عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زهرة يبرم - الجزائر

الهائمة


زهرة يبرمحملتُ كرامتي ومضيتُ هائمة على وجهي، أهرب من جحيم يحرقني، أبحث عن بقعة سلام أضمد فيها جراحي وأستعيد فيها نفسي بعد ما خسرت قلبي وكدت أفقد عقلي.

سرت في زحام المدينة أتخبط على غير هدى لا أعرف وجهتي. كم كنت بحاجة لغريب يسمعني، يفتح لي قلبه فأحدثه عن نفسي، عن ضغوطاتي، عن همومي وأحزاني، عن هزائمي وانكساراتي، أخطائي، مخاوفي، عقدي، نقاط ضعفي التي تلازم سري، أشلائي المتناثرة وكل شيء لم أواجه به نفسي. بحاجة لغريب أبوح له بثقلي فيحمله عني ويمضي لا يفشيه لأحد.

إلى أين أيتها النفس المتعبة؟ سؤال تلعثم بحزني وتعثر بدروبي. ما أضيع الأمل! وما أعدى الأيام!

وحيدة، أعاني صقيع الروح وأترنم الضياع أغنية حزينة، تتحشرج الأنات بصدري وتتحجر الدموع بمآقي، يلف الضجيج رأسي، وتتداخل مشاعري فيحرق بعضي بعضي.

أبحر في التيه. يستلمني شارع ليسلمني لآخر، ولمتاهة الروح رهبتها. عاودني ألم بكاحلي ما جعلني أعرج وألجأ إلى حديقة عامة، في حين أضاءت المصابيح لتَخْلف نور شمس غابت خلف الأكمة البعيدة.

اتخذت مقعدا في ركن قصي مستأنسة بوجود امرأة رفقة صبي على مقعد بعيد مقابل. في الجهة الأخرى مجموعة من الشباب يتجادلون وقد علت أصواتهم، كهل يحتسي مشروبا من زجاجة، وآخر يغط في نوم عميق، بينما امرأة مالية تحمم طفليها في نافورة تتوسط المكان، وأخرى تنشر الغسيل. عامل النظافة يجر عربته يلتقط ما ترميه الأيادي الوسخة لعديمي الضمير على قارعة الطرقات.

أشجار مسك الليل تزين أطراف الحديقة، توشوش أغصانها لبعضها بعضا كأنما تنقل أسرارا وحكايا عن كل من يلج المكان. النخل الباسق يمتد على طول الشارع الطويل تتدلى عراجينه بتمر كاذب يتساقط على الأرصفة مع أدنى هبة ريح.

ركنتُ إلى نفسي أقلب هواجسي على أوجهها. لقد هدأ بركاني مع هبوط الليل، واتخذت قراري. سأغادر المكان إلى بيتي لما تغادر المرأة وطفلها، فالجو صائف والمدينة لا تنام باكرا.

جاء محسن يوزع علبا من طعام على من يظن أنهم محتاجون. دنا مني ووضع علبة على المقعد جنبي. إنه يعدّني من المشردين. تهيأ الطفل وأمه لاستقبال الطعام، وسرعان ما شرعا في تناوله بشراهة. حملت لهما نصيبي وألم الجوع يقرص أمعائي.

تثاءب الطفل ومدد جسده على المقعد واضعا خرقا تحت رأسه واستسلم للنوم. إنهما سيبيتان ليلتهما هنا إذن، وأنا متى سأغادر؟

فجأة دخل من البوابة رجل يغني بصوت رخيم، ومن الوهلة الأولى رجحت أن يكون مجنونا أو خفيف العقل.

التفّ حوله الشباب مصفقين وهو يتمايل ويترنم في تطريب وتحنان مقلدا المغني السوفي عبد الله المناعي. وكلما أنهى أغنية اقترحوا عليه أخرى، فيستجيب.

همّ المجنون بالمغادرة، لكنه لم يسلك الطريق الذي جاء منه، بل اتجه نحونا. عبر بين المقعدين وهو لا يزال يغني طربا. تباطأ في مشيه وصار يرمقني بنظرات أخافتني:

"ردي علي يا بنية العرجون ردي علي

ردي علي يا كاملة الزين يا المسمية

يا بنية العرجون ردي..."

أوجست منه خيفة فأسرعت للاحتماء بتلك المرأة وابنها. أقحمت نفسي بينهما وأدنيت الصغير مني. انكمشت على ذاتي وانتحبت في سري نادمة على وجودي هناك. نهره بعض الشباب فغادر المكان تحت التهديد. شيعته بناظري حتى تسلق سور الحديقة برشاقة قرد واختفى تماما.

وتفرّست المرأة عن قرب فإذا هي عمياء. تجرأت وسألتها لما هي هناك؟ لم تحكِ قصتها كاملة، لكني قرأت أنها تعيش مأساة. تألمت عميقا لحال طفل يعيش في كنف أم كفيفة، مشردين يلتحفان قبة السماء. سوف يمر علي زمن طويل قبل أن أنساهما.

فكرت في مشكلتي، هي ليست مأساة، وليست استثنائية ولا مطلقة. وأصبحت أراها في نسبيتها لا تساوي شيئا مقارنة بمآسي غيري، وكان علي أن أواجهها بهدوء وسعة صدر.

ها أنا أعيش تجربة المشردين وأشعر برهبة التجربة. أيعقل أن أكون قد نُسيتُ ولم يُفكَّر في استرجاعي؟ لقد بات من الأنسب والضروري لي أن أعود إلى بيتي. لكنني على مسافة بعيدة، ورجلي تؤلمني، والعودة بمفردي مخاطرة.

قررت أن أدوس على كبريائي وأتصل. أخرجت هاتفي فاكتشفت أنه مغلق. لقد أغلقته في فورة انفعالي وسهوت عن ذلك. فتحته وهممت بالاتصال، لكنه سرعان ما اهتزّ بين يدي. وأتاني صوته: "ألو؛ أين أنت يا مجنونة؟ لقد قلبنا المدينة بحثا عنك، المستشفيات والشرطة و..."

قاطعته: "تعال بسرعة حبيبي"، ولم أتعود مناداته حبيبي، "أنا في حديقة مسك الليل قرب محطة المسافرين".

D 1 آذار (مارس) 2019     A زهرة يبرم     C 0 تعليقات