نازك ضمرة - الولايات المتحدة
شربة إسـهال
كان الجو أثناء سيري إلى بستاننا ممتعا. أحسست بأن كل شيء حولي جميل. برغم المغص والألم من تفاعل شربة المسهل والوحدة، إلا أنني كنت أتعجل الوصول لأرضنا المزروعة بالتين والزيتون والعنب.
في العادة أصل بستاننا الغربي في مدى نصف ساعة حين أكون ذاهبا للعمل به، لكن بسبب استمتاعي بمشاهد الطبيعة الجميلة في أراضي قريتي الممتدة يومها، رغبت في تطويل الطريق، كي تسهّل انزلاق الفضلات في بطني إلى الأسفل
سرت في نصف دائرة متعرجة قوسية، لا بخط مستقيم، أصعد فوق الصخور المنخفضة، وأهبط للأراضي المنبسطة، ألتف حول الأشجار البرية، وأحاول تفقد النباتات العطرية في أرض بلدي. أبحث عن شجيرات الزعتر والميرمية والزعتمانة. أحدد مواقعها، حتى أقطف منها حاجتنا في طريق عودتي بعد الظهر.
شغلتني الطيور المتنوعة عن هم بطني الذي كان يقرقر ويقلقني. طيور مختلفة الأشكال والألوان، وهذا أبطأ من تقدمي وأطال الوقت لوصولي. سبحان الله! تنبهت يومها لجمال كل شيء حولي، وكأنني خارج في نزهة أو للاستمتاع في حديقة حيوان أو في منتزه قومي عجيب، أتأمل ما أرى وأتوقف عند كل شيء أمرّ به، حتى أنني تنبهت لألوان بعض الصخور الرمادية والبيضاء والصفراء والزهرية.
حمدت الله على نمو الزعتر والميرمية والزعتمانة في بلادنا فلسطين، لأن جميع شعبي يحبون هذه النباتات العطرية المفيدة طبيا وصحيا. أحسست برغم مرضي يومها أن أرضنا هي جنة الدنيا، ولا أريد أن تنتهي رحلتي حتى مع شدة ما أعاني من مغص.
بقيت أمني نفسي بإنهاء مهمتي، والعودة لزوجتي بحزمة من الميرمية الطازجة، وكمية كبيرة من الزعتمانة والزعتر، ومنيت نفسي بأقراص من الزعتر في اليوم التالي، تخبزها لنا زوجتي، أو تساعدها والدتها على ذلك.
ولا شك أن خالي الكفيف سيفرح كثيرا بهذه الأكلة الشعبية الفلسطينية، وأنسابي سيسعدون بتوفر الزعتر الأخضر الذي سأقطفه من بين الصخور في أرضنا أو فوقها، لننعم بأكلها على مدى يومين أو ثلاثة. وما أطيب قرص زعتر صغير في الصباح مع كاس من الشاي أو اثنتين، ومثلهما في المساء!
توافق انبهاري يومها لكثرة ما عثرت عليه من شجيرات مع حركات الطيور يومها ونشاطها في تلك المنطقة، وتذكرت شقاوات طفولتي، فظلت أنظاري تتبع حركات طيور بلادي البرية، ونشاطها وتغريدها، وحرص الأمهات منها على أعشاشهن أو الآباء.
وجدت أعشاشا ثلاثة أثناء تلك الرحلة، بعضها فيه بيض، وبعض آخر فيه فراخ صغيرة. قررت القيام برحلة لأرضنا كل أسبوع خلال ذلك الشهر، لعلي أجد بعض الفراخ قد كبرت، لنولم عليها أنا وزوجتي.
تداخل الطبيعة وتمازج لذة الاكتشاف بالألم أبطأ حركتي، فوجدتها فرصة لإطالة مشواري لأقضي ساعات ثلاثا أو أربعا قبل أن أعود لمنزلنا، وأكون قد تخلصت من كل الفضلات المخزنة في أعماقي، لقد مارست تلك الحاجة ثلاث مرات في الطريق، ولم يزعجني أحد، لا بل كنت أشاغل نفسي، وعيناي تواصلان تأمل الطبيعة الساحرة حولي.
