سالم ياسين - لبنان
كالعادة
ملف: وفاء للبنان
"الخامسة والنصف،" ارتفع صوته مخاطبا زوجته في ذلك الصباح الباكر، ثم أضاف:
"سهرت طوال الليل أتابع أخبار الحرب. الدمار والقتل والتهجير مخيف للغاية. وآيات الصمود فوق العادة. مