تسنيم الحبيب - الكويت
تجليات الفقد في بيت آسيا لاستبرق أحمد
تجليات الفقد: قراءة في نصوص بيت آسيا للكاتبة إستبرق أحمد
كانت المعاناة ولم تزل هي السُّقيا الأجزل في ضخ مخيلة المبدعين، وقيل: الحزن زاد الكاتب.
وهنا في محاولة لمقاربة روح العمل الأدبي السردي "بيت آسيا" للكاتبة الكويتية إستبرق أحمد، أجد أني أمام كاتبة تمكنت بمهارة من تشكيل هذا الحزن الكثيف الذي صب في وجع الفقد من خلال نصوص مفتوحة تأخذ لون السرد الحر.
"بيت آسيا" أحد فصول المجموعة القصصية "الأشياء الواقفة في غرفة 9" الصادرة عن دار الفراشة (الكويت) في عام 2014.
عند التلقي الأولي لهذه النصوص، يفهم القارئ أنه يواجه حيلة إبداعية، حيلة تجيدها الكاتبة إستبرق أحمد، التي تؤكد في كل عمل تقدمه أنها تخرج من الأطوار النمطية إلى الابتكار في تشكيل النص والتجديد والتجريب في هيكله. وللدقة كانت هذه النصوص بمثابة المأزق في التلقي، لماذا؟
لأن النص المفتوح إذا تحول إلى وسيلة للبوح ونزح لإفراغ الهم الذاتي فقد ألقه وربما متانته وامتداده وسعة أفقه، وحُجّم وقيّد بالحالة المقدمة، وتحول إلى سطور من الخواطر والمشاعر. لكننا هنا نُعاين نقيض ذلك تماما، فبالرغم من أن نصوص هذا الجزء من المجموعة يتمحور حول حالة الفقد الخاصة التي تُضمّنها القاصة في نصوص عدة هي: أكره الأشياء الواقفة في غرفة 9؛ هاتف أبريل؛ أغنية أمي الجزائرية؛ بيت آسيا؛ 1+1 =1
إلا أن القاصة استطاعت عبر مثلث الرمز واللغة والسعة تطويع النصوص لتتحول من (حالة) إلى (إحالة)، ومن تجربة ضيقة إلى فضاء متسع، ففلتت الذاتية من الإطار، وصار النص فسيحا، والبيت بيتا لكل الحزانى الفاقدين.
ويعد هذا من حيل الكاتبة التي تقدّم هذه التجربة بأدوات متمكنة لتصف في مصاف الكتابة الإبداعية، تلك الكتابة غير المترفعة والتي تربطك بها كقارئ، وتُشعرك بحفاوة الخصوصية، وتقول لك: هذا الحزن حزنك أيضا. وهذا البوح بوحك. وهذا النص نصك.
تماس إنساني وتقاطع حيوي
الكتابة حول الفقد تمس جميع شرائح التلقي، وتحرك شيئا، إن لم تكن أشياء، من أعماق النفس، فمن منا لم يمر بتجربة الفقد، على اختلاف مقدار التأثر والخصوصية؟ ومن منا لم تبق له هذه التجربة إرثا من المرارة وإن عبرها؟
السؤال الهام هو: هل تتحقق ذروة إبداع الكاتب حين يصوغ حيوات مشابهة لهمومنا اليومية أم عندما يقدم الجديد؟ أم أن المقياس هو مدى متانة كيان النص بمعزل عمّا يقدمه؟
تختلف الإجابة هنا حسب الذائقة. لكن استقراء بسيطا لتأثر الأوساط القرائية لنوعية ما يقدم من النتاجات الأدبية والفنية والتعبيرية بشكل عام يؤكد على أن الإنسان يبحث عن ذاته في أي عمل إبداعي، ويستنطق مكوناته ليجد معاناته الشبيهة، وإن كان بريق اكتشاف الجديد أيضا يبهره.
القضية هنا أننا في نصوص بيت آسيا نُبهر بالجديد، ونكتشفه بحس القديم الأليف ووجع اليومي الملتصق. فالنصوص مبتكرة، باشتغال غير مألوف، وتراكيب لغوية غير مستهلكة، لكن الوجع أليف ومفهوم كالمرآة.
لا نقدر أن نقول إن الكاتبة اختارت الأم كثيمة أساسية للنصوص، ولا نقدر أن نؤكد أن الكاتبة انتقت الأم بطلة للحكايا، فالعملية الإبداعية هنا خرجت من طور الانتقاء إلى مرارة فرضها الواقع، فلربما بدت الفكرة ملحاحة، تواقة للتجسد عبر الكلمة، مصرة على التكوّن، والصيرورة في نص ذي أبعاد متعددة، من متعة مسرودة إلى ألم سخين.
تفتح لنا القاصة عبر اللغة باب البيت، وتأخذنا في رحلة من غرفة المشفى (غرفة 9) إلى غرف البيت، ولون الثوب، ورائحة العطر، ونوع الطعام، ولعب الأحفاد، وتضاريس المعناة. حين تفعل ذلك، تجسد لنا الألم الكامن في أشياء في غرف عديدة، كبيرة، ذات أبواب تفتح أبوابا، لكنها دون سقف ولا جُدر، دونما حد.
من الأمثلة على ذلك (ص 39):
"في جوفك أيها الدولاب حقيبة جديدة، ماركة بربريز، تحبها المرأة/الأم، ثوب بنفسجي، وآخر بلون يستجدي البهجة، ألوانها الصادحة فرحا لا تشع.
ثلاث بطانيات: حمراء، بيضاء بورود حمراء، بنفسج أيضا، جميعها رموز حرقة لم نتبينها.
ملابس لا ترتديها.
أحزاني لا أخلعها.
بجواري أخوة يكدسون الطمأنينة بروحي، من أجل المرأة.
ولا رماد يخمد المرض المستعر، تهب الوريد العافية، ببابك الموارب على الخيبات، كيف فتح باب آخر للعبور؟
ياه أيها الدولاب كم أكرهك!" (ص 39).
الرمز دهشة التأويل
لكل كاتب سمة معينة، روحه التي ينفخها في حرفه، فيحسن تشكيل نصه أو يخفق. ولطالما كان الرمز معبرا لإضفاء قيمتين على النص، إن لم تكن أكثر، هما قيمة تعميق المعنى بتجريب مدهش لا يدلق الصورة والفكرة بطريقة مكرورة، وقيمة الجنوح إلى التأويل وما فيها من اتساع.
في نصوص "بيت آسيا" العديد الجميل من التراكيب الرمزية التي أسهمت في غناء ومتانة النص، وعمّقت تأثيره في نفس المتلقي وجنحت به إلى فضاءات أرحب. على سبيل المثال:
"نعم أنا لا أراوغ. ومن دون شك لا أتجمل، لكنني يا أمي ارتديت قميص الكذب ولا أحد يقده لأعيش" (ص 49).
"ما زلت لا أمشي على الأرض. ما زلت أخوض بنهر لا تجف كائناته البكاءة ما زلت أعيش لأندم. لأفهم. لأتذكر" (ص 56).
الأم هي كل الحكايا
على الأعم، يتعاطف المتلقي مع النص إن كان يحمل حزنا ذاتيا، ويضاف لذلك أن يحمل الكاتب تجربة " قالبية " تعود بالقارئ لملامح من سيرته وتجاربه الخاصة، لكن الأجمل أن تجعله بعد الانتهاء من القراءة ألا ينسى هذا الإصدار ويبقيه مطبوعا في أعمق أعماقه، كمتلازمة دائمة يعود بذاكرته إليها كلما جد خطب مشابه أو مر بوقف قريب أو عبرته التجربة.
أعتقد أن إستبرق أحمد تمكنت من ترسيخ هذه النصوص في الوعي، خالقة لها ألف درب للعودة إلى الذاكرة، مؤكدة رسالة هامة، انتزعت القبول من القارئ الذي أذعن من خلالها أن الأم هي لب الحكايا.
- غلاف مجموعة قصصية لاستبرق أحمد