عدلي الهواري
كلمة العدد 03: الحضاريون والقيم المزيفة
ملف: لا للعدوان
إهانة اللغة والمهن الإنسانية والقيم
في العالم الغربي المتحضر قلبت معاني الكلمات لتبرير ما لا يبرر. فإسرائيل تقوم بعمليات جراحية في لبنان وفلسطين. يا لها من إهانة للغة ولمهنة الطب الإنسانية التي تجري الجراحة لإنقاذ حياة الناس وشفائهم من الألم. مهزلة بل مأساة أن توصف بالعمليات الجراحية الأعمال التي تستخدم فيها المدافع والدبابات والطائرات وتسفر عن قتل البشر، وهدم البيوت، وتدمير الجسور.
العالم الغربي المتحضر لا يصدق العرب عندما يقولون إن صغارهم وشيوخهم، نساءهم ورجالهم، يقتلون بدون حساب من قبل إسرائيل. لا بد أن تكون المجزرة كبيرة وفظيعة، كمجزرة قانا الأولى والثانية، وان تكون كاميرات التلفزيون موجودة لتصور الضحايا، وعندئذ قد يتم الإعراب عن أسف مزيف، ويتبع الجرح بالإهانة عندما يقول القتلة إننا لا نستهدف المدنيين.
عندما تظهر أم لبنانية أو فلسطينية أو عراقية منكوبة على شاشات التلفزيونات الغربية لا تجد من يتعاطف معها، فهي لا تتحدث الإنجليزية، وترتدي لباسا مختلفا، وتضع في اكثر الحالات غطاء على رأسها، والتجاعيد تملأ وجهها، وقد لا تكبت بكاءها، وقد تقول إن فقدانها الأعزاء على قلبها لن يثنيها عن التمسك بحقوق شعبها والإيمان بعدالة قضيته، فيترجم كلامها بحيث يظهر أن كلامها عدواني رغم مصيبتها.
وفي إطار قلب المعاني والقيم، يصبح الاعتداء على شعب بكامله دفاعا عن النفس. والهجوم الشامل على لبنان وشعبه هو بمثابة مخاض كما تقول وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس. المخاض فيه ألم شديد للأم، ولكنه يهب الحياة، ويجلب السعادة . ولكن المخاض الذي تتحدث عنه رايس يهب القتل والتدمير بالجملة.
والقنابل الأميركية ذكية. طبعا القنابل لا عقل لها، ووصفها بالذكية إهانة أخرى للغة ولصفة يتحلى بها الإنسان، فلو كانت القنابل ذكية لرفضت أن تدمر البيوت على رؤوس من فيها، وأن تحول الأطفال والنساء والرجال إلى أشلاء. ولا جدوى من ذكاء هذه القنابل عندما توضع في أيدي أغبياء لا يقيمون وزنا لحياة الإنسان عامة، والعربي خاصة.
في الاتحاد قوة، إلا في حالة القادة العرب
الطرف الضعيف في صراع ما يلجأ إلى من قد يؤيده، إما إيمانا بعدالة قضيته، أو لوجود قواسم مشتركة معه. ومن خلال هذا الدعم يزداد الضعيف قوة ويتعزز وضعه مقابل خصمه. وثمة حكمة في بيت شعر يقول:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ----- وإذا افترقن تكسرت أفرادا
هذه البديهية أثبت القادة العرب عكسها، فإن تجمعوا وجدتهم يحجمون عن ممارسة الشجاعة الجماعية ويميلون نحو قبول الهوان الجماعي. عندما تسعى فلسطين إلى دعم عربي، فان ما تحصل عليه هو ضغط لتقديم التنازلات. ومع مرور السنين، تدرجت الأمور من كون القضية الفلسطينية قضية كل العرب، إلى قضية تعني الفلسطينيين ولا أحد غيرهم. وبعد اتفاق أوسلو، عمل القادة العرب بمنطق المثل الشعبي "مفيش حد أحسن من حد،" وبدلا من دعم فلسطين لتعزيز وضعها أمام الخصم طرحت مبادرة سلام باسم العرب جميعا.
وحتى مبادرة السلام العربية لم تجد في إسرائيل والولايات المتحدة من يوليها أي اهتمام، وبقيت حبرا على ورقها كغيرها من المبادرات. ولم يشعر طارحو المبادرة بغضب أو إهانة. وعندما شنت إسرائيل على شعب لبنان عدوانا شاملا، سارع القادة إلى الحديث عن مغامرين، واجتمع وزراء الخارجية العرب ولم يتفقوا على شيء، وترك شعب لبنان وحيدا. وهكذا يتضح أن قابلية القادة العرب للرضى بالهوان الجماعي أعمق بكثير مما يتصوره العقل.
جيلا بعد جيل
ها هو جيل عربي جديد يرى بأم عينه أن إسرائيل تتحدث عن السلام كثيرا، ولكنها تمارس العدوان. واستمرت في فعل ذلك حتى بعد اتفاقات السلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. وحتى بعد طرح مبادرة سلام عربية في القمة التي عقدت في لبنان، لم تتوان إسرائيل عن الاستفراد بالفلسطينيين، وهي تدخل مدنهم وتخرج منها كما تشاء وتقوم فيها بعمليات جراحية لا تستهدف المدنيين، والغريب أن الفلسطينيين يجدون جثثا لأطفال ونساء في البيوت المدمرة. ثم جاءت إسرائيل بجبروتها إلى لبنان لتعلم اللبنانيين، ومن خلاهم بقية العرب، درسا يرفض العرب أن يتعلموه رغم إعادة الدرس مرارا.
لا أحد متحضرا يمكن أن يقبل أن تكون قيمة حياة إنسان أكثر من آخر. ولا أحد متحضرا يمكن أن يصدق أن هناك شعبا يستحق الأمن والسلام اكثر من شعب آخر. ولا أحد متحضرا يمكن أن يصدق أن بعض الشعوب، وخاصة العربية، لا تفهم إلا لغة القوة.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]