مختارات: رضوى عاشور - مصر
الرحيل
قام الحاج وتغيب لحظات، ثم عاد حاملا منديلا مصرورا وضعه أمامهم. فتحه وأمسك بخمس زجاجات صغيرة بها سائل رائق شفاف. قال: هذه من ماء زمزم، وتلك،" أشار إلى أخرى السائل فيها أقل شفافية ويميل إلى الاصفرار، "تلك بها عطور من زهور رشيد." وهذه الخواتم والمسابح من الحجاز، أما تلك فمن مصر. وهذا اللوح الصغير من خشب الزيتون، اشتريته من القدس. تذكارات صغيرة. تفضلوا ليأخذ كل ما يشاء."
أربعة اختاروا ماء زمزم، وواحد أخذ مسبحة، والآخر خاتما فضيا. أما علي فمد يده إلى اللوح الخشبي الصغير، وسأل الحاج على استحياء: "هل تسمح؟"
ودعوا الحاج وقفلوا عائدين. لم يقطع الصوت سوى سؤال:
"كم سنة قضى الصليبيون في القدس؟"
أجاب عمر الشاطبي: "تقريبا مائتي عام."
***
واصلت البغال طريقها في الشعاب وواصلوا شرودهم حتى دخلوا القرية.
لم يتح لعلي أن يتأمل اللوح إلا بعد عودته إلى داره. ميزته عيناه واستوقفه الشكل المنقوش عليه ما أن وضعه الحاج أمامهم تلك التذكارات. ولما اختلى بنفسه أمسكه وأمعن النظر فيه. كان لوحا مستطيلا في حجم كفين مبسوطتين، خشبيا أملس نقشت عليه قباب القدس ومآذنها. الأقصى والصخرة يعلو كل منهما هلال، وفي الخلفية كنيسة فوق برجها الوحيد الصليب. أطال النظر في اللوح، ثم فكر في صنع لوح مماثل عليه رسم غرناطة: أبراج الحمراء وأسوارها المشرفة على مجرى حدره تقطعه القناطر، أو عليه رسم البيازين.
خرج إلى الحقل في الصباح. عمل في الأرض طوال النهار. ثم عاد إلى داره يحمل قطعة من خشب الزيتون. أعمل المنشار والإزميل فيها. سواها، وشذبها ونعم خشونتها حتى صارت لوحا مستطيلا اكبر قليلا من لوحة القدس. قلبه بين يديه وتحسس سطحه. كان أملس تماما ومناسبا ليبدأ.
لم ينقش رسم غرناطة ولا البيازين. مالت السكين في يده تحز خطا مقوسا ثم خطا مقوسا غيره. كان ينقل الصورة التي أمامه ويقلدها. ضغط أكثر فتعمق الحز حفرا وتحددت القبتان. لماذا ينقش المكان البعيد؟ ما الذي تعنيه له القدس؟ نجمة مضيئة في السماء أم يجرب يده لتدريبها قبل أن تشرع في تصوير غرناطة؟ جاءهم الروم وغزوا أرضهم تماما كما حدث لنا، ولكنهم طردوا الصليبيين، فلماذا استطاعوا ما لم نستطعه؟ وكيف استطاعوا؟ هل كانون يفوقوننا عزما أم أن الجواب في سؤال يختلف؟ ترى ما الذي حدث بالتفصيل هناك؟ لن يجد من يحكي له الحكاية كلها من البداية للختام. وهو لا يعرف سوى أن صلاح الدين طردهم من القدس مرة. ولكن للحكاية بقية، فمن يحكيها له؟ لماذا رجحت الكفة في المشرق وهنا خفت الموازين؟ هل بنا عيب ليس فيهم أم أن مصيبتنا أننا مقطوعون بالبحر، لا مصر جارتنا، ولا حولنا عراق وشام؟ قال الحاج إن في القدس نصارى من أهل البلاد، فلماذا يفرضون علينا التنصير هنا؟ ولماذا يزدروننا ولم يكن سيدهم روميا ولا كان له عينان زرقاوان؟ كان السكين في يده يحز خطا رأسيا ثم يقطعه بخط أفقي أقصر، يحفر في الصليب. بعث الله في عباده عيسى المسيح. حدق في الصليب على اللوح. بدا أليفا ووديعا والهلال يجاوره. ما علاقة هذا الصليب بجيوش خوان دي استوريا وذبح أهالي البشرات؟ ما العلاقة بين الوجه الشاحب والرأس المائل بتاج الشوك وما نحن فيه من عذاب؟ وأي رابطة تربط الجسد العاري النحيل لمسيح تبكيه أمه، بالأسياد وملاك الأرض والضرائب والمكوس والملك وديوان التحقيق؟
– - - - -
مقطع من رواية الرحيل لرضوى عاشور. منشورة ضمن ثلاثية غرناطة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر: لبنان. الطبعة الثانية 1998.
- غلاف: ثلاثية غرناطة: الرحيل
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي