د. عريب محمّد عيد ـ الأردن
قراءة في قصيدتي رثاء بغداد والبصرة
الخريميّ في رثاء بغــــداد وابن الرّوميّ في رثاء البصــرة: قراءة في قصيدتين
ابن الرّوميّ: أبو الحسن عليّ بن العبّاس بن جريج. شاعر من العصر العبّاسيّ. تأثّر بما أصاب مدينة البصرة من خراب على أيدي الزّنج سنة 275هـ، فكتب هذه القصيدة يصوّر ما لحق بالمدينة من تخريب.
يعدّ رثاء المدن من الأغراض الأدبيّة المحدثة في العصر العباسيّ، فلم يكن للشّاعر في العصر الجاهلي مدنٌ يُبكى على خرابها، ولم يزدهر هذا النّوع من الرّثاء في المشرق ازدهاره في الأندلس؛ وذلك لطبيعة التقلّبات السيّاسيّة في الأخيرة، فقد كانت أشدّ حدّة وأسرع توترا، ومواكبة لحركة الإيقاع السياسيّ، فالشاعر يرصد الأحداث مستنبطا الدّواخل ومقوّما الاتجاهات.
ويقوم هذا الشّعر على المقارنة بين الماضي والحاضر، ماضي الإسلام بمجده وعزّه، وحاضره في ذلّه وهوانه. وقد كان الشّعر العربيّ مُحافظا، يرمي إلى إعادة الشّعر العربيّ إلى تقاليده الموروثة؛ لتأتي ثورة المحدَثين في محاولتهم إبعاد إعادة القصيدة العربيّة إلى سابق عهدها من بداوة وحوشية وغلظة، ومحافظا على نهج القصيدة ولغتها وموسيقاها وقيمها، مجدّدا في معانيها وصورها وأسلوبها، في محاولة لتقديم الجديد.
لقد جاء شعر رثاء المدن في العصر العباسيّ يمثّل موقفا جديدا لشاعر العصر، فرضته الظّروف في المدينة، وارتباطه الوجدانيّ بها، إلى جانب الأحداث والظّروف السّياسيّة الدّاخليّة الّتي عرفها ذلك العصر؛ إذ لم يكن في تراثه الشّعريّ القديم تقاليد فنيّة راسخة تمثّل هذا النّوع من الرّثاء، فكان على الشّاعر أن يعوّل على نفسه في ابتكار الأُطر المعنويّة والفنيّة الّتي يصوغه فيها.
فجاءت قصيدة رثاء المدن لتصوير أحداث في عصر الخلفاء العباسيّين من فتن وثورات داخليّة مثل قصيدة الخريميّ في رثاء بغداد، بعد فتنة الأمين والمأمون سنة 197 هـ، وقصيدة ابن الروميّ في رثاء البصرة أيام المهتدي بالله العباسيّ سنة 255 هـ، الّتي قام بها علي بن محمّد الوزنيين العلويّ، الملّقب بصاحب الزّنج.
هذه الأحداث المسجلّة في بنائها الشعريّ الّتي عاصرها الشّاعران كانت من الأعمال الكبرى الّتي ينهض بها الخلفاء، ويضطلع الشّاعر العباسيّ في تسجيلها، ممّا يجعلها وثيقة تاريخيّة ناطقة بواقع الحال، وكأنّ الشّاعر في رثائه شاهدُ عصر، يحاول أن يجسّد معاني وطنيّة وسياسيّة ودينيّة، تصطبغ بطابعه الفكريّ، وطريقته في التّعبير، متأثرا بملامح بيئته الحضريّة الّتي يرسمها بصوره الموحية ومعجمه اللّفظيّ.