حتى طبيعة الأرض كانت باهرة كثيرة التنوع يومها وتتمازج مع مشاعري، بعضها جبلية في أماكن، وأخرى حقول ومنبسطات سهلية متداخلة متشابكة وتشكل بانوراما عجيبة أمام ناظري.
لم أنس زوجتي أثناء الطريق. تمنيت لو سمحت لها أن ترافقني لتسعد هي الأخرى بهذا الجمال الرباني في أرض بلدتنا. قررت أن يكون موعد عودتي قرب صلاة العصر أو بعدها بقليل، حيث تكون شريكتي قد جهزت لي حساء العدس المجروش الساخن.
تخطيت شجيرات بلوط قديمة وسريس برية مقزمة غير مثمرة. أتمهل أسفل الأشجار المعمرة. عصفور كناري غريب يفزع مني طائرا، وطير ملون الريش يهوي على شجرة، أو ربما حيث عشه هناك. غراب ذكر يطارد أنثاه، وقبرتان ترقصان أو تتسابقان، أو هما يرومان أمرا لا أفهمه. هدهد يهز رأسه الجميل المتوج، يطير على ارتفاعات قليلة فوق الأرض، يتنقل باحثا عن دودة أو حشرة يقتات بها من هذه الأرض المعطاء، غير خائف ينتقل من صخرة إلى صخرة، يطلب رزقه.
رف من طيور الكركزان الملونة بالأزرق الجميل وخيوط دقيقة من البياض الفاهي، تخالط لون زرقة ريشها، ربما متأخرة عن أمثالها من الكركزان في عودتها إلى مواطنها الأصلية، لأنها تحضر عادة في فصلي الشتاء والربيع، تفرخ ثم تعود لبلادها، ربما هذا السرب اعتاد على أجواء فلسطين ففضل البقاء والعيش الآمن بها.
كل شيء مثير هذا اليوم. شاهدت بقعة من عشب ما زالت يانعة الخضرة، تحتمي لصق صخرة أو أمام فتحة مغارة. أهم بدخولها، وحين استنشقت رائحة الرطوبة، ازداد إحساسي بالألم مضاعفا. أكره الكهوف، وأنا عدو لكل من يحب المغارات. أحسست بحفاف ريق وقتها ودوار، وجدتني أهبط على الأرض أمام باب الكهف. صحوت بعد دقائق، فإذا بالشمس تميل للغروب. نهضت بصعوبة، واكتشفت أنني منهك، لكن عليّ العودة للبيت قبل حلول الظلام.
مشيت بضعف وصعوبة، كنت على مسافة لا تقل عن كيلومترين عن بيتي، وكلما مشيت مئتي متر، أتراخى وأجلس على تربة بلدي النظيفة، أرتاح لدقائق، ثم يحثني عقلي على مواصلة السعي للوصول لزوجتي.
وما إن وصلت أول بيت على أطراف القرية حتى ارتخيت على عتبته، ليراني أهله، ورحت في إغماءة، لا أعرف كم طالت، لكنني وجدت نفسي في بيتي ممددا في فراشنا، وبجانبي زوجتي تغط في نوم عميق.
قرب فجر اليوم التالي، أحسست بأنني جربت الموت، وأحياني الله ثانية لأستمتع بأقصى ما أستطيع بعمري الباقي.
◄ نازك ضمرة
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
شربة إسـهال, نازك ضمرة | 23 شباط (فبراير) 2019 - 15:34 1
أشكر مجلة (عـود الند) لاحتوائها على مواد متنوعة ومهمة ، ومميزة، وأشكر الدكتور عدلي الهواري على متابعته وحرصه على مواصلة صدور مجلة عود الند، وبتفوقها وتحسينها في كل مرة عما سبق، إذ وصلت إلى مستوى راق نفتخر به، ويفتخر به كل من يعنيه والأدب والفكر والثقافة بين العرب، وشكرا على نشر قصتي (شربة مسهل) في العدد الجديد (نازك ضمرة)
شربة إسـهال, فنار عبدالغني | 24 شباط (فبراير) 2019 - 12:45 2
تحياتي
رحلة ممتعة في قلب الطبيعة وبين الكلمات،جعلتني أدخل إلى قلب النص وأتجول في الحقل المبهر للأعين ودغدغت أنفي رائحة الزعتر الفلسطيني. شكرا لك. أمتعتنا بهذا النص.