عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة
العولمة والتجارة الحرة وخصخصة مؤسسات القطاع العام وصفات قُدمت للعالم باعتبارها حلولا ناجعة لتحسين الأوضاع الاقتصادية في الدول، وخاصة النامية منها.
ونحن الآن في عصر التطورات التقنية المتلاحقة، التي بلغت مرحلة الاستغناء عن الأيدي العاملة بعد أن كانت الآلة تستخدم لزيادة إنتاجية العمال.
من الواضح الآن أنه كلما زاد التطور التقني، كلما قل الاعتماد على الأيدي العاملة، وتقلص عدد العمال والموظفين. في هذه الأيام، تذهب إلى البنك، فتجده مزودا بمجموعة من آلات سحب النقود، أو إيداعها. وتقلص عدد الموظفين الذين يقدمون هذه الخدمة إلى الزبائن.
قبل انتشار الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية، كان عليك الذهاب إلى مكتب البريد لدفع الفواتير أو شراء طوابع لإرسالها بالبريد. في الوقت الحاضر، لا تغادر بيتك، وتدفعها باستخدام هاتفك أو حاسوبك.
مصانع السيارات كانت تعتمد على الأيدي العاملة، فصارت تعتمد على عملية إنتاج آلي، أدت إلى تقلص عدد العمال في قطاع كان يحتاج إلى الكثير من الأيدي العاملة. وكان العامل في هذا المجال ذا دخل جيد.
لم يعد شراء كوب القهوة أو علبة مشروب غازي أو قطعة شوكولاتة يحتاج للذهاب إلى دكان صغير، فالماكينات التي تشتري منها هذه الأمور متوفرة في الكثير من الأماكن.
الأمثلة كثيرة على حلول الآلة مكان الإنسان، والتقلص المطرد في الأعمال والوظائف. في الوقت نفسه، لا يتوقف حديث الحكومات عن النمو الاقتصادي بنسبة كذا، أو السعي إلى تحقيق نسبة أعلى من النمو بزيادة الاعتماد على التكنولوجيا.
في الوقت نفسه تتزايد البطالة، وتؤدي هذه في كثير من الأحيان إلى الفقر والتهميش. والرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدول للعاطلين على العمل في تآكل مستمر.
والثراء المتراكم عن التطورات التكنولوجية انحصر في أيدي فئة صغيرة من الناس، ولم تنتفع منه الأغلبية الساحقة من مستهلكي المنتجات الإلكترونية، كالهواتف الذكية التي يبلغ ثمن بعضها بضع مئات من الدولارات.
الدول العربية كانت تعاني من مشكلة البطالة حتى في فترة الازدهار الاقتصادي قبل الغزو التكنولوجي، وكان ذلك نتيجة ارتفاع عدد السكان بنسبة أعلى بكثير من مثيلاتها في الدول الغربية. ولذا كانت أعداد خريجي الجامعات (ولا تزال) أكبر مما يمكن لأسواق العمل المحلية أن تستوعب.
ومحاولات ربط التعليم بسوق العمل لا أساس علميا دقيقا لها، فمنذ سنوات يعاني خريجو التخصصات المهنية من البطالة مثلما يعاني منها خريجو التخصصات الأخرى، كالتاريخ والآداب والعلوم الإنسانية.
وكلما واجهت حكومة مشكلة اقتصادية، لجأت إلى فرض إجراءات تقشف يكون ضحاياها الفئات التي تكافح من أجل توفير سبل العيش الكريم، فيزيد التقشف من قسوة أحوالها المعيشية.
كل دول العالم النامي صارت تريد تحقيق الأمر نفسه، وهو جذب استثمارات أجنبية، وتشجيع هذه بالقول إن الأيدي العاملة فيها ماهرة ولكنها رخيصة، وتقديم امتيازات ضريبية، مثل الإعفاء من الضراب بضع سنوات، أو دفع نسبة متدنية.
في التسعينيات تم الترويج للعولمة، وقيل إنها ستسهل انتقال الأموال والبشر. ولكن ما جرى في الواقع هو فتح أبواب الدول النامية للمال الآتي من الخارج ليجمع المزيد من المال المحلي. ولذا، بعد أن كان المواطن يشتري القهوة من محل صغير، أو بائع متجول، صار يشرب القهوة في مقهى أجنبي مقابل بضعة دولارات للكوب الواحد. ومن المرجح أن يفعل ذلك وهو عاطل عن العمل أيضا، ويحصل على مصروفه من أبيه أو أمه.
من سمات الأوضاع في الدول العربية الآن نسبة البطالة المرتفعة، وعجز الحكومات عن توفير حلول. ولن يمكن حلها بمزيد من الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية، أو زيادة الاعتماد على التكنولوجيا، فهذه كما نعلم من الأمثلة التي ذكرتها في البداية تؤدي إلى تقلص مطرد في عدد فرص العمل.
