عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 11: الاستفتاء الذي شرخ المجتمع
الاستفتاء الشعبي الذي شرخ المجتمع: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
العصبية القومية ليست مقتصرة على أمّة دون غيرها. وظاهرة صعود التيارات اليمينية في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية انعكاس لهذه العصبيات التي بدأت منذ سنوات تنمو وتسعى إلى تولي الحكم حيثما تستطيع. ومن أهم نجاحاتها تولي دونالد ترمب الرئاسة في الولايات المتحدة، وانتخاب المرشح اليميني، جاير بولسونارو، رئيسا للبرازيل.
العصبيات القومية لها حضور قوي في أوروبا في الوقت الحاضر، وهذا ليس مستغربا، فهي القارة التي نشأت فيها الفاشية والنازية، وشهدت حربين عالميتين في قرن واحد.
في عام 1999، حقق حزب نمساوي يميني بزعامة يورغ هايدر نتائج جيدة في الانتخابات تمكنه من تشكيل حكومة بائتلاف مع حزب آخر. ولكن الدول الأوروبية الأخرى طوقت هذا النجاح، فقرر هايدر التخلي عن تشكيل حكومة برئاسته. وبعد أن كان اليمين في فرنسا قوة صغيرة، تحول في السنوات الماضية إلى قوة كبيرة قادرة على المنافسة المؤثرة في انتخابات الرئاسة.
وموقف الدول الأوروبية تجاه استقبال اللاجئين من سورية تحديدا، وغيرها من الدول، كان حديث الساعة في السنوات القليلة الماضية.
بريطانيا (المملكة المتحدة) بلد مكوّن من اتحاد أربع أمم: الإنجليزية والاسكتلندية والويلشية وبعض الأيرلندية. ورغم صغرها جغرافيا وسكانيا إلا أنها تمكنت من التحول إلى إمبراطورية، وسيطرت على مناطق كثيرة من العالم، إلى درجة التفاخر بأنها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. ولكنها واجهت المصير الذي آلت إليه الإمبراطوريات التي سبقتها.
من مظاهر العصبية القومية في بريطانيا وجود تيار معاد للتقارب مع الدول الأوروبية، فهؤلاء لا يعتبرون بريطانيا جزءا من أوروبا، رغم قصر المسافة بين ساحلي بريطانيا وفرنسا. ونجح هذا التيار في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عندما حدث استفتاء حول ذلك في عام 2016، وكانت النتيجة فيه متقاربة، ولكنها لصالح الخروج (%52 خروج، مقابل %48 بقاء).
عانت أوروبا من حربين عالميتين. ولتفادي تكرار الحروب نتيجة التنافس على المصالح، بادرت بعض الدول الأوروبية في عام 1957 إلى توقيع معاهدة روما لإقامة مجموعة اقتصادية من سماتها حرية الحركة للسلع والخدمات والعاملين. انضمت دول أوروبية أخرى للمعاهدة.
في عهد زعيم حزب المحافظين، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، إدوارد هيث، انضمت بريطانيا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1973، وجرى في عام 1975 استفتاء شعبي على قرار الانضمام، وكان التصويت في صالح الانضمام بنسبة 67 في المئة، أي ثلثي الناخبين. ولكن عداء الثلث الآخر لهذا القرار لم يفتر، وظلت العلاقة مع أوروبا مسألة جدل ساخن حزبيا وشعبيا، وخاصة أثناء الحملات الانتخابية.
تطورت العلاقة بين الدول الأوروبية الأعضاء في هذا التجمع الاقتصادي إلى أن أصبح اسمه الاتحاد الأوروبي. ورغم صفة "اتحاد" إلا أن كل دولة مستقلة في جيشها وسياستها الخارجية، رغم وجود بعض التنسيق. وتتشابه القوانين في المجالات الأخرى. وأوضح مظاهر الاتحاد حرية تنقل المواطن من دولة إلى أخرى وكأنها دولة واحدة، واستخدام عملة موحدة، يورو. ولكن بريطانيا فضّلت مواصلة التعامل بعملتها، الجنيه.
