عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مرام أمان الله - فلسطين

"خيميائية" الحب والفوضى


مرام أمان اللهمنذ أن تركتها بضع سنوات خلت وأنا أرتادها كزائرة على عجل. لا أفكر بنبش تفاصيلها على اعتبار أنها موطن ذكرياتي ومولد شبابي الذي أعرف تماما كما أعرف تفاصيل وجهي كلما نظرت إلى المرآة.

لا فضول في المرآة، فهي تكرر في كل صباح ما رأيته بالأمس دون تغيير يذكر. هي المرة الأولى التي انتابني فيها العطش لأمسح كل ما حولي بمقلتيّ، ولأستنشق كل ما لامس أنفي من هواء رغبة مني في حمل أقصى ما أستطيع معي من تفاصيلها في صندوقي الأسود، لتحتويني تفاصيلها عندما تنفجر مرارة الغربة في أنحائي وقت السفر.

رام الله، مدينة الحب والفوضى، كما أريد أنا أن أسميها. هي المدينة التي شهدت على نضوج وعيي، جنوني واتزاني، وهي التي فتحت لي ذراعيها عندما كنت ابنة السابعة عشر، وهي أيضا من دفعني لأرحل عنها ولكن لا لأنساها.

صورة من رام اللهقررت للمرة الأولى أن أمشي في أنحائها لأذوب في أحشائها علّني أشعر بالدفء. أخذت أتنقل في شارع ركب، هذا الشارع الذي يمر بمركز المدينة ويستمر حتى البلدة القديمة.

شارع ركب هو أكثر معالم رام الله إلهاما بأنها مدينة "حب وفوضى". فيه يمشي العشاق على أمل مصادفة تحمل إليهم المعشوق، أو لقاء تم انتظاره منذ مدة في إحدى مقاهي ركب.

صورة من رام اللهفيه الباعة المتنقلون، الصابرون في فرح يقضون يومهم انتظارا لزيارة أحد المارة أملا في جمع قوت أطفالهم. فيه تيار الوجوه المارة عن يمينك وشمالك، تحكي لك حكايا الحب والفرح، الهمّ والتوتر، الخوف، الثقة والغرور، العوز، الحماس، النشاط والملل، تحكي لك الأسرار إن ركزت أكثر.

ما إن تمعنت تلك الوجوه المتحركة من حولك تبدأ بسماع ضوضاء تتصاعد في رأسك، تحمل أصواتا متباينة النبرات والمشاعر، وكأن حواسك تبدأ بالالتحام بما وراء تلك الوجوه لتنتقل حكاياهم صورا ناطقة في بالك، لا يشوّشها إلا صوت خطواتك المرتطمة بالإسفلت.

صورة من رام اللهجعلت أمشي وأخزن كل ما أراه حولي كآلة مسح ضوئي؛ المباني القديمة، المحال التجارية، عربات الترمس والذرة، وجوه الناس على اختلاف أهوائهم وأعبائهم والقصص التي تختبئ وراء تلك الوجوه، كنت أسبر أغوار كل ذلك، أغوص فيها وأصورها بعيني المتأهبتين لحفظها في الذاكرة كمن جاب الصحاري بحثا عن ماء. كنت فعلا عطشى.

كنت أعيش في رام الله لسنوات عدة، ولم أذكر أنني زرت مركز المدينة إلا لهدف محدد، فتكون الزيارة سريعة لا تحتمل التأمل بأي من تفاصيلها. لم يخطر لي أبدا من قبل أن أراها، لم ألتفت يوما بانحناءة بسيطة مني نحو الأعلى لأرى أسطح المباني أو حتى إن كان هناك طوابق علوية تطل على الشوارع. لم أكن أرغب، ولا حتى أفكر بذلك. بالنسبة إلي، كان شارع ركب في ذاكرتي مزدحم، مزعج، لا يمكن التنقل فيه بسلاسة، ويجب تجنبه قدر الإمكان.

في ذلك اليوم، وبعد أن تخلصت من سيارتي في أحد المواقف مدفوعة الأجر، وذلك لأتجنب مخالفة مرورية "حقودة"، شعرت بكامل الحرية وكأنني أخرج من حكم طال بالسجن، لم أرَ ازدحام شارع ركب، ولم أنزعج من الفوضى ولا من الضوضاء، لم أخش تعليقات الشبان، ولم تسرع خطواتي هرولة لترك المكان. لم يحدث أي شيء من ذاك، كل شيء كان يحدث معي للمرة الأولى!

صورة من رام اللهنظرت أعلى المحال التجارية والعمارات القديمة، رأيت شرفات قديمة تغمرها الزهور، مراكز تعليم لغات، رأيت أناسا ينظرون إلينا من أعلى! كيف لي ألا أراهم كل تلك السنين؟ كيف لي أن أهمل الزهور، الشبابيك الحزينة بزجاج مكسور، مراكز التعليم وصالونات التجميل التي تنتظر الرزق في كل صباح، كيف لي أن أغفل كل ذلك؟

استمرت خطواتي في نبش الصور، الروائح، الموسيقى وعشوائية المشهد. شعرت أنني سمكة تعود إلى مائها، حدث أن "تنفّست".

صورة من رام اللهرام الله اليوم مختلفة الطعم والنكهة، أو أنني أنا من يدركها بحواس مختلفة ربما. لكن، أهي الغربة ما فجر عندي تلك الرغبة في التهام تفاصيل هذه المدينة كما لو أنني لم أرها من قبل؟ أم أن كل ما وقعت عليه عيناي خارج الوطن كان كثير الأضواء والضخامة والإبهار والسطوع إلى درجة انعدام الدفء أو الروح؟

أم أنني اليوم أعود كـ "خيميائية" على درب كويلو، تاهت عن كنزها طويلا لتعود إليه بعد أن سافرت إلى آخر العالم بحثا عنه!

= = =

اضغط/ي على الصورة لمشاهدتها بحجم أكبر.

صورة من رام الله صورة من رام الله
صورة من رام الله صورة من رام الله
صورة من رام الله صورة من رام الله
صورة من رام الله صورة من رام الله
صورة من رام الله صورة من رام الله
D 1 آذار (مارس) 2019     A مرام أمان الله     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

  • أم أنني اليوم أعود كـ "خيميائية" على درب كويلو، تاهت عن كنزها طويلا لتعود إليه بعد أن سافرت إلى آخر العالم بحثا عنه!
    تعبير ولا اجمل ...
    من المؤكد أن كنزها انتظرها طويلا جدا ورافقها بقلبه ووجدانه إلى آخر العالم أثناء رحلتها للبحث عنه..
    مقال رائع سيدتي


  • تحية طيبة الأخت مرام مقال رائع استدعى إلى ذهني السؤال الذي طرحه إبراهيم نصر الله في روايته الفنتازيا (حرب الكلب الثانية) التي يتناول فيها نزعة التوحش التي تهدد مصير البشر قائلا: هل خطر ببالك أننا مجرد مرايا للمرايا التي نحدق فيها؟ عزيزتي مدننا العربية تسكننا حينما نرحل عنها ولا تحجبها أضواء الدنيا لأنها أغلى الكنوز التي نحملها لتضيء غربتنا.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 12: التقدم التقني والبطالة والعولمة الكاذبة

الصوفية في روايتين لغرايبة والقيسي

تجليات الفقد في بيت آسيا لاستبرق أحمد

كوْرا: قراءة في نصوص من التبت

قمرنا أحلى