بعد ترويج الرئيس الأميركي بل كلنتون للعولمة، تبين بعد تولي دونالد ترمب الرئاسة أنه حتى الولايات المتحدة تريد أن تعود إلى حماية اقتصادها من منافسة الدول الأخرى كالصين، مع أن الحماية كانت في أوج الترويج للعولمة مصطلحا يقصد به الحديث عن ظاهرة سلبية.
إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تحمي اقتصادها من التنافس، ويريد رئيسها الحالي أن يقيم جدارا على الحدود مع المكسيك، فهذا يعني أن الدول الأخرى، ومن ضمنها الدول العربية، بحاجة عاجلة إلى إعادة النظر في إدارتها لاقتصاداتها.
في رأيي أن الدول يجب أن تعود إلى سياسات الاكتفاء الذاتي، الغذائي أولا. كما أن الاعتماد على التكنولوجيا بحاجة إلى أسلوب مختلف.
نظريا، المفترض أن التكنولوجيا تريح الإنسان وتزيد من الوقت المتوفر لديه لعمل أشياء أخرى يستمتع بها في الحياة. ولكن واقعيا، التكنولوجيا تريح الإنسان أكثر من اللازم، وتحوّله إلى إنسان عاطل عن العمل، وما يترتب على ذلك من مشكلات معيشية ونفسية.
أيهما أفضل لدولة عربية ما: أن يكون لديها مصانع إنتاج آلي، ونسبة عالية من العاطلين عن العمل، أم أن يكون لديها مصانع تشغل عددا كبيرا من العمال، وتلبي حاجات السوق المحلية، وبالتالي تتدنى نسبة البطالة؟ في رأيي أن الخيار الثاني أفضل للمجتمع. أما الأول فهو أفضل لصاحب رأس المال.
وصفات الخصخصة وغيرها من الوصفات سياسات اقتصادية مستوردة كان لها الكثير من النتائج السلبية. من الحكمة العودة إلى سياسات اقتصادية كانت فعالة في الماضي القريب، مثل سياسات الاكتفاء الذاتي، وحماية القطاعات الاقتصادية المختلفة، الزراعة والصناعة وغيرهما، والحرص دائما على أن تكون البطالة في حياة الإنسان أمرا عابرا، وتكون إذا حدثت لفترة قصيرة نتيجة الانتقال من عمل إلى آخر.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
المفاتيح
- ◄ عامة
- ◄ قضايا عامة
3 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة, هدى أبوغنيمة عمان الأردن | 23 شباط (فبراير) 2019 - 17:55 1
تحية طيبة دكتور: مقال يشير بدقة إلى الأزمة ونفعية رأس المال الذي يزداد توحشا. تحكم الآلة بحاضر البشر ومستقبلهم سيعيدنا إلى شريعة الغاب، ولعل ذلك سيقود العالم إلى حروب تدمر كل ما أنجزه الإنسان في شتى حقول المعرفة. ترى هل سيستطيع العقلاء تصحيح البوصلة؟
كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة, فنار عبدالغني | 24 شباط (فبراير) 2019 - 10:46 2
تحية طيبة دكتور عدلي
لم تحول العولمة العالم إلى قرية صغيرة فحسب بل حولته إلى لقمة صغيرة بين فكيها. أول ضحايا العولمة هي الشعوب الفقيرة. والتقدم التكنولوجي هو أحد اسهم العولمة الذي يطارد الإنسان في كل مكان ويجعله فريسة للفقر والقلق والموت البطيء.
كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة, هدى الدهان | 22 أيار (مايو) 2019 - 08:23 3
هي عولمة لا رأينا منها العالم الا كمايريدون لنا ان نراه.تُفاجأ يوميا بالكثير من القضايا لخصوم يفضحون مااخفاه خصومهم عنك.اذن العالم ليس قرية صغيرة ولست عالماً بكل صغيرة وكبيرة فيها.كل شيء مخفي الا وقت اللزوم لاشغال الشعوب .تنفجر قضية كبيرة فجأة مثل تهريب سلاح او صفقة نفطية او حتى مشهد عارٍ لممثلة سقط فستانها ( سهوا)و كل شيء بوقته حلو.لاهي اعطت العلم لهذا الجيل ولا تركتهم يبحثون عنه بطرقهم بل شغلتهم عن اكتسابه فالمغريات في الالعاب و العروض والتخفيضات اقوى من اي تطبيق الغرض منه تعليمي.رسمت نظرة قلق وحيرة وافتقاد على وجه من يملك لعلمه بتسارعها اذا لم يواكبها،يترك كل شيء ويواكبها،ونظرة يأس من كل شيء على وجه من لايملك لانه ليس لديه هذا ال(كل شيء) المعروض امامه في زمن العولمة هذا.