لمعارضي عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وجود قوي في حزب المحافظين، ولم يكفوا عن التحريض على فك الارتباط مع الاتحاد. وظلت العلاقة مع الاتحاد الأوروبي مسألة نزاع داخلي في الحزب منذ تولي مارغريت ثاتشر زعامة الحزب ورئاسة الوزراء. واستقال مايكل هزلتاين من حكومة ثاتشر نتيجة الخلاف على مصير شركة بريطانية لصنع طائرات الهلوكبتر. هزلتاين، الذي كان وزيرا للدفاع، أراد دمج الشركة مع ائتلاف شركات أوروبية. وثاتشر رجّحت كفة اختيار الدمج مع شركة أميركية.
ومنذ استقالة ثاتشر في عام 1990 تولى زعامة الحزب كل من جون ميجور، ووليام هيغ، وإيان دنكن سميث، ومايكل هوارد، وديفيد كاميرون، وتيريزا ماي. تمزق الحزب أفسح المجال في عام 1997 لفوز حزب العمال بزعامة توني بلير، الذي أبعد الحزب عن موقعه الاشتراكي الذي عرف به في الماضي. وعندما انتقلت زعامة حزب المحافظين إلى ديفيد كاميرون، وعد بإجراء استفتاء شعبي على مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
نفذ كاميرون وعده، وأعلنت النية على إجراء استفتاء على البقاء أو الخروج، فتشكلت الحملات الداعية إلى البقاء والخروج. وجرى الاستفتاء يوم الخميس 23 حزيران (يونيو) 2016. كاميرون شخصيا كان مؤيدا للبقاء، ولذا استقال من رئاسة الحكومة وزعامة حزب المحافظين فور الإعلان عن نتيجة الاستفتاء. وخلفته في منصبيه تيريزا ماي، فوفق النظام السياسي البريطاني، يتولى رئاسة الوزراء زعيم الحزب الفائز بأغلبية مقاعد مجلس العموم، أو بالعدد الأكبر من المقاعد إذا تمكن من التحالف مع حزب آخر للحصول على أغلبية في المجلس، كما هو حاصل الآن.
الاعتراض على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي كانت تأتي من اليساريين أيضا، ومآخذ هؤلاء على الاتحاد تنقسم إلى قسمين، أولهما أن هيئاته ليست منتخبة، وثانيهما أن الاتحاد يخدم مصالح الشركات الكبرى العابرة للقوميات.
تميزت الحملة الداعية إلى الخروج بالترويج لأمور غير صحيحة، من أشهرها الادعاء أن بريطانيا تدفع للاتحاد الأوروبي 350 مليون جنيه، وسيكون من الأفضل استخدام المبلغ في تمويل قطاع الصحة، الشهير بتقديم الخدمات الطبية مجانا حتى الآن رغم المحاولات المتكررة لإعادة هيكلته وخصخصته. وفي هذه الأجواء المحمومة، قتل أحدُ المتعصبين النائب جو كوكس، وهي من مؤيدي حملة البقاء.
وبعد تكاثر الحديث عن تأثير روسي على انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016، وكشف النقاب عن استخدام تطبيق عبر فيسبوك للتأثير على الناخبين الأميركيين، ذكر أيضا أن الأسلوب نفسه استخدم في بريطانيا أثناء الحملة التي سبقت الاستفتاء على الخروج، فقد جرى الترويج لفكرة أن التصويت من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي هو الأقوى، وذلك لجعل المؤيدين للبقاء يتقاعسون عن التصويت لأنهم يتوهمون أن النتيجة محسومة لصالح البقاء.
جاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي لصالح الخروج، ولكن الفارق بين الأصوات كان ضئيلا. وصدرت فورا مطالبات بإجراء استفتاء شعبي جديد نتيجة تقارب الأصوات. وبالإضافة إلى اختلاف الآراء بين الأفراد بشأن الخروج أو البقاء، كان التصويت في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية لصالح البقاء، وكذلك الأمر في العاصمة لندن.
ونشأت تعقيدات أخرى بشأن الحد الفاصل بين إيرلندا الشمالية، المتحدة مع بريطانيا، وجمهورية إيرلندا، فالعضوية في الاتحاد الأوروبي سهلت عدم وجود مراكز حدودية رسمية بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا. (حدثت ترتيبات خاصة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا في عام 1998 بمقتضى اتفاقية لحل النزاع المسلح في أيرلندا الشمالية بين الراغبين في البقاء ضمن المملكة المتحدة والساعين إلى إعادة أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا).
كذلك كان لقرار الخروج تأثير سلبي على قيمة العملة البريطانية، الجنيه الاسترليني، مقابل العملات الأخرى، وأرادت المتاجر الكبرى رفع أسعار السلع لأن كلفة الشراء بالجنيه ارتفعت. ومن يحوّل لأهله مالا في الهند أو باكستان أو الدول العربية وغيرها من الدول صار عليه أن يرسل جنيهات أكثر من ذي قبل لكي يصل أهله المبلغ ذاته.
كفرد يعيش في بريطانيا منذ سنوات، كنت ألمس ميزات عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها السفر إلى جميع دول الاتحاد دون الحاجة إلى تأشيرة، وعدم التوقف لختم جواز السفر عند الدخول أو المغادرة. وبفضل قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن حقوق العمال، أصبح من حق العامل رفض العمل أكثر من 48 ساعة أسبوعيا، ومن لا يتنازل عن هذا الحق، لم تكن مؤسسة العمل تستطيع إجباره على عمل إضافي. وقد حماني التمسك بهذا الحق من قرارات المدراء التعسفية بشأن القيام بنوبات عمل إضافية في أيام عطلتي.
لا أحد يعرف الآن كيف سيكون الوضع الاقتصادي بعد خروج بريطانيا الرسمي من الاتحاد الأوروبي. مؤيدو الخروج والقطيعة مع الاتحاد لديهم تصورات وردية لما ستؤول إليه الأوضاع. ولكني لا أصدق هذه الوعود، فالحديث عن "استرجاع حدودنا" مثلا يوحي بأن المجيء إلى بريطانيا كان سهلا، وهو ليس كذلك. ومن يرفض فكرة تطبيق قانون لحقوق الإنسان في بريطانيا يثير مخاوف الكثير من الناس، علما بأن تطبيق هذا القانون كان بسبب العضوية في الاتحاد الأوروبي.
أحدث الاستفتاء الشعبي على المسألة شرخا في المجتمع لا يزال مستمرا. ومن المفارقات أن النظام السياسي في بريطانيا لا يحبذ الاستفتاءات. ويترك اتخاذ القرارات لمجلس العموم (النواب) الذي ينتخبه الشعب. ولو ظل الجدل حول عضوية بريطانيا محصورا في مجلس النواب، أو داخل الأحزاب السياسية لاقتصرت آثار النزاعات على الأحزاب نفسها، ولما تأثر الوضع الاقتصادي، ولما أصيب المجتمع بشرخ عميق ظهرت بسببه عصبية قومية، وتفاوت كبير بين عقلية الأجيال الجديدة والقديمة.
قد يجد أحد في الدول العربية في مثال الاستفتاء الشعبي في بريطانيا دليلا على أن الديمقراطية لها سلبيات، ولذا من الحكمة حماية المجتمع من شرخ كهذا بعدم ممارسة الديمقراطية في الدول العربية وغيرها. النظام الديمقراطي عيوبه كثيرة. ولكن مزاياه تحمي المجتمعات من الركود الفكري والسياسي. في النظام الديمقراطي لا احتكار للحقيقة أو الرأي الصواب. ويظل تنافس الأفكار مستمرا من أجل الوصول إلى وضع أفضل.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
1 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 11: الاستفتاء الذي شرخ المجتمع, هدى أبوغنيمة عمان الأردن | 20 كانون الأول (ديسمبر) 2018 - 21:47 1
تحية طيبة د عدلي مقال مهم جدا يضيف إلى القارئ وضوحا في الرؤية ودقة في التحليل .شكرا لك