بدأ الشّاعران في وصف ما حدث في كلتي المدينتين: بغداد والبصرة دون مقدّمة طلليّة؛ ليبدأ الخريميّ قصيدته بقوله "قالوا":
= قالوا : ولم يلعب الزّمان بــ (بغـ = = ـداد) وتعثُرْ بها عواثرُها
فكان بذلك في مستهلّها كأنّه راو يروي لنا قصّة بغداد، بادئا بوصفها قبل الفتنة، فقد كانت عروسا جميلة في مظهرها ومخبرها، فهي في نعيم، وأهلها في حياة ناعمة، ويقول مستمرا في هذا الوصف في الأبيات العشرة الأولى تقريبا:
= إذ هي مثل العروس باطنها = = مشوق للفتى وظاهرها
وكأن الخريميّ في قوله "قالوا" يخرج نفسه ممّا قيل أو ممّا يمكن أن ينسب الحديث إليه، فيغلّب ضمير الغائبين على المتكلم، وكأنّه يخرج من دائرة القول لينسبها إلى غيره، وكأنّ ذلك يوهم أنّ بغداد ليست مدينته، مع أنّه استخدم ضمير المتكلمين في البيت الخامس عشر:
= أورد أملاكنا نفوسهَم = = هوّة غيّ أعيت مصادرها
بينما نجد ابن الروميّ يبدأ بوصف حال البصرة قبل تخريبها بعد اثني عشر بيتا، ودون تفصيل، واضعا نفسه في قلب الحدث، ومتأثرا به، فتندغم الذّات الفرديّة في الهمّ الجماعيّ، مستخدما ضمير المتكلم، موحيا باللّحمة الّتي تتشكّل بين الشّاعر والبصرة.
ثمّ إنّ أبياته تفيض بالحزن واللّوعة والأسى، فهو لا يطيق النّوم، لأنّه متألّم ومتحسّر لما حلّ بالبصرة ، ويقول:
= ذاد عن مقلتي لذيذ المنام = = شغلها عنه بالدّموع السّجام
= لهف نفسي عليك أيّتها البصـ = = ــرةُ لهفا كمثل لهبِ الضّرامِ
فابن الروميّ يبكي راثيا حال البصرة ومتأثرا ومستخدما أسلوب التّكرار في المفردات والتّراكيب مثل: (لهف نفسي)، بقوله:
= لهف نفسي يا قبة الإســـــ = = ــلام لهفا يطول منه غرامي
ويكرّر أيضا (كم) الخبريّة في تصويره لما حلّ بالبصرة في مشاهد متتالية، مبيّنا ما فعل الزّنج بالطّاعم والشّارب والكبير والصّغير والرّجال والنساء، ويقول:
= كم رضيع هناك قد فطموه = = بشبا السّيف قبل حين الفطام
= كم فتاة مصونة قد سبَوها = = بارزا وجهها بغير لثــــام
وأيضا تكرار (من رآهن) (ما تذكرت) (رُبَّ) (أين). ولعلّنا نبيّن أنّ قصيدة الخريميّ لا تخلو من التّكرار في وصفه بغداد:
= وهل رأيت القصور شارعة = = تكُنّ مثل الدُّمى مقاصرها
= وهل رأيت القرى الّتي غرس الــــ = = أملاك مخضّرة دساكرها
وأحسب أن موازنة الخريميّ بين حال بغداد قبل الفتنة وبعدها فيها شيءٌ من التّفصيل والاسترسال، أكثر ممّا جاء في قصيدة ابن الرّوميّ، فكأنّ الشّاعر الخريميّ لا يعدو كونه واصفا حسبُ، فهو يتوقّف عند تفاصيلُ كثيرة، فيذكر الحدائق اليانعة الّتي كانت بهجة العين وراحة النّفس والقصور الباذخة والقرى المحيطة بالمدينة، والنّخيل والكروم والرّيحان، حتّى أنّه يذكر أحياء المدينة المنكوبة مثل: "زند ورد" و"الياسريّة" و"الشّطين" وغيرها، فيقول:
= وأصبح البؤس ما يفارقها = = إلفا لها والسّرور هاجرها
= بـ "زند ورد" و"الياسريّة" و"الشطّ = = ــطين" حيث انتهت معابرها
ونلمح استخدامه للفظ الفارسيّ المعرّب فيما سبق، وأيضا لفظ "اليلنجوج" الّذي يعني عود البخور:
= بالمسك والعنبر اليمانيّ والــــــ = = يلنجوج مشبوبة مجامرها
وأمّا ابن الروميّ، فيربط في وصفه ما حلّ بالبصرة بمشاعر الحسرة والألم والأسى والمرارة الّتي يشعر بها، فالمدينة مدينته، فهو لا يفتأ معبرا عن حالته النّفسيّة المتأثّرة بما حدث في النكبة، فيقول:
