بحوث - د. عدلي الهواري
هل يمكن قياس الديمقراطية؟
صدر في لندن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 كتاب يتضمن تقييما لوضع الديموقراطية في الأدرن خلال العقدين 1990-2010. يتزامن صدور الكتاب مع الذكرى السنوية التاسعة والعشرين لإجراء انتخابات نيابية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، وهي أول انتخابات من نوعها منذ 1967، واعتبرت استئنافا للحياة الديمقراطية في الأردن.
عملية التقييم تمت وفقة منهجية تعرف بالتدقيق الديمقراطي (democratic audit)، واعتمدت على استبيانين ومقابلات شخصية جرت من 2008 وحتى 2010. وكانت المقابلات مع شخصيات من مختلف الاتجاهات في الأردن. وقد تم تحديث التقييم للسنوات 2011-2018 بإضافة فصل جديد سلط الضوء على أهم التطورات المرتبطة بالتقييم الأصلي.
الكتاب الجديد مكمل لآخر صدر نيسان 2018 عن مدى توافق الديمقراطية مع كل من الإسلام وما يسمى الإسلام السياسي. ويركز على الجوانب العملية في الممارسة الديموقراطية كدور الأحزاب والبرلمان والإعلام والمجتمع المدني، إلى آخره في الأردن خلال عقدين (2010-1990) أي منذ إجراء أول انتخابات نيابية أواخر عام 1989 بعد توقفها منذ عام 1967 إلى ما قبل الاحتجاجات الجماهيرية التي شهدتها بضع دول عربية في نهاية 2010 وبداية 2011.
أدناه فصل من كتاب صدر حديثا عنوانه "تقييم الديمقراطية في الأردن 1990-2010".
هل يمكن قياس الديمقراطية؟
يعترف سويسر ودي ميجيل (2008) بالشك فيما يتعلق بقياس الديمقراطية ويقولان «إن جدوى ومدى أهمية «قياس» حقوق الإنسان والديمقراطية والحوكمة كانت منذ فترة طويلة مثيرة للجدل في أوساط المهتمين بحقوق الإنسان وفي الوسط الإحصائي الدولي أيضا» (ص 157). لكنهما يشيران إلى أن هناك «حاجة إلى مؤشرات لقياس الديمقراطية وحقوق الإنسان»، لأنها «تعتبر على نحو متزايد أساسية للحوكمة الرشيدة» (ص 169).
تختلف شدة انتهاكات حقوق الإنسان، ولها نتائج ملموسة. ولذلك، فإن محاولة تحديد درجة الاختلاف في الانتهاكات أمر منطقي. هيومانا (1987) أصدر مؤشرا خاصا بحقوق الإنسان في 120 دولة. وردا على التشكيك في قياس انتهاكات حقوق الإنسان، يشير هيومانا (1987، ص vii) إلى استنتاج بانكس (1985) الذي يقول فيه إنه يمكن استخدام الإحصاءات في خدمة حقوق الإنسان، مثلما تستخدم في مجالات أخرى[1]. سأناقش هذا الشك في قسم آخر من هذا الفصل.
قبل ذلك، أود أن أشير إلى كيف وصف بعض الباحثين الذين درسوا الديمقراطية والإسلام في الأردن مدى الديمقراطية في البلاد. يستنتج الشرعة (1997) أن «الأردن برز بوصفه البلد الأكثر انفتاحا ديمقراطيا في العالم العربي، بمعنى أن كل الجماعات والاتجاهات السياسية بما في ذلك الإسلاميون، يمكنها المشاركة في العملية السياسية» (ص 323). ليس واضحا ما يعني الشرعة بقوله «الأكثر انفتاحا ديمقراطيا»، وسبب اختياره المقارنة ضمن العالم العربي فقط. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحال: هل توجد دول ديمقراطية في العالم العربي؟ وكيف يمكن استنتاج أن الأردن الأكثر ديمقراطية بينها؟
نويون (2003) تقول إن الأردن «سمح للإسلاميين بحرية أكبر للتنظيم، وبإدارة ذاتية أكبر في نشاطاتهم الاجتماعية والسياسية مقارنة بمعظم الدول العربية الأخرى» (ص 81). ووفقا لروبنسون، «كانت المهمة الأساسية للبرلمان إضفاء الشرعية على أجندة الملك حسين» (ص 393). يختلف روبنسون مع الرأي القائل إن شعبية الإسلاميين تراجعت. ويقول إن نتائجهم كانت «حسنة جدا في نظام انتخابي صمم بشكل واضح للعمل ضد مصلحتهم» (ص 399). ومقياس النجاح يعكسه الفوز بـ«أكثر من ربع مقاعد البرلمان»، الذي يعادل «ثلث عدد المقاعد المستثناة من الكوتا» (ص 399).
يدرس لوكاس (2005) «ملامح الأنظمة الاستبدادية التي تسهل استقرار الاستبداد» (ص 1). ويسعى لشرح كيف «تمكن النظام الأردني من مواجهة تحديات البقاء الخارجية والسيطرة على التهديدات الداخلية». ويتساءل: «هل يمكن لنجاح الملكية الأردنية شرح الديمومة المدهشة للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي؟» ويشير لوكاس أيضا إلى أن بحثه «يهتم باستخدام النظام الأردني القواعد المؤسسية في ثلاثة مجالات: الأحزاب السياسية والبرلمان الأردني [...] والصحافة» (ص 7).
تقول بولبي (1999): رغم أن «تحقيق الديمقراطية الليبرالية لم يكن هدف الإخوان النهائي، إلا أن دور الجماعة كان قوة محرّرِة في السياسة الأردنية» (ص 116). وتؤكد شويدلر (2006) أن الأردن ليس «قريبا من تلبية المظاهر الأساسية للديمقراطية» (ص 2). ويوضح لينش (1999) أن «النقاش السياسي في الأردن أصبح حرا ومفتوحا إلى حد لافت، حتى حول أكثر المواضيع حساسية» (ص 31). ويشير مودل (2002) إلى أن «سياسة الدولة الجامعة تجاه جماعة الإخوان عززت تحالف الجماعة-الهاشميين» (ص 3).
