ياسمينة صالح - الجزائر
تلك المدينة-الذاكرة-اللغة
لطالما كنت مشدودة إلى المدن التي أدخلها أول مرة لأخرج منها بذاكرة ممتلئة أو بجرح استثنائي التفاصيل، كحوار نمارسه عن غير قصد، كقهوة نرتشفها عن غير وقت. كثيرا ما أجدني مبهورة أمام المدن الكبيرة والصغيرة، أدخلها كمن يدخل إلى ذاكرة غيره، كمن يطرق بابا يعرف حدود الأمكنة فيه. كنت أجدني دائما قبالة المدن أنظر إلى التاريخ فيها، مأخوذة بصمتها العلني، وبأحزان مرت هــا هنا على أرصفة البكاء، قبالة موانئ تنظر إلى الغياب بعيون لا يأكلها السأم، ولعلي كثيرا ما أقرأ بعض ما يبهرني على الجدران. كنت أكتشف دهشتي حين، فجأة، قبالة جدار ما، يرتفع صوت الناس المطالبين بالحرية أو بالحب أو بأشياء ضرورية للمسيرة. أو بكل الأشياء دفعة واحدة.
أيهما أهم: الحرية أم الحب؟ تساءل الشاعر الفرنسي شارل بودلير في جدارية ما تزال قائمة كما ألف عام، منقوش عليها آثار القدامى في شارع سانت سوبليس في ضواحي باريس. أيام كنت طالبة، كان مروري على شارع سانت سوبليس يوميا، أتفادى المترو لأجل أن أمشي في شوارع مكتوبة على جدرانها قصائد فيكتور هوجو، وجون كوكتو، وتفوح منها رائحة القهوة العربية، كما الحلم الذي يوقظ فيك حنينا إلى شيء تكتشف أنه ما يزال فيك غضا وملحا.
كان يجرني الحنين إلى المدينة الأولى. إلى الحلم الأول. ربما لأن الغربة سرقت مني طفولة لم أعشها كما يجب أن تعيشها إنسانة مملوءة بالأسئلة، عاشقة وبسيطة. في العشرين من العمر، اكتشفت أن الأوطان تضيق لتتوسع الأسئلة فينا، لتدهسنا ذكرى تسير بسرعة باتجاهنا، على شكل تحية أو إشارة. اكتشفت أن الغربة لن تستوعب تفاصيل هجرتنا القديمة إلى مدن اعتقدنا أن الشمس لا تغيب فيها، وأن السلام المقدس لن يقتل حميميتنا التاريخية، ولا لوننا العربي الواضح جدا. كنت أنا المبهورة بالشمس أيضا، بمياه الجداول وبالخضرة والبحر. وكانت تلك خارطة كافية لمدينة ظلت تسكنني طويلا، وبقيت أكتب لها رسائل حميمة أضعها في قلب كراسة التاريخ الذي كنت أدرسه بلغة أخرى غير لغة أمي، برؤى كانت تدين قبلا أحلامي الصغيرة وتفاصيلي الجزائرية العميقة.
لعلي اكتشفت في ذلك العمر أن المدينة التي أحب هي تلك التي لم أعش فيها، وأن العشاق يموتون غيابيا لأنهم لا يدركون شيئا عدا ما تخلفه الذاكرة من صور ومن كلمات. كنت أعي في قرارة نفسي أن الأشياء الجميلة هي التي نعيشها في أحلامنا، وأننا حين نلتقي بها وجها لوجه نفسد علينا ما تصورناه منطقا فصار انكسارا.
لمدينتي طعم الجرح الأول، والموسيقى العذبة حد الفجيعة، حين فجأة أفتح عيني على صور الراحلين، والناس، ورائحة الخبز الصباحي، وثرثرة الشوارع المكتظة بالخوف والحلم معا. لمدينتي وجه أبي الذي قتلته أحلامه الصغيرة والعذبة. لها طعم الشتات وأبهة التصور، حين نمشي باتجاه الأشياء، وحين يستوقفني شرطي المرور ليطلب بطاقة هويتي، ليسألني من أين جئت وإلى أين سأذهب وكم من الوقت سأبقى ها هنا؟
كنت أكتشف دائما عجزي عن الرد على هذه الأسئلة السهلة والقاسية، فأظل صامتة، أبحلق في الشارع قبالتي، أتملص من الانتظار الضروري. ولا أجد الجواب الذي يرضي غروره ويحمي قلبي من الانهيار.
قبل سنوات، حين أرسلت إلينا الحكومة الجزائرية دعوة لحضور حفل تكريمي على روح والدي (رحمه الله)، شعرت برغبة في البكاء. لم أبك وفاته كما توقع الناس مني أن أبكيه. هو الرائع كتفاصيل المدينة التي تسكنني. كان يحكي عن ذاكرة يلبسها بخصوصية مدهشة، عن الثورة والشرفاء الذين تركوا أحلامهم الخاصة ليلتحقوا بالجبال عام 1957، عن نفسه حين قرر أن يتميز في مجرد انتمائه للثوار. كان يحكي عن أولئك الذين عرفهم وأولئك الذين أحبهم أو كرههم أو تجاهلهم، وعن الوطن الذي وحده كان يرسم تاريخا مرادفا للبقاء.
كان يسألني ما الأوطان إن لم تكن يقينا نحمله في جذورنا؟ ما الوطن إن لم يكن قناعة نعيشها حتى الثمالة، عن وعي أننا نمارس ثورتنا الخاصة في حضور أحلامنا البسيطة؟ وكنت أتفادى سؤاله عن الحاضر الذي رمانا في منفى الوطن، وعن المنفى الذي رمانا في حزن الوطن. كان أبي وجها يذكرني بأوراس لا يمكن تجريدها من حقيقتها، من أزمنة مرت من قممها الشاهقة كالنشيد، ولهذا عاش يجر حزنه في حضور الوطن-الذاكرة. ولهذا، حين توفي بعد الاستقلال، وكنت وقتها طفلة صغيرة، شعرت باليتم: اليتم الذي لا يعني وفاة والد كان يشكل تفاصيل الوطن في ذاكرتي وذاكرته، بل اليتم أن أفقد في غيابه وطنا لا نعرف مكاننا فيه.
لهذا شعرت بالرغبة في البكاء حين تلقينا دعوة الحكومة لتكريم والدي، ولتسمية أحد شوارع العاصمة باسمه. شارع لم نكن ندخله إلا بالتفتيش الأمني، وبإثبات الهوية والرد على الأسئلة الجاهزة والمتكررة: "من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ وكم من الوقت سأبقى ها هنا؟" كنت أتمنى أن أقول أن هذا الشارع الذي أدخله صدفة يحمل اسم والدي، يحمل تاريخا لا يقرأه الناس في زحمة العمر الراكض نحو الهباء. ما الوطن غير هباء الفكرة المجردة من الحلم؟ وما الحلم غير الهباء المجرد من الذاكرة؟ للوطن طعم البرتقالة المحاطة بالتساؤل. وللمدينة تاريخ من الدهشة، حين أحط فجأة قبالة حزنها، وحين أرتدي ثرثرة اليوميات في حضورها.
– - - - -
ملاحظة من المشرف: للمرة الثانية على التوالي، خصت الروائية ياسمينة صالح عود الند بمقطع من رواياتها، ففي العدد الماضي نشرت عود الند مقطعا من رواية قيد الطبع بعنوان وطن من زجاج. وفي هذا العدد المقطع من رواية تعكف على كتابتها.
◄ ياسمينة صالح
▼ موضوعاتي