السيد نجم - مصر
الـــتـــيــــه
ها هنا في الشقة الصغيرة الضيقة، شقتنا التي كنا معا نعيش فيها، أصبحت وحدي مع الجدران، الأوراق المنثورة، وذكريات الأيام. هنا كنت بمنجى عن كل شئ: الأنباء الواردة عمدا، الشمس الساطعة الغافية، الريح الهوجاء، الزمهرير، الهديل، النعيق، الفحيح، الحفيف. كلها، لم أعرها اهتماما. كنت أطل من زجاج نافذة حجرة نومنا. أضحك. الأرض مبتلة، والأشجار مرتعشة، وأناس يخبئون رؤوسهم داخل فكرة النجاة، فتغوص أقدامهم عفوا في المياه الآسنة العكرة شتاء.
أطل ثانية في الصيف. أضحك. الأرض جافة، والإفريز يعلوه الغبار، وشمس الهاجرة تقدح، وأناس يسرعون الخطو، يرجون الخلاص برؤوسهم، فتسقط أقدامهم عفوا في أغوار الحفر الجافة القاسية. كنت هكذا أراهم، كلهم، من نافذة حجرتنا، وهى إلى جواري، معا نرى ثم نضحك ونضحك طويلا.
أتذكر يوم أن دخلنا ذلك اليوم البعيد إلى شقتنا العلوية. بين يدي راحتاها، وفى عيني نظرتها المتسائلة الحائرة، تقول: "إني أسمع أصواتا لأقدام خلف الجدران." رددت غير مبال مبتسما: " لعلها لأطفال تلهو."
ترمى رأسها على صدري. تتابع بشفتيها المرتعشتين: "لا. لا، ليست لأقدام بشرية." فأقبل عينها اليمنى ثم اليسرى، وأضحك، وأقول: "ربما الصوت لهرة تلهو وتدعو ذكرها للحب."
لم تبتسم. غضبت أن قبلت عينيها. ضممتها أكثر علني أطمئنها. لم يطل صمتها المرة. تابعت بعد أن رفعت رأسها عن صدري، رمت نظرة متحدية وان لم تنطقها، تقول:
"لا. ليس الصوت لخطوات ذوات الأربع."
أدغدغها، أشعث شعرها الناعم الطويل، أضم كرة رأسها أكثر، أهزهزها. كنت صامتا هذه المرة.
وجدتني مجبرا أن أنظر إلى أعلى الحائط قبالى، بجوار صورة كبيرة كانت تجمعنا معا. إطارها ذهبي لامع. كان لامعا. وخلفيتها شجرة خضراء صناعية رديئة الطالع. لمحت صدعا متعرجا ثعباني المشهد، دقيقا وقصيرا بعض الشيء، يكاد لا يرى. الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل، والوقت غير مناسب، فرأسها فوق صدري، وكفيها في حضن كفي. مشغول أنا إذن. شعرت برغبة حقيقية لأن أطمئنها، فضحكت ثم ضحكت.
داخل الشقة الصغيرة كنا نسير هائمين. لم يكن يعوزنا شئ. كنا كروحين هائمين. نبحث عن جسد واحد. نستنطق الأشياء، فننطقها. مقعد واحد فنجلس. طبق واحد فنأكل. كتاب واحد فنقرأ. نعم مرقدنا العريض تمردنا علي سعته حتى تقعرت حاشيته في جانب وحيد منه. ويوم أن انتبهنا إلى تلك اللفتة، دمعت عينانا ضحكا. نعم، نعم، ولم لا وقد فسرناها بأن مرقدنا ارتسم على هيئة علامة اللانهاية الجبرية، أو الشدة الممدودة في لغة الضاد.
من حولنا العالم. الشقة الصامتة الصامدة. شفافة. كانت زوجتي الصغيرة تنظر من خلف الجدران وترى العالم، فتقول:
"بحور العالم زرقاء جامدة، سطحها هامد، وعمقها تمويه، خداع ومواربة وصراع. رمال الدنيا صفراء كسنبلة قمح باسقة. أراهم يهرولون، يقفزون من أجل حبة منها ناضجة."
ويخرس لسانها فجأة، تحوطني بذراعيها الضعضعين، تمرغ وجهها الملفوح بشمس الظهيرة، وجهها الندى بعرق يعلو أنفها وجبهتها. وبشفتيها الجافتين المرعوبتين تلملم لحم صدري، ثم تنطقها بصوت مرعوب: "أبدا هي، هي أقدام لقادم لا محالة."
فأحملها فوق ساعدي، أرفعها، أطوحها في الهواء، ألقي بها على مرقدنا، أصك شفتيها بشفتي، فتصمت.
كنت دائما بعد أن تصمت أتابع الشق صامتا مثلها. ولا أخبرها أنني كنت دائما أرى الشق الثعباني الدقيق الذي يغوص في الجدران. فلا أضحك، فقط كي أطمئنها. كنت أضحك، فكانت ضحكة ممجوجة.
في تلك الأيام البعيدة، ما كان يخطر على بالنا من أشياء إلا ونملكها، حتى السماء الجارية فوق رأسينا. بنجومها وأقمارها، سحابها وأثيرها، كل شئ فيها، ألصقناها فوق جدران شقتنا الصغيرة الضيقة. يوم رغبت في شيء، سألتها فأجابتني:
"سألوني ذات مرة كيف تفهمين؟ فصرخت فيهم: "يا رفاق، عندما يكون ميعاد لقاء لي معك تزغرد الخطوات من قدمي، وترقص سيقان الناس من حولي، كنت أراها ترقص لماذا تدهشون؟"
سألتها عن غيابي بعد اللقاء قبل أن نتزوج. لم تنتظر طويلا، ولم تفكر، فقط قالت:
"بعد أن كنت أتركك، كان يطوقني عقد من أنفاسك، عبيره بغير شبيه."
في ذاك اليوم البعيد أعجبتني إجابتها، وأخبرتها عن أحوالي بعد أن تغيب عنى:
"أما أنا فما أن تهفو نفسي إليك، التقط عينيك من بين عيون العالم، أجذبها، أدنو إليها، أطرحها إلى بساط ناعم يكفينا من جدائل شعرك الأسود، ثم أطير، أشرد وأتوه."
فترد رائعة العينين: " التيه، وأنا معك، وأنا بعيدة عنك."
ذات صباح رفعت رأسها غاضبة، قالت: "ماذا بك؟ أراك على حال الذكرى والتذكر."
رددت بصوت خافت: " وماذا في الذكرى يغضبك؟"
تابعت بقوة لم أعهدها فيها من قبل: "ألم تعد تحبني؟"
"بل أصبحت أحبك أكثر."
اجذبها، أضمها حتى تلاشت في جسدي. المدهش في تلك الليلة البعيدة أنها أصرت على أن تنفلق منى وعنى. انفلقت بعد أن صاحت:
"ها هو ذا الصوت يعود ثانية، بل للمرة الألف وما بعدها. ها هو ذا الصوت الخرافة، الحقيقة، قادم. ها هو ذا صوت أقدام تجوس خفية خلف الجدران لقادم لا محالة."
وجهها يشحب، عيناها تدمعان، تعجز عن احتوائي هذه المرة وإن حاولت. فسرقني مشهد الشق الثعباني الغائر، والذي لم يعد دقيقا هناك، بجوار الصورة الكبيرة التي جمعتنا معا، ذات الإطار الذهبي، والشجرة الصناعية الرديئة أكثر رداءة. شهقت. حاولت الضحك علني أطمئنها. عجزت.