= ما تذكرتُ ما أتى الزّنج إلّا = = أحترم القلب أيّما إحترام
= ما تذكرتُ ما أتى الزّنج إلّا = = أوجعتني مرارة الإرغام
ثمّ نجد ابن الروميّ متأثرا بملمح تقليديّ في القصيدة الجاهليّة، وهو مخاطبته صاحبيه اللّذين يتخيلهما، ويحاول أن يستأنس بهما؛ ليخففا عنه هذا الألم، مجسّدا البصرة بإنسان يُسأل؛ لكنّه يقف عاجزا عن الإجابة لهول ما يحدث:
= عرّجا صاحبي بالبصرة الزهـــ = = ـــراء تعريج مدنف ذي سقامِ
= فاسألاها ولا جواب لديها = = لسؤال ومَن لها بالكلام
وأحسب أنّ نصّ الخريميّ لا يخلو من التّأثر بمعان دينيّة فيها حكمة والتّسليم بقضاء الله وقدره، وإن بدا شامتا، فهو يرى أنّ ما حلّ ببغداد، هو ما حدث لقوم عاد بصرصرها، مبيّنا أنّ الإنسان لا يعرف ما يخبّئ له الدّهر من حوادثَ تصيبه مرّة أو تجافيه أخرى، فيقول :
= لا تعلمُ النفسُ ما يبايتها = = من حادث الدّهر أو يُباكرها
كما يتصوّر الخريميّ أنّ ما أصاب بغداد هو بظلم أهلها لأنفسهم، فهو عقاب لهم، تصوّر قد يُقبل أو يردّ، يقول :
= أمهلها اللهُ ثمّ عاقبها = = لمّا أحاطت بها كبائرها
= حلت ببغداد وهي آمنةٌ = = داهية لم تكن محاذرها
ثمّ يقول إنّ الموازين انقلبت، فغدا العبدُ سيدا والحرةُ عبدة، فتغيّر الحال:
= حَطَّم العبدُ أنفَ سيّده = = بالرّغم، واستعبدت حرائرها
وأمّا ابن الروميّ فيستنهض الهمم؛ ليلهب حماس القوم لإعادة البصرة، فعليهم أن يغضبوا لما حلّ بها من دمار، داعيا إياهم إلى الدّفاع عن مدينتهم، مدغدغا مشاعرهم الدّينيّة لضرورة الغيرة على محارم الإسلام، فهم أمّة النّبيّ محمّد عليه السّلام، وحقّهم القيام وعدم التّقاعس أو القعود، ليشتروا الجنّة الباقية ودار الخلود، وقد رسم لهم سؤال الله وحسابهم عن تخاذلهم عن الدّفاع عن ديار الإسلام بأسلوب خطابيّ وسؤال مباشر، وعبارات حماسيّة فيها استفزاز مثل: "أدركوا ثأرهم"، " فأقرّوا عيونهم بانتقام"، و"انقذوا سبيهم"، و"بادروه" إلى آخره. ويقول في ذلك:
= يا عبادي: أما غضبتم لوجهي = = ذي الجلال العظيم والإكرام
= أخذلتم إخوانكم وقعدتم = = عنهم، وَيْحكم، قعود اللئام ؟
= إن قعدتم عن اللعين فأنتم = = شركاء اللعين في الآثام
ولعلنا نلحظ أثر الشّعوبيّة، كون الخريميّ فارسيا، في قوله:
= أفراخُ نعمى في إرث مملكة = = شدّ عراها لها أكابرها
ثمّ إشارته إلى تعدّد الفئات السّكانيّة من الصّقالبة والأحباش وأهل السّند والهند والنّوبة، بقوله:
= أين الجراديةُ الصّقالب والــ = = أحباش تعدو هُدْلا مشافرها
= بالسّند والهند والصّقالبُ الــ = = نوبة شِيَبتْ بها برابرها
والخريميّ لا يلبث أن يذكر موازنته بين حال بغداد قبل النّكبة وبعدها بصورة قصصيّة وخبريّة الأسلوب، يرويها بشعره، عمّن قالوا أو وصفوا له ما حدث، في صور حركيّة فيها من تراسل الحواس ما يعطي النّصّ نبضه وحيويته، واستغرق ذلك من البيت الأوّل حتّى البيت مئة وخمسة، واصفا صورة الخراب بأبيات تزيد عن الأبيات الّتي وصف بها بغداد قبل النّكبة.، ولعلّ دلالة العدد تشي بعظم المأساة في بغداد وفداحة الحدث، ثمّ إنّ الألفاظ الّتي استخدمها موحية وقويّة، توضّح صورة النّكبة، فالخيل تعدو بالأسواق بشاهري السّيوف وحاملي الخناجر، والنّفط والنّيران في الشّوارع والدّروب، وقد انعقد الدّخان سحابات سوداء، واللّصوص ينهبون، والحرائر خرجن من دورهنّ حاسرات الرّأس وناشرات الشّعور.
وأمّا ما يُلاحظ في موازنة ابن الرّوميّ لحال البصرة في صورة مأساويّة بادئا بما حلّ بها من الدّمار، ثمّ واصفا المدينة قبل التّخريب في مشاهد حيّة ومتلاحقة من البيت الأوّل حتّى البيت الخمسين، متفاعلا بإحساسه ومشاعره مع الحدث آسفا عليه.
وإذا كانت قصيدة ابن الروميّ تقوم على الموازنة بين حال البصرة قبل الثّورة وبعدها، ثمّ انتهت بخاتمة طويلة من الأبيات (51-85) تدعو إلى الانتقام وتستنهض الهمم، فإنّ قصيدة الخريميّ الّتي أيضا قامت على الموازنة بين حالين، جاءت لتنتهي المرثية عند البيت (105)، ليبدأ الخريميّ بمدح الخليفة المأمون من الأبيات (106-131) ، ثمّ في الأبيات الأربعة الأخيرة، ختم القصيدة مبيّنا سبب مدحه، بأنّه لم يبغ منه إلّا النّصيحة والمشورة.
ومن النّاحيّة الفنيّة، فإنّ ابن الروميّ استخدم الأساليب الإنشائيّة في أبياته أكثر من الخريميّ الّتي جاءت أبياته خبريّة في الغالب، وقد استخدم الأخير الجناس والطّباق بشكل واضح في أبياته مثل
= سمت إليه آمال أميّة = = منقادة بُرّها وفاجرها
= و"الكرخ" أسواقها معطلّة = = يستنّ عيّارُها وعاثرها
ولعلّ استخدام الخريميّ ضمير الغائبة (ها) في نهاية قصيدته الّتي جاءت في بحر المنسرح، تعبير عن آهات بغداد الّتي أصابها ما أصابها جراء الفتنة، بينما ابن الروميّ كانت قصيدته في الخفيف وبقافيته الميم المكسورة.
وممّا يلاحظ في شعر رثاء المدن أنّه يفيض بالحزن واللّوعة، ولكنه مع ذلك يكتظّ بالحماسة والقوّة وتمجيد الماضي والاستلهام منه للإفادة منه للحاضر، كما أنّه يُضرم الحميميّة في نفوس الشّباب المسلم للدّفاع عن العروبة حتّى الموت دفاعا يقوم على البأس والبسالة والاستطالة.
فلم يكن رثاء الشّاعرين المدينتين مثل رثائهما الأشخاص، كما أنّ ابن الروميّ ينطلق في رثائه من واقع ذاتيّ محض نتيجة للعلاقات الوجدانيّة المختلفة الّتي تربطه بمدينة البصرة المنكوبة، وليس ذلك للخريميّ، فابن الرّوميّ تجاذبته مشاعر الحبّ والنّقمة معا، فنجد في رثائه الجديد على مستويين يجمعان بين الشّعور الإنسانيّ والتّعبير الفنيّ.
= = =
ديوان الخريميّ، جمعه وحققه: علي جواد الطّاهر، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1971.
بكاء الأوطان في قصيدة رثاء بغداد للخريميّ، سهام الصّفديّ، رسالة ماجستير، جامعة خضير بسكرة، الجزائر، 2016.
ديوان ابن الرّوميّ، تحقيق: عبد الأمير مهنّا، ط1، دار مكتبة الهلال، 2001.
ابن الرّوميّ، جورج معتوق، ط2، الشّركة العالميّة للكتاب، 1984.
ديوان ابن الرّوميّ، شرح حسن الشّيخ، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1994.
الشّعر والشّعراء، ابن قتيبة، تحقيق: أحمد شاكر، ط2، دار المعارف، القاهرة.
تاريخ الرّسل والملوك، الطّبريّ محمّد بن جرير، دار المعارف، القاهرة، 1970م، ج3، 4، 7.