إن العامل المشترك بين الآراء المتنوعة في حال الديمقراطية في الأردن أنها معتمدة على انطباعات وليس على معايير محددة. وهذا الوضع يدعو إلى تقييم الديمقراطية في بلد ما وفق معايير واضحة. منهجية التدقيق الديمقراطي تعتمد على معايير محددة تهدف إلى الوصول إلى تقييم مفصل. ومع ذلك، قبل أن أشرح لماذا تتفوق مزايا التدقيق الديمقراطي على الطرق الأخرى، سأذكر عدة تقييمات تستند إلى أساليب ومعايير متنوعة لقياس حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية في الأردن والدول الأخرى.
الفهارس والتقييمات الأخرى
هيومانا أعد مؤشرا بالاعتماد على استبيان مكون من أربعين سؤالا. نسخة الفهرس الصادرة في عام 1983 «شملت بنودا غير مشمولة في الصكوك الدولية لحقوق الإنسان» (ص viii). ولكنه عدل الاستبيان لتكون كل الأسئلة «مستخلصة بالكامل» من الصكوك (ص viii). بعد استلام الإجابات عن الاستبيان يقيم هيومانا كل سؤال ويستخدم نظام تقييم مكون من أربع درجات: نعم بحروف إنجليزية كبيرة (YES)، ونعم بحروف صغيرة (yes)، ولا بحروف صغيرة (no)، ولا بحروف كبيرة (NO). العلامات المقابلة لكل درجة هي 3؛ 2؛ 1؛ 0.
ويعطي هيومانا وزنا أكبر لبعض الانتهاكات، فالتهديد مثلا له درجات من الشدة. في حال حصول هيومانا على معلومات ناقصة، يعد تقريرا موجزا عن البلد المعني. وضع هيومانا هذه الفئة من التصنيف ليمكنه أن يغطي الدول التي توفرت حولها بعض المعلومات «ولكنها لا تشمل البنود المحددة في الاستبيان» (ص 4). الدرجات ضمن هذه الفئة هي «حسن» مقابل علامة تبلغ 75 في المئة أو أكثر؛ «ضعيف» لـعلامة بين 75-41 في المئة؛ وسيء لعلامة أقل من 40 في المئة.
يظهر الأردن في فهرس هيومانا ضمن الدول التي كتب عنها تقريرا موجزا، والدرجة التي منحها له هي «ضعيف» (ص 150). يذكر هيومانا (ص 150) أربعة أسباب لهذا التقييم: (أ) «سلطة الملك المطلقة»؛ (ب) «النزاع المستمر مع إسرائيل»؛ (ج) «تطبيق الشريعة الإسلامية على جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية والشخصية»؛ (د) «أقلية مهمة من الفلسطينيين، أكثر من ربع السكان، لا تزال تسبب عدم الاستقرار».
ويشير إلى سببين إضافيين يؤثران على حقوق الإنسان في الأردن: (1) «الأهمية الاستراتيجية للبلد والنظام» للولايات المتحدة؛ (2) «المحافظة على سلطة الملك الحالي لها الأولوية على حقوق الإنسان» (ص 150). ليس من الواضح لماذا يعتقد هيومانا أن الفلسطينيين في الأردن «يخلقون عدم استقرار» والنوع الذي قصده. ولكن بصرف النظر عن سبب اعتقاده، يطرح التدقيق الديمقراطي أسئلة عن المواطنة لتحديد مدى الاتفاق على المبدأ في الأردن. وإشارة هيومانا إلى الأهمية الاستراتيجية للبلد يتعرض لها التدقيق الديمقراطي من خلال أسئلة عن التأثير الخارجي على الديمقراطية في الأردن.
تصدر مؤسسة فريدوم هاوس (Freedom House) تقريرا سنويا تضع فيه جميع دول العالم في ثلاث فئات: حرة، حرة جزئيا، وغير حرة. يرد الأردن في التقارير السنوية المختلفة ضمن فئة حرة جزئيا. تعتبر فريدوم هاوس (2010) نفسها «صوتا واضحا للديمقراطية في جميع أنحاء العالم». وكما يوحي اسمها فهي تعتبر الديمقراطية والحرية أمرا واحدا.
يصنف سارتوري (1962، ص 281-284) الحريات في فئتين: حرية القيام بأمور، وحرية تحمي المواطن من أمور أخرى. ويرى أن الحريات الحرية السياسية تهدف إلى حماية الفرد من سلطة الدولة (ص 283). تعرّف فريدوم هاوس (2010) الحرية بأنها «فرصة التصرف بتلقائية في مجالات متنوعة خارج سيطرة الحكومة و/أو مراكز أخرى ذات هيمنة محتملة». تقييم فريدوم هاوس للحقوق المدنية والسياسية يعتمد على المعايير العالمية الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
يتكون تقييم دولة ما من تقرير تحليلي ودرجات عددية (1-7، حيث الدرجة 1 تعني أن الدولة حرة أكثر من التي تمنح الدرجة 2). العلامات التي تقابل الدرجات تحدد كالتالي: الدرجة 1 مقابل علامة 36-40؛ 2 (30-35)؛ 3 (24-29)؛ 4 (18-23)؛ 5 (12-17)؛ 6 (6-11)؛ 7 (0-5).
في فئة الحقوق السياسية، هناك ثلاثة أقسام فرعية: العملية الانتخابية؛ التعددية السياسية والمشاركة؛ وعمل الحكومة. تحتوي كل فئة على أسئلة عامة، وفي كل منها أسئلة فرعية. هناك اثنان وسبعون سؤالا، ثمانية منها اختيارية ومخصصة «للمملكات التقليدية التي لا يوجد فيها أحزاب أو نظام انتخابي» ولسلطات الاحتلال. على ضوء الطريقة أعلاه، يتبين أن الرأي القائل إن الحرية والديمقراطية ليسا أمرا واحدا رأي صحيح.
قد تختار مملكة على سبيل المثال أن تكون ليبرالية وتسمح للناس بحرية التعبير، لكن الحكومة فيها غير منتخبة. ومع ذلك، فإن الطريقة والقائمة اللتين تستخدمهما فريدوم هاوس تظهران أنها تقيم مدى ديمقراطية الدولة، ولكن فريدوم هاوس تفضل استخدام حرية بدلا من ديمقراطية وديمقراطي. أحد الأسباب المحتملة لهذا التفضيل أن للحرية دلالات أكثر إيجابية، فصفة «ديمقراطية» أضيفت إلى أسماء دول ليست كذلك، وخاصة أثناء الحرب الباردة، كما في حالة ألمانيا الشرقية واليمن الجنوبي.
وحدة الاستخبارات التابعة لمجلة الإكونوميست البريطانية تتولي تقييم الديمقراطية في دول العالم. وأصدرت «مؤشر الديمقراطية» في عامي 2007 و2008، وصنفت فيهما دول العالم في أربع فئات: (1) ديمقراطيات كاملة؛ (2) ديمقراطيات ناقصة؛ (3) أنظمة هجينة؛ (4) أنظمة استبدادية.
تعد الوحدة المؤشر وفق معايير خاصة بها، وهي تختلف عن معايير فريدوم هاوس، وترى أن تقييم الحريات السياسية والمدنية فقط، كما تفعل فريدوم هاوس ليس كافيا. اعتمدت وحدة استخبارات الإكونوميست خمسة مجالات للتقييم: (أ) العملية الانتخابية والتعددية؛ (ب) الحريات المدنية؛ (جـ) أداء الحكومة؛ (د) المشاركة السياسية؛ (هـ) الثقافة السياسية (تقرير مؤشر الديمقراطية لعام 2008، ص 2).
تضم كل فئة عددا من الأسئلة يبلغ مجموعها ستين سؤالا، أي بمعدل اثني عشر سؤالا لكل فئة. تمنح علامة لكل إجابة بحيث يبلغ مجموع العلامات في كل فئة عشر علامات. إذا بلغ معدل العلامات للفئات الخمس 8-10، تحصل الدولة على تصنيف ديمقراطية كاملة. إذا كان المعدل 7.9-6، يكون التصنيف ديمقراطية ناقصة. وإذا كان المعدل 5.9-4 يكون التصنيف دولة هجينة. إذا نقص المعدل عن 4 يكون التصنيف دولة استبدادية (تقرير مؤشر الديمقراطية لعام 2008، ص 18).
وبالنسبة لنظام العلامات التي تمنح على الإجابات عن الأسئلة الستين، تستخدم الوحدة نظاما من علامتين، وآخر من ثلاث. في النظام الأول تعطى العلامة 1 للإجابة عن السؤال بنعم، وصفر في حالة لا. في الكثير من الأسئلة يتم منح نصف علامة لان الأسئلة تتعلق بـ«مناطق رمادية». تقول وحدة استخبارات الإكونوميست إن نظام التقييم هذا لا يخلو من المشكلات، ولكنها تعتبره أفضل من نظامي 1-5 أو 1-7.
يظهر الأردن في مؤشر عام 2007 في المرتبة 113 نتيجة حصوله على المعدل 3.92 نقطة. وفي عام 2008، انخفضت المرتبة إلى 117، ولكن المعدل كان أفضل بقليل من معدل السنة السابقة، وبلغ 3.93. انخفاض المرتبة يشير إلى حدوث تحسن في دول أخرى أدى إلى التفوق على الأردن الذي بقي وضعه كما هو على أساس المعدل. في مؤشر عام 2010، حصل الأردن على المركز 117، وكان المعدل 3.74، وصنف الأردن ضمن فئة الأنظمة الاستبدادية.
مؤسسة بوليتي 4 (Polity IV) مشروع يرصد «خصائص النظام السياسي والتحولات، 1800-2008». بوليتي من الجهات التي تعتمد طريقة مختلفة في التقييم وتركز على أربعة مجالات (2009): (ا) السمات الرئيسية لتولي المناصب التنفيذية؛ (ب) القيود المفروضة على السلطة التنفيذية؛ (جـ) التنافس السياسي؛ (د) التغييرات في السمات المؤسسية للسلطة الحاكمة.
وفقا لـبوليتي (2009)، فإن «منهجيتها المفاهيمية فريدة». وتعزو ذلك إلى فحصها «السمات المصاحبة للسلطة الديمقراطية والاستبدادية في مؤسسات الحكم». تستخدم بوليتي مقياسا يتألف من 21 نقطة، تتراوح بين -10 (الملكيات الوراثية) وحتى +10 (الديمقراطيات الراسخة). العلامة التي تمنح لكل دولة تؤدي إلى إدراجها ضمن ثلاث فئات: حكم استبدادي (من -10 وحتى -6)؛ حكم هجين (من -5 وحتى +5)؛ وحكم ديمقراطي (من +6 وحتى +10).
بالنسبة إلى الأردن، تظهر بيانات بوليتي منذ عام 1946 أن الأردن لم يبلغ قط عتبة تصنيف الحكم الديمقراطي. تظهر في البيانات ذروتان قربتا الأردن من تصنيف حكم هجين. الذروة الأول كانت في 1956/1957، عندما تولى سليمان النابلسي رئاسة الحكومة لكونه زعيم الحزب الوطني الاشتراكي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب في انتخابات عام 1956. ويبدأ الاتجاه نحو الذروة الثانية في عام 1984 وتبلغ أعلى ارتفاع من عام 1992 وحتى 2006، ثم تعود إلى الانخفاض ثانية.
سلط كنعان ومسعد (2010) الضوء على العوامل السياسية والاقتصادية التي جعلت بوليتي ترفع درجة تقييم الأردن أو تخفضها (ص 87-112). وقالا إن الأردن «مثل معظم الدول العربية، عانى من الحكم الاستبدادي المستمر». وفسرا «مقدرة الملكية الأردنية على إعاقة الإصلاحات السياسية الحقيقية باستخدام حوافز ووسائل مختلفة ممولة إلى حد كبير من الواردات العامة الريعية (بلا ضرائب) وذلك لاستقطاب النخبة والطبقة الوسطى، وبالاعتماد على الدول الغربية» (ص 111).
ينشر مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية تقريرا سنويا عن حالة الديمقراطية في الأردن. يعتمد التقرير على استطلاع للرأي. في عام 2007، أشارت مقدمة التقرير إلى الأهداف التالية:
ويهدف الاستطلاع إلى معرفة توجهات المواطنين الأردنيين نحو التحول الديمقراطي في الأردن بشكل عام. ويشمل الاستطلاع قياس مستوى الديمقراطية كما يراها المواطنون، وماذا تعني الديمقراطية للأردنيين، وما هو شكل النظام السياسي الذي يرغب الأردنيون فيه، وأي نظام سياسي يرون أنه الأفضل لحل مشاكل الفقر والبطالة والفساد المالي والإداري[2].
هذه المقدمة تعتبر أن الأردن يمر في مرحلة تحول ديمقراطي. ومن الواضح أنها تعتبر تعريف الديمقراطية مسلما به، وكل أردني ملم به. ووفقا لمركز الدراسات الاستراتيجية (2008، ص 3):
تفهم غالبية الأردنيين الديمقراطية على أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحريات المدنية والسياسية، ولا يختلف هذا الفهم، في جوهره، عن مفهوم الديمقراطية في البلدان الديمقراطية المتقدمة. ومنذ استطلاع عام 1999 وحتى هذا الاستطلاع بلغ معدل الإجابات التي عرفت الديمقراطية على أنها حريات مدنية وحقوق سياسية %63 من مجموع الإجابات، وإلى جانب هذا الفهم السياسي للديمقراطية، هناك فهم سيسيولوجي يعرف الديمقراطية بربطها بالعدل والمساواة (%21) وبالتنمية الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية (%12). وهناك نسبة بسيطة تعرف الديمقراطية بالأمن والاستقرار (%4).
في الإشارة إلى الحقوق المدنية والسياسية، يبدو أن الاستطلاع يسترشد بالمعايير التي اعتمدتها فريدوم هاوس. منهجية التدقيق الديمقراطي لا تترك تعريف الديمقراطية للسياسيين أو الشعب للأسباب التي يذكرها بيثام في فصل آخر. المنهجية استخدمها وير وبيثام في عام 1999 لتقييم الديمقراطية في بريطانيا عندما كان توني بلير رئيس الحكومة، وبالتالي لا تفترض المنهجية مقدما أن بلدا كبريطانيا يعتبر ديمقراطيا ولا يحتاج إلى تقييم.
اعتمد استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية على انطباعات المستجيبين لا على معايير محددة. لذلك، رغم أن تقارير المركز قيّمة، إلا أنها لا تقدم تقييما معتمدا على معايير متعارف عليها. من الأمثلة على ذلك مقارنة الديمقراطية في الأردن مع دول أخرى:
وعند مقارنة مستوى الديمقراطية في الأردن مع دول أخرى، نجد أن الأردنيين يقيمون الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على أنهما ديمقراطيتان [...] ويقيمون السعودية، وسورية، وفلسطين، والعراق على أنها دول غير ديمقراطية. وبقي هذا التقييم متسقا مع التقييمات السابقة لمستوى الديمقراطية في هذه الدول منذ عام 1999 [...] وحتى 2006.
في المقابل، يدرج مؤشر الديمقراطية الذي تعده وحدة استخبارات الإكونوميست (2007) فلسطين في الفئة الهجينة [مزيج من الديمقراطية والاستبداد] (ص 4). تقييم مركز الدراسات الاستراتيجية لمستوى الديمقراطية في الأردن أكثر سخاء من التقييمات الأخرى المشار إليها أعلاه. ولهذا السخاء تفسيران. رغم حرص المركز على كونه مركزا مستقلا، إلا أنه يعمل في بيئة مطلوب فيها إظهار الولاء للأردن. ولا يشير المركز إلى المعايير المستخدمة في الوصول إلى ذلك الاستنتاج. استطلاعات الرأي ليست وسيلة موثوقة لتقييم مستوى الديمقراطية في أي دولة من دول العالم، بما في ذلك الأردن.
قياس الديمقراطية: نقد للطرق
يستعرض كلغ وستارمر ووير (1996) طرقا مختلفة تستخدم في تقييم «الحريات والحقوق السياسية» ويعتبرونها «غير مرضية». ويعتبرون المقاربات الكمية والنوعية لدراسات حقوق الإنسان «غير ملائمة». فيما يتعلق بالطريقة التي اعتمدتها فريدوم هاوس، يقول كلغ وستارمر ووير إن «المؤشر المستخدم في تقييم الحريات واسع جدا ويستند جزئيا فقط إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان [...] وبالتالي، يتبقى الكثير لتقدير «الخبير» المستقل المكلف بالإجابة عن هذه الأسئلة» (ص 14). أحد الأمثلة لتبرير هذا التحفظ يتعلق بقياس «استقلال المحاكم».
يشمل كلغ وستارمر ووير في هذا النقد منهجية هيومانا، ويقولون إنه «لا يقدم الكثير من المعلومات عن بروتوكوله للترميز». ويبدون ملاحظة صحيحة مفادها أن «التقييم النهائي» يقوم به «هيومانا نفسه». ويستعرض كلغ وستارمر ووير جوانب نقدهم للمنهجية الكمية. ويأخذون على سبيل المثال عدد المظاهرات المحظورة، ويقولون إن السؤال عنها «يمكن أن يكون مضللا» في غياب «إشارة إلى النشاط السياسي السائد في البلاد» (ص 15). كذلك، لا تكشف المقاربة الكمية المستويات المختلفة للتعذيب.
ويوجه المؤلفون الثلاثة نقدا مماثلا للمقاربة النوعية. فمع أنهم يشيدون بمنظمة العفو الدولية لأنها تصدر التقارير «الأكثر موثوقية»، يشيرون إلى أنها «تمتنع عن منح درجات أو تقييم الحكومات على أساس سجلها في مجال حقوق الإنسان» (ص 15).
ينطبق هذا النقد في رأيي على الطريقة التي يتبعها دايموند ومورلينو (2004) اللذان وضعا معايير لتقييم «جودة الديمقراطية». وهما يعترفان بأن مفهومهما «موضوع محمل بالقيم وبالتالي مثير للجدل» (ص 1). يتضمن تعريفهما للديمقراطية أربعة عناصر: حق التصويت لجميع البالغين؛ انتخابات تنافسية متكررة حرة ونزيهة؛ أكثر من حزب سياسي يعتد به؛ ومصادر بديلة للمعلومات (ص 3).
ويقولان إن الجودة في «قطاعي الصناعة والتسويق يشار إليها في ثلاثة سياقات: الإجراء والمحتوى والنتيجة» (ص 4). على هذا الأساس، فإن تعريفهم لجودة الديمقراطية هو «الديمقراطية التي توفر للمواطنين درجة عالية من الحرية والمساواة السياسية والسيطرة الشعبية على السياسات العامة وصانعي السياسات من خلال العمل الشرعي والقانوني للمؤسسات المستقرة» (ص 4).
بعد الحديث عن تعريفهما للديمقراطية والجودة، ينتقل دايموند ومورلينو إلى «تحديد ثمانية أبعاد تتفاوت على أساسها جودة الديمقراطية»، وهي سيادة القانون؛ المشاركة؛ المنافسة؛ المحاسبة العامودية؛ المحاسبة الأفقية؛ احترام الحريات المدنية والسياسية؛ التنفيذ التدريجي لمساواة سياسية أكبر (مدعومة بمساواة اجتماعية وسياسية)؛ والاستجابة (ص 5).
وفي رأيهما أن «تحليل الديمقراطية الجيدة يجب أن يستبعد الأنظمة الهجينة أو «الاستبدادية الانتخابية» (ص 3). إذا رغب المرء في استخدام معاييرهما لتقييم الديمقراطية في الأردن فعليه أن يبدأ بحكم مسبق، فإذا كان نظام الحكم في الأردن هجينا، فالديمقراطية فيه ليست جيدة. وإذا اعتبر الأردن دولة ديمقراطية، يمكن للمرء أن يبدأ في استخدام الأبعاد الثمانية لتقييم جودة ديمقراطيته. هذا المثال يوضح سبب كون التدقيق الديمقراطي خيارا أفضل، فهو لا يبدأ بحكم مسبق، بل يتم الحكم بعد إتمام التدقيق.
منهجية التدقيق الديمقراطي
ما هو التدقيق الديمقراطي؟ في تعريف ديفيد بيثام (1994، ص 25) «إنه المشروع البسيط ولكن الطموح لتقييم حالة الديمقراطية في بلد واحد».
المهمة ليست بسيطة أبدا، خاصة عندما ينظر المرء إلى الموارد المحدودة المتاحة لباحث واحد. عندما خطرت فكرة التدقيق الديمقراطي في بال بيثام، كان من الضروري تحديد «مواصفات لما يجب تدقيقه بالضبط»، وأن تكون هناك «معايير لتكون علامات قياس»، يتم التدقيق وفقها (ص 25).
رفض بيثام بعض المعايير المحتملة، أولها تقييم الديمقراطية «وفق المعايير التي يدعي الممارس [السياسي] أنه يسترشد بها». معيار آخر هو «القيم الضمنية في النظام السياسي». المعيار الثالث هو «ما يفهمه المواطنون أنفسهم أنه الديمقراطية» (ص 26). اعتماد المعيارين الأولين يعني قبول أن النظام ديمقراطي في حين أن هدف التدقيق تقييم مدى ديمقراطيته (بيثام 1994، ص 26).
والمعيار الثالث رفضه بيثام لأن «سوء استخدام مصطلح» الديمقراطية «في اللغة الشعبية جعله يعني أي ترتيبات سياسية تحظى برضا الشخص عنها، وأصبح خاليا من أي مرجعية موضوعية» (ص 26). كذلك، فإن اعتماد المعيار على «المؤسسات والإجراءات القائمة في الأنظمة السياسية الغربية» له عيبان: الأول أنه «لا يوجد سبب لوصف هذه المؤسسات بأنها «ديمقراطية» بدلا من «ليبرالية» أو «تعددية» أو «بولي آركية» [الحكم المتعدد] أو أي مصطلح آخر نريده.
مصطلح «الحكم المتعدد» (بولي آركي) استخدمه دال (1989) واعتبره أعلى مستوى من الديمقراطية. وفق مواصفات دال، للحكم المتعدد سمتان رئيسيتان، الأولى مواطنة واسعة النطاق لتشمل نسبة عالية نسبيا من السكان البالغين. والسمة الثانية، حقوق المواطنة، وهذه تشمل معارضة أعلى المسؤولين في الحكومة والتصويت على إزاحتهم من مناصبهم. ويتطلب الحكم المتعدد وفق تصور دال له سبعة أمور: (1) مسؤولين منتخبين. (2) انتخابات حرة ونزيهة. (3) حق الاقتراع الشامل. (4) الحق في الترشح للمناصب الرسمية. (5) حرية التعبير. (6) معلومات بديلة. (7) تمتع الجمعيات بالإدارة الذاتية (ص 220).
أعود الآن إلى مناقشة بيثام لمعايير التدقيق الديمقراطي، فمن الأسباب الأخرى لرفضه «ما يفهمه المواطنون أنفسهم أنه الديمقراطية» هو الاحتمال القوي أن يؤدي تطبيق هذا المعيار إلى توجيه الاتهام بأن المفهوم «أوروبي-مركزي» لأنه لا يقدم طريقة للتمييز بين «المؤسسات والإجراءات غير الغربية التي وفرت طرقا بديلة حقيقية لتحقيق الديمقراطية» (ص 26).
المركزية الأوروبية
قبل الاستمرار في استعراض رد بيثام على الاعتراضات التي يمكن إثارتها فيما يتعلق بالتدقيق الديمقراطي، أود مناقشة التهمة التي توجه في كثير من الأحيان للمفاهيم والحجج، أي أنها أوروبية مركزية. وفق تعريف سمير أمين (1989، ص 7):
الأوروبية-المركزية هي ظاهرة ثقافية بمعنى أنها تفترض وجود ثوابت ثقافية مميزة لا يمكن اختزالها تشكّل المسارات التاريخية للشعوب المختلفة. المركزية الأوروبية بالتالي معادية للعالمية، لأنها غير مهتمة بالبحث عن قوانين عامة محتملة للتطور البشري. لكنها تقدم نفسها على أنها عالمية، لأنها تدعي أن تقليد النموذج الغربي من قبل جميع الشعوب هو الحل الوحيد لتحديات عصرنا.
فيما يتعلق بالدمقرطة في العالم العربي، يرى الصديقي (2009) أن «النماذج الأوروبية المركزية، لا سيما الدمقرطة، لا تنطبق بسهولة على التجارب الديمقراطية العربية» (ص 10). ويشير إلى أن «الطرق والمفاهيم الأوروبية المركزية عصية على النقل» (ص 11). يقيم الصديقي تجارب الدمقرطة في العالم العربي «من خلال عدسة ضد-الأسسية» (ص 7). ويقول إن «علم الوجود القائم على ضد-الأسسية يعترف بأن الدمقرطة الأوربية-الأميركية هي وظيفة زمن، وهناك حاجة إلى معرفة محددة السياق لقراءة الانتقال الديمقراطي العربي» (ص 47).
الأسسية وضد-الأسسية
قبل مناقشة آراء الصديقي، من الضروري تحديد ما هو المقصود بالأسسية، وضد-الأسسية. حسب شرح ركمور وسنغر (1992) فإن «الأسسية هي نظرية معرفيّة تهدف إلى أن تكون مستقلة عن ادعاءات علم الوجود، وهي نظرية يبرر فيها العقل ادعاءه المعرفي» (ص 6). في المقابل، ضد-الأسسية هي «نقيض أشكال الأسسية المختلفة» (ص 8).
وبدقة أكبر، هي «الرفض المبدئي لأي جهد يهدف إلى التحقق من صحة ادعاءات المعرفة دون الاستناد إلى أساس مطلق أو نهائي معروف على وجه اليقين، سواء أكان اليقين لا يمكن بلوغه، أو أن نموذج المعرفة كهيكل موحد يرتكز على أساس من اليقين» (ص 8).
سعيد (2004) يضع نفسه ضمن «الأسسيين الخام». وهو يرفض القبول بأن «حقوق الإنسان هي أشياء ثقافية أو نحوية»، ويقول إن انتهاكات حقوق الإنسان «حقيقية مثل أي شيء يمكن أن نواجهه» (ص 136).
يلاحظ السيد (2010) أن الصديقي «يرفض الافتراضات الأساسية لمنظري الانتقال الديمقراطي، ويبحث عن اللبنات الأساسية لهيكل تحليلي آخر. غير أنه لا يكمل بناء الهيكل، ويترك هذه المهمة للمستقبل، ولكن دون أي تلميحات لشكل المبنى» (ص 185).
يعترف الصديقي (2004) بأن «ضد-الأسسية نفسها ليست فوق النقد، أو دون تحديات» (ص 57). ويشير في هذا الصدد إلى كرويل (1996) الذي يتهم مناهضي الأسسية «بإرساء أسس جديدة للفكر» (ص 57). لذلك، لا تؤدي عدسة الصديقي بالضرورة إلى تقييم أفضل للدمقرطة في العالم العربي.
هناك اتفاق في دراسات التحول الديمقراطي على أن الانتقال من الديكتاتورية يحدث من خلال مسارات مختلفة ولأسباب متنوعة. كل انتقال يتأثر بظروف واعتبارات محلية. وكما تلاحظ غيديس (2004): «كتب العديد من الدراسات الجيدة عن الانتقال الديمقراطي، ولكن القليل من التفسيرات العامة التي يطرحها الباحثون تبين أنها تنطبق على كل الحالات» (ص 2).
ومع ذلك، فإن الحكم على نموذج، أو مفهوم، أو أسلوب بأنه أوروبي-مركزي، حسب تعريف سمير أمين للأوروبية-المركزية يجب أن يصدر وفق معايير. وإلا ستكون هناك نزعة لرفض شامل لكل ما هو أوروبي وغربي. ويبدو لي أن الأوروبية-المركزية تحولت إلى تهمة سهلة لرفض الأفكار والمفاهيم والحجج. وتبدو شكلا من أشكال الاستغراب ردا على الاستشراق.
معايير عالمية أم خاصة بكل ثقافة؟
الجدل حول الأوروبية-المركزية له وجه آخر وهو حول معايير حقوق الإنسان: هل يجب أن تكون عالمية أم معايير خاصة بكل ثقافة؟ المعايير المستخدمة في التدقيق الديمقراطي عالمية. ليس لكل المسلمين اعتراض على هذه. يقول الغزالي (1990، ص 69):
إن الديمقراطيات الغربية إجمالا وضعت ضوابط محترمة للحياة السياسية الصحيحة، وينبغي أن ننقل الكثير من هذه الأقطار لتسد النقص الناشئ عن جمودنا الفقهي قرونا طويلة. وقد قلت وما زلت أقول: إننا أغلقنا باب الاجتهاد قرابة ألف عام، فإذا سبقنا غيرنا في شؤون إنسانية مطلقة، فلا معنى لابتداء السعي من حيث وقفنا متجاهلين كدح غيرنا نحو الكمال!
رأي كهذا يقودني إلى اعتبار رفض الصديقي انطباق المفاهيم الأوروبية والغربية على الدول العربية وغيرها رفضا في غير محله. الأفكار العربية أو الإسلامية أو الهندية أو الصينية أو غيرها لا يجوز رفضها على أساس كونها أفكارا خاصة بثقافة معينة. تبادل التلاقح ظاهرة صحية.
رغبة بيثام في تجنب تهمة الأوروبية المركزية تستحق الثناء، إلا أنه لا يمكن تفاديها حتى لو حاول المرء ذلك جاهدا. الأمر نفسه ينطبق على الحجج المتعلقة بعالمية الحقوق والمعايير الأخرى. طالما بقيت أوروبا (أو الغرب بشكل عام) أكثر تطورا، فإن شيئا من الأوروبية-المركزية لا يمكن تفاديه.
الدول الساعية إلى تطوير أوضاعها تحاكي الغرب إلى حد كبير رغم محاولات الحفاظ على هوية ثقافية فريدة. لو نظرنا إلى حالة الصين كمثال على أن التحديث لا يعني التغريب، فإن هذا المثال صحيح جزئيا. إذا فهم التغريب بمعنى سطحي، مثل ارتداء الملابس الغربية، والاستماع إلى الموسيقى الغربية، وتناول الوجبات السريعة الغربية، فسوف أتفق مع الرأي الذي يرى أن الشعب الصيني قد يرغب في الاحتفاظ بما يفضله من أذواق وأساليب.
ولكن إذا وسع نطاق هذا الرأي ليشمل القول إن الشعب الصيني يفضل الحريات المحدودة، فعندئذ لا أتفق معه. الناس في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن العرق والدين والثقافة، يحبون الحرية.
أحد الاعتراضات على التدقيق الديمقراطي هو «طابع ونوعية الديمقراطية في بلد ما لا يمكن تقييمهما من خلال قائمة من المعايير التي تعتبر مستقلة عن بعضها بعضا» (بيثام 1994، ص 31). أساس الاعتراض هو أن «نظاما سياسيا ما يعمل من علاقات معقدة بين مختلف المؤسسات والممارسات» (ص 31). يوافق بيثام على صحة الاعتراض ولكنه يقول إنه «لا يترتب على ذلك تخلينا عن تبني معايير عامة لتقييم ممارسات مختلفة في دول أو نظم سياسية مختلفة» (ص 31).
هناك اعتراض آخر يتعلق بـ «ما إذا كان من المناسب للأكاديميين المشاركة في مثل هذه الممارسة القائمة صراحة على التقييم وإصدار الأحكام» (ص 35). يشرح بيثام (1994، ص 35) أن مشاركة من هذا القبيل لا تعتبر مشكلة في كل المجالات الأكاديمية، لأن «الذي يعملون في مجال النظرية السياسية المعيارية يواجهون صعوبة أقل في هذا الشأن مقارنة بالذين يعملون بشكل رئيسي في العلوم السياسية التحليلية والاستكشافية».
ويضيف بيثام: كل مؤشرات الديمقراطية «قائمة بالضرورة على التقييم وإصدار الأحكام» (ص 35). اختيار درجة من سلم درجات أمر ينطوي على إصدار حكم، وخاصة عندما تصبح الأحكام دليلا يستخدم في السياسة الخارجية لبلد تجاه آخر. وليس من غير المعقول أن تسأل الدول التي تدمغ بحكم الدولة التي أصدرت الحكم إن كانت مستعدة لأن تُقيم باستخدام معايير مماثلة.
وبعد أن يفرغ بيثام من شرح ما للتدقيق الديمقراطي وما عليه، يحدد ثلاثين مؤشرا للديمقراطية. وتم تطوير الأسئلة بعد التعاون مع المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، التي يبلغ عدد الأسئلة في استبيناها تسعين سؤالا.
رغم رد بيثام على الاعتراضات المختلفة، فإن الجدل حول المعايير التي يجب استخدامها يستحق إجراء المزيد من المناقشة، خاصة فيما يتعلق بما إذا كان يجب أن تكون هناك حقوق عالمية. أحد الانتقادات الموجهة إلى المعايير العالمية هو أن «فيها تحيزا ليبراليا غربيا» (هيومانا 1987، ص 5).
يتفق هيومانا مع الملاحظة ويؤكد أنها «حقيقية لا يمكن إنكارها». ولكنه يقول إن الدول التي تنضم إلى الأمم المتحدة تفعل ذلك طواعية. ويشير إلى أنه حتى بعد فعل ذلك، لا تزال هناك فجوة بين النظرية والممارسة. ويذكر، على سبيل المثال، الدول الإسلامية التي انضمت إلى الأمم المتحدة، ومع ذلك فإنها تعطي «دينها وتقاليدها الأولوية على واجبها تجاه الأمم المتحدة، وهذه حقيقة لا خلاف عليها» (ص 5).
وتعارض موف (2008) نهج العالمية. وتؤيد وجود «نوع من التعددية دافع عنه كارل شميت» الذي «أصر على أن العالم متعدد الأكوان وليس كونا واحدا». وتفضل نظاما عالميا متعدد الأقطاب لأن في ذلك حماية من الهيمنة.
هذا أمر جيد لو كان صحيحا. من المرجح جدا أن يتم في عالم متعدد الأقطاب تقاسم الهيمنة بين القوى الكبرى، وأن تمارس في مناطق نفوذ كل منها. هكذا كان الوضع قبل أن يصبح العالم ثنائي القطب أثناء الحرب الباردة. أميركا اللاتينية كانت مخصصة للهيمنة الأميركية. وبريطانيا وفرنسا اتفقتا على الأراضي التي تريدان استعمارهما في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
الاتجاه العام لرأي موف سليم. ولكن عندما يتعلق الأمر بجوانب محددة، تصبح نظرتها إشكالية، وخاصة عندما تناقش حقوق الإنسان، فهي تقول: «هناك شيء إشكالي حول فكرة حقوق الإنسان التي يجب قبولها من جميع الثقافات» (ص 454). قال شميت ([1929] 2007): «لا يمكن للكيان السياسي أن يكون عالميا بمعنى احتضان البشرية جميعها والعالم كله» (ص 53).
ولكن المعيار العالمي لحقوق الإنسان لا يعني كيانا سياسيا يضم البشرية جميعها والعالم كله. إضافة إلى ذلك، يشير شميت إلى نقطة صحيحة وهي أن: «مفهوم الإنسانية أداة أيديولوجية مفيدة بشكل أساسي للتوسع الإمبريالي. وفي شكله الأخلاقي-الإنساني، هو وسيلة محددة للإمبريالية الاقتصادية» (ص 54).
أتفق معه على أن مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية والإنسانية وحقوق الإنسان تستخدم كأدوات أيديولوجية للتوسع الإمبريالي والإمبريالية الاقتصادية. ولكني أتفق فقط عندما أفحص الداعي إليها. عندما يكون جورج بوش الابن هو الرسول، فإن خطابه عن الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان تنقصه المصداقية. عندما يكون الرسول الملايين من الناس الذين عارضوا الحرب على العراق في عام 2003، أجد في مفهوم الإنسانية أمرا حقيقيا يستحق أن يحتفى به.
في رأيي أن حجة موف بشأن تعدد الأقطاب تعاني من خلل. كم يجب أن يكون عدد الأقطاب؟ ثلاثة؟ سبعة؟ ولماذا أي رقم محدد؟ وبالنظر إلى تعدد الثقافات في العالم، كم يجب أن يكون عدد معايير حقوق الإنسان الخاصة بالثقافات؟ من المفيد هنا التذكير بما قاله سعيد (2008) ردا على هنتنغتون بخصوص الثقافات (الحضارات)، أي أن الثقافات ليست مغلقة ومعزولة وأنها على مر التاريخ شهدت التبادل والتلاقح والمشاركة.
تجدر الإشارة إلى أن موف (2008) ترى أن «الجاليات المختلفة» لا ينبغي السماح لها «بتنظيم نفسها وفقا لقوانينها» إذا كانت هذه القوانين «تتعارض مع الأساسيات الدستورية» (ص 463). رغم اتفاقي مع هذا الرأي، إلا أنني أرى أنه يقوض رأيها الذي ناقشته أعلاه بشأن التعددية.
الخلل في حجة المعترضين على عالمية المعايير يكمن في أن النية حسنة، ولكن نتائجها ليست كذلك. هؤلاء المنظرون لا يتلفتون إلى النقاشات التي تجري في أوساط كل ثقافة حول ما يجب الاحتفاظ به منها، وما يجب تغييره. حتى المنظرون الذين يحاولون تجنب الأوروبية-المركزية من خلال إظهار الاحترام للثقافات الأخرى يخفقون في الاطلاع على الآراء والنقاشات التي تجري داخل هذه الثقافات.
موقف كهذا نابع من حسن نية جعل إسبوزيتو وفول (1996) يصوران حجج المودودي المناهضة للديمقراطية بأنها نموذج إسلامي للديمقراطية. لماذا يجب أن ينظر للمودودي أو قطب وكأنهما تحدثا باسم جميع المسلمين فيما يتعلق بالديمقراطية أو مفاهيم أخرى؟
أشعر بالريبة من حجج المعايير غير العالمية، لأن استنتاجها النهائي هو أن الناس من العرق غير الأوروبي لا يستحقون هذه الحقوق. وحجج رفض المعايير العالمية يفضلها الحكام الاستبداديون لإدامة بقائهم في السلطة. مفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية لا يمكن أن تصادرها أوروبا أو الغرب أو العالم اليهودي المسيحي.
لا أشك في أن بعض الباحثين يقدمون حججهم بدافع التعاطف مع طموحات الشعوب الأخرى في أن تكون مختلفة، وبدافع مناهضة خطاب الهيمنة. ولكن حق الإنسان وفق معيار عالمي لن يجعل الشعب الصيني أوروبيا أو غربيا. ولن يجعل الأردني غير أردني. من وجهة نظري، هناك سبب أفضل لاختيار معيار عالمي. هو يعني ضمنا أن كل الناس في كل أنحاء العالم يعتبرون متساوين وجديرين بذات الحقوق.
الحجج المعترضة على وجود خيار عالمي لحقوق الإنسان غير سليمة لأنها تفتح الباب لانتهاك الحقوق. هذه الحجج تصبح وجيهة لو كانت المعايير الخاصة بكل ثقافة أرقى من العالمية. عندما كان العالم الإسلامي أكثر تسامحا مع المسيحيين واليهود، اختار بعض يهود إسبانيا العيش في العالم الإسلامي. في ذلك الوقت، كان يمكن القول إن المعايير الإسلامية لحقوق الإنسان كانت أعلى من معايير إسبانيا، ولذلك كان من الطبيعي أن يميل الناس إلى الذهاب إلى حيث المعايير أفضل ليعيشوا هناك.
أتفق مع الذين يختارون المعايير العالمية كأساس، ولكن دون إغفال حقيقة أن المعايير العالمية ليست مطلقة، بل مقيدة بشروط تجعلها أحيانا تبدو «عديمة القيمة». كمثال على ذلك يستشهد بيثام (2004) بالمادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ويشير إلى الجزء الأول الذي يدعم حرية التعبير:
(1) لكل إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقي وتقديم المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة، وبصرف النظر عن الحدود الدولية، وذلك دون إخلال بحق الدولة في أن تطلب ترخيص نشاط مؤسسات الإذاعة والتلفزيون والسينما.
أما الجزء الثاني من المادة فيذكر قيودا عديدة:
(2) هذه الحريات تتضمن واجبات ومسؤوليات. لذا يجوز إخضاعها لشكليات إجرائية، وشروط، وقيود، وعقوبات محددة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة وحياد القضاء.
ويقول بيثام (2004) عن هذه المادة: «عندما تعطي الطلبة النص لقراءته معظمهم يقول إن هذا الحق لا قيمة له»[3]. وبعبارة أخرى، حيث تعتبر معايير الحقوق عالمية، لا يزال التمتع بها دون قيود نضالا لم يتوقف بعد.
بالاعتماد على التدقيق الديمقراطي، وضع كلغ وستارمر ووير (1996) مؤشرا لحقوق الإنسان، ومبررهم لذلك أن «الحقوق والحريات السياسية تتمتع بحماية خاصة في المعاهدات الدولية لوجوب إخراجها مبدئيا من المتاجرة اليومية في السياسة «(ص 309). وبناء على ذلك، أعد كلغ وستارمر ووير استبيانا معتمدا على صكوك الأمم المتحدة، وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
معايير إسلامية؟
قبل أن أختتم المناقشة حول المعايير التي يجب استخدامها، سأحاول تحديد بعض المعايير الإسلامية، ومناقشة ما إذا كان يمكن أو يجب استخدامها في التدقيق الديمقراطي.
يوفق أبو الفضل (2004)، بين الديمقراطية والإسلام، ويحدد «مجموعة من القيم الاجتماعية والسياسية التي تعتبر مركزية في نظام سياسي مسلم» (ص 5). القيمة الأولى «السعي إلى العدل من خلال التعاون والمساعدة المتبادلة»؛ والثانية «تأسيس طريقة حكم استشارية غير فردية»؛ والثالثة «مأسسة الرحمة والرأفة في التفاعل الاجتماعي» (ص 5).
هل يمكن استخدام القيم الإسلامية التي حددها أبو الفضل في التدقيق الديمقراطي؟ إحدى الإجابات الممكنة هي أنها قد أدرجت بالفعل دون تصنيفها كقيم إسلامية، لأن أبو الفضل، بعد التوفيق بين الديمقراطية والإسلام، يخلص إلى أن الديمقراطية «توفر أقصى إمكانية لتعزيز العدالة وحماية الكرامة الإنسانية دون أن تجعل الله مسؤولا عن الظلم أو إذلال البشر» (ص 5-6).
الإجابة الممكنة الثانية هي أن هناك حاجة لمعايير لقياس هذه القيم. الرد الثالث هو أنه عندما تحدد المعايير، سيكون أمرا حسنا القيام بتدقيق ديمقراطي ذي معايير إسلامية.
بعد تحديد هذه المعايير، سيصبح هناك أساس لمطالبة بيثام وغيره بإعادة النظر في معاييرهم لتأخذ في الحسبان المعايير الإسلامية وغيرها. لذلك، لا يجوز لي في هذا التدقيق الديمقراطي المتعلق بالأردن أن أخلط المعايير، فهذا غير سليم منهجيا وتطبيقيا.
= = =
الهوامش
[1] ورقة مقدمة إلى الجمعية الإحصائية الأميركية.
[2] التقارير متوفرة في موقع المركز بصيغة إلكترونية.
[3] ورقة منشورة بصيغة إلكترونية دون رقم صفحات.
- غلاف كتاب لعدلي الهواري
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي