملحنة بصوت قوي ومموسق بخبرة وعمق عما ينطق. ينظر شمالا يمينا، يجد نفسه أنه قد اجتاز البائع، ينظر للخلف و صوت البائع مازال يرن في أذنيه، ذلك البائع اليافاوي، يعتز بمدينته وبصنعته التي كان مشهورا بها في يافا قبل احتلال الصهاينة لها، أو ورثها أبا عن جد في عائلتهم.
تعبر نسمة هواء رقيقة تداعب خصلات شعر مرزوق، فتشاكس على عينيه، وهو يتأمل ويفكر فيما يرى ويسمع، وأول ما خطر بذهنه غناء وتلحينات الحجة خضرة.
يجد مرزوق نفسه يتردد في تقدمه، يتوقف يصغي لمزيد من الغناء والتطريب من بائع الهريسة، ثم يبدأ بالعودة متباطئا صوب البائع.
وبرغم رغبة مرزوق الوصول لسكنه بسرعة إلا أنه وجد نفسه متوقفا شبه متشنج لسماع ذلك الصوت الذي يردد جماليات يافا وذكرياتها:
"يا خسارة عمره اللي ما شافك يافا. كلك هريسة يا يافا. خدودك عسل يااااااااااا أمل".
أهي الهريسة أم صوت بائع الهريسة، أم عمق مشاعر الحزن والوفاء لمدينته يافا، التي وقعت أسيرة تحت حكم الجيش الصهيوني، أو هي تفننه في كلمات التسويق الناجح والتلحين التراثي الأصيل؟
البائع مازال يردد المزيد من ألحانه:
"طلّ علينا الحلو طلّ، عجّل والحق معانا، متّع عينك عالمكشوف، والمخفي أعظم حتشوف".
يريد مرزوق أن يسمع المزيد من نداءات التسويق جميلة الإيقاع. اقترب أكثر ويده اليسرى تعبث بجيبه، ثم اليمنى بعد ذلك، يخرجها وبين أصابعه قرش واحد (عشرة فلسات). يقترب من صينية البائع فيرى إغراءات الهريسة بمنظرها اللامع المنتفخ والناضج، مع حمرة تجعلك تتمنى أن تمرر أصابعك تتلمسها قبل أن تقربها من فمك.
"خدودك حمرة هريستنا، بنت الدلال عروستنا، طلَي علينا يا بنت العم، نفديك بالمال والدم".
يناولك البائع قطعة صغيرة كي تتذوق هريسته، تقرب فمك منها حتى لا تحركها حتى تضمن أن رحيقها اختلط بريقك بين شفاهك وداخل فمك، تلحظ رجلا آخر يتقدم صوب البائع، تبتعد لتفسح له مجالا. يتردد الرجل الفلاح هو الآخر وهو يمدّ يده بالقرش للشراء:
"يا عيني عليك يا حَلَوْلَوْ، يا روحي عليك لما تتجلى يا جميل، غرّب على يافا يا عمي نبيل".
يستمر في نداءاته وحركات يديه المعبرة، يلمس صدره ووجنته وهو ينادي على هريسته، وبحركات رشيقة يقطع للرجل قطعة مقابل القرش، يبتسم الرجل المشتري في وجه البائع، ويطلب منه أن يزيد له في الكمية.
"الله يسترك كبرها شوية".
يمشي مرزوق خطوات عدة للأمام، يتجه يمينا فوق الرصيف، يحتك بالجدار فيستند عليه دون أن يشعر، يحسَ نفسه أنه يتوقف ثانية، يستجيب البائع فيقطع للرجل الريفي قطعة صغيرة جدا على رأس ملعقته، يزيحها ويضعها أمام الرجل دون أن يتكلم. يواصل النداء معلنا عن هريسته بكلماته الملحنة وبصوته القوي الجميل:
" حلّي سنونك يا ولد. اللي ما يجري ما يلحق. راحت الحلوة يا أمي، مرت من هون يا عمي، عجل لحقها يا نشمي".
يتقدم مرزوق ويناول البائع قرشه، يحمل قطعته الملفوفة في ورقة من كتاب تاريخ قديم. يتقدم الفلاح من البائع مبتسما، يقرب وجهه من أذن البائع شبه هامس قائلا:
"الله يخلي لك أولادك وزوجتك أن تزيد لي كمان لحسة، الله يفرحك بزواج بناتك".
"وبعدين معاك يا ابن الفلاليح، فك عني خلينا نشوف غيرك. أقول لك: خذ قرشك وريحني، بطلنا نبيع يا سيدي، توكل على الله، ومسامحك في اللي أكلته، بس خلينا نشوف غيرك".
وأنت تسند كتفك للجدار، تقضم من قطعتك قليلا قليلا، لا تريدها أن تنفذ، تتلمظ وأنت تحاول إطالة مدة المضغ، تفطن لوضعك بعدها وتعاتب نفسك، وأنت مالك ومال العالم يا مرزوق، اشتريت وأكلت نصيبك، هيا تحرك إلى بيتك.
يشعر الرجل بشيء من الحرج فيحاول تهدئة الوضع قائلا:
"مالك زعلت يا معلم، حتى لو لم تعطني شيئا فلن آخذ القرش، من أجل عيون حلاوة يافا، لا يهمني شيء حتى لو قال كل الناس عني مجنون، أعجبني نداؤك وغناؤك والشغل اليافاوي. الله يرحمك يا يافا، ويرحم أيام زمان، أنا زرت يافا أكثر من مرة، وسبحت في بحرها، وأحببت فتاة منها، لكنني الآن لا أعرف أين مصيرها".
"إذن ماذا تريد مني؟ الله يخليك فكنا منك ومش ناقصنا جروح، صلّ على النبي وتوكل على الله. الله يفتحها في وجهك".
"لا شيء، لا أريد شيئا، وداعا".
يحمل الفلاح ما تبقى من قطعة الهريسة، يضمها بين أصابعه ويسير ملتفتا حوله. يحني رأسه كثيرا هو الآخر ويرفع يده المحملة بالحلوى نحو فمه لاستقبالها. بينما ظلّ صوت البائع الجميل يردد كلمات جديدة:
"راحت الحلوة عالبير، حتى تصيّـد عصافير، مـرّ الصياد المجنون، طاروا وفـرّوا العصافير".
يصل مرزوق الملجأ الذي يقيم فيه، يهجم على جارته أم باسم بهوج ليصف لها وبحماس ما شاهد في ذلك الفيلم من العجائب. تمنى لو انه اشترى بقرش آخر قطعة هريسة لجارته أم باسم، والتي لا تنساه من أي طعام تطبخه لأسرتها، وأحيانا تتفقده بساندويتش لبنة أو جبنة مع مربى العنب أو العسل.
لكنه فطن أنّ أهم ما يشغل باله هو قدرته على شرح ما شاهده في فيلم "غزو القمر". تمنى أن يكون مع أول دفعة من المسافرين إلى القمر، لكنه استدرك أن ذلك لا يمكن أن يحصل إلا لمن هو أمريكي، أو إذا هاجر إلى أمريكا أو تعلم ثم استقر بها، لأن الفيلم كان أمريكيا.
كانت جارته تنصت باهتمام شديد له وهو يتكلم. تبتسم أم باسم فيبدو نابها المكسور، مع أن أسنانها الأمامية كانت سليمة، وكانت تشكو من آلام في طواحينها بسبب التسوس. كان عمرها يزيد عن خمسة وثلاثين عاما، ومرزوق لم يبلغ السادسة عشرة من عمره بعد. قال لها:
"لم أشتر طعاما هذا اليوم لأنني صرفت ثمانية قروش، خمسة منها لدخول الفيلم، وقرشين مكسرات وشراب، وبقرش آخر حلّيت فمي به".
"إذن فأنت جائع".
"كثيرا".
"دعني أبحث إن وجدت عندنا شيئا تأكله. ما رأيك في الزيتون والزيت وزعتر، مع كأس من الشاي الحلو جدا؟ أمك صديقتي أوصتني عليك".
"أسناني جاهزة لتهرس أي شيء يسد جوعي. هل سترافقينني لمشاهدة الفيلم ثانية يا أم باسم؟"
"ربما بعد يومين أو ثلاثة".
* * *
دخلا السينما دون أن يسألا أحدا. لم يتنبها لاسم الفيلم. أمنت طفليها عند حماتها، ووفت بوعدها المجنون الأهوج بمرافقة جارها المراهق مرزوق سرا إلى السينما بعد ثلاثة أيام، وتكفلت هي بقيمة التذاكر وبثمن (البوب كورن) وبالشراب الغازي أثناء عرض الفيلم.
فوجئ مرزوق وجارته بأن الفيلم الأمريكي قد انتهى عرضه واستبدل بفيلم عربي، يمثل فيه محمد فوزي مع صباح. كان فيلما دراميا غنائيا كله حب في حب ودلع في دلع، وحرد في حرد، هذا ما علق بذهن مرزوق، صحيح أنه حفظ مقاطع من بعض أغاني الفيلم التي يغنيها محمد فوزي مثل:
"دا أنت حبيت، أيوه حبيت، جد حبيت؟، والله حبيت، دانا دانا دانا، دا أنا حبيت".
في مثل تلك المواقف لاحظ مرزوق أن كثيرا من المشاهدين ممن ترافقهم امرأة يقتربان من بعضهما، ورأى بعين خفية أكثر من امرأة تميل على الرجل الذي يرافقها أثناء عرض الفيلم مستغلين الظلام، الله أعلم زوجها أو صديقها.
يحس مرزوق أن يد جارته تسحب يده، تعصرها، وحين أحسّت استسلامه رفعتها إلى فمها وقبلتها. خرج هواء حار من فمها، أحس مرزوق كأن إشعاع نار يدفئ يده، فما كان منه إلا أن جاملها، ففعل مثلها وقبل يدها التي تمسك بيده في الظلام أثناء عرض الفيلم.
التفت حوله مرتبكا ليرى إن كان أحد يراقبه كما يراقب هو الآخرين، لم يدر كيف فعل ذلك، كانت المرة الأولى التي يفعلها في حياته، لم يقبل يد امرأة قبلها إلا يد والدته ويد جدته. كان يحرج أمه كثيرا وهو صغير. تطلب أن يقبل يد امرأة ما، تقول له، "بوس إيد خالتك فلانة"، فلا يفعل كما هي العادة القديمة في الريف. لم يكن ينفذ مثل تلك الأوامر، بل يماطل، أو يضيع الفرصة بالتردد.
= = =
- غلاف رواية لنازك ضمرة
غلاف المجموعة القصصية "قرع"
- غلاف مجموعة قصصية لنازك ضمرة
◄ نازك ضمرة
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
رواية ومجموعة قصصية, نازك ضمرة Nazek Dhamra | 7 كانون الأول (ديسمبر) 2018 - 22:59 1
تحية طيبة للدكتور عدلي الهواري، والشكر لمجلة عود الند على تقدير الأدب والأدباء، وتقديم ما يجد من أدب ونقد للجمهور العربي وخاصة للراغبين في متابعة الأدب وقراءته، بارك الله جهودك صديق الأدب والأدباء العرب الأخ الدكتور عدلي الهواري.