عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربى عنبتاوي - فلسطين

الـبـســطـار


قبل أن يغادر عتبة بيتي كان ملمعا ونظيفا. كانت فيه تشققات تجارب طرقاتنا الوعرة، ومع ذلك فقد حافظ على مستواه المعقول من القدرة على التحمل، وأثبت جدارته مئة مرة وهو يتحمل الأطيان والغبار وأبخرة العوادم. وهناك حيث تتساوى الأحذية كما تتساوى الأجساد، وتتحد النظرات صوب الأسفل، كان بسطاري يسير وسط عالم مليء بالأحذية الناعمة والخشنة، المحلية والإيطالية، الرياضية والرسمية. كان يسير بينهم جريئا مندفعا وعلى يمناه ويسراه أحذية وعجلات سيارات وصخور وقاذورات الاستهلاك البشري .

كان الجو ماطرا، والأرض وحلة، وكل شيء مائعا. قطرات المطر ترتطم بالأرض وترتد على الأحذية محملة بشحنة وحلية غاضبة. كانت الأرجل المندفعة بأحذيتها تقذف كميات من الطين على ما يحيطها من أحذية وبناطيل: حتما لم تكن تقصد، وبسطاري أيضا لم يكن يقصد.

أخذ عالمنا الواسع المتخم بفوضى الازدحام والأوساخ ينحصر أكثر وأكثر كلما اقتربنا من الحاجز. وأخذت الأحذية تتراص قرب بعضها، تنتظر بالدور عند المسرب المسيج بالأسلاك. كانت هناك بركة وحلية كبيرة تقطع المسرب كليا، تجمعت الأحذية من حولها. لحظة صمت عمّت المكان والمطر يتساقط بلا انقطاع. قرر حينها أحد الأحذية سلك طرف البركة عند السياج. المسافة المتاحة خمسة سنتمرات، وعرض الحذاء عشرة سنتمترات. حاول صاحبه الإمساك بالسياج كي لا يقع أرضا فداس برأس حذائه على المسافة القليلة. نجح بالعبور، وتبعته مجموعة من الأحذية.

وأثناء العبور وبسطاري ينتظر إشارة مني، انزلق حذاء أنثوي ناعم ذو كعب عالي رفيع، فانزلقت صاحبته وسقطت في البركة الوحلية الطينية. تعالت الصيحات: "يا ساتر. ديري بالك. انتبهي" سرعان ما نهضت بجسدها النحيل محاولة الهروب من الموقف، ومعطفها الجوخي الثمين ملطخُ بأوحال السقطة. ذهبت مسرعة وصدى لهاثها السريع وشعرها الأسود الموحل أيقظني، فغبت مشدوها في متاهة وعيي. صرخ أحدهم بي: "تحرك."

تركت بسطاري يقودني وأعطيته ثقتي الكاملة، فأندفع نحو البركة غير آبه بالماء البارد الموحل، وغاص عميقا محدثا قذف ماء عنيفا رش أرجاء المكان، ليخرج منها مبللا وعليه طبقة وحليه، ومن حوله صرخات متذمرة موبخة. سار مع الباقي مبللا رطبا. اصطف عند حاجز التفتيش العسكري. كانت الأحذية متخمة بالأطيان، والبناطيل متسخة حتى الركب. ظل يقترب ويقترب حتى وصل إلى حيث لا يريد أن يصل كباقي الناس المحملين بهمومهم وأكياسهم ورغبة فقط في العبور.

وصل ومن أمامه بسطار أسود ضخم الهيئة طويل الرقبة. كان بشعا ومضحكا في منظره. بسطار أحمق ومتضخم. نظرة مقارنة بين بسطاري وبسطاره، ومن ثم هجوم بسطاري. داس بسطاري على بسطاره. داس وبقي يدوس حتى جاءت عليّ لكمات متتالية وضرب مبرح. سقطت على الوحل أتلقى الضربات بالبساطير. أما بسطاري البطل فقد خُلع من قدمي اليمنى ومزق بالسكين من طرفيه والقي بعيدا على الأرض.

بعد تعاقب فصلي الشتاء والربيع خرجت إلى الدنيا لأجد عالم الأحذية كما هو متراصاً ومتتابعاً، ولكنه هذه المرة مغبر ومتسخ دونما أوحال، فالدنيا حرّ وكل شيء جاف ومتيبس تماما كالضمائر والنفوس المتهالكة.

أخذت أسير وإذا بي أمر من فجوة رملية جافة: إنها البركة يوم كان الشتاء. رمقتها بنظرة غضب خاطفة. أخذت أسير وأسير، وإذا بي أجد بعد عبوري للطريق المقيت شيئا بنياً كالح اللون مغبراً ومسطحا كقطعة خشب. إنه هو، بسطاري، حيث القي بعيدا عني وأخذوني إلى حيث مررت بالكثير وتذوقت مرارة ما، لا يضاهيها أي شعور مماثل.

حملته ووضعته تحت إبطي وسرت معتزا به وكأنه جائزة أوسكار. أخذته معي للبيت وتأملته لفترة، وتذكرت أني قبل ذاك اليوم بيومين فكرت في استبداله بآخر أفضل وأمنع وأكبر حجما، إلا إنني فضلته على غيره لما له من سنين خبره وميزات كثيرة. يكفيه أنه داس يوما على الغطرسة بعينها لأنها استفزته بشكل مريع. لذا فقد احتل منتصف طاولة جلوس بيتي، وجعلته فيما بعد إناء لأزهار النرجس والقرنفل والورد، ولم أنظفه ولم أرقعه عند الإسكافي أو ألمعه، بل جعلته على حقيقته واقعيا وبطلا. ولكن بعد ثلاثة أسابيع، انتابتني مشاعر متضاربة، وكوابيس مريرة، فحملته بما يحويه من ورود عطرة وألقيته في مكب نفايات بعيد: أبعد مما تستطيع حواسي أن تستشعر وذاكرتي أن تسترجع.

D 1 تموز (يوليو) 2006     A ربى عنبتاوي     C 0 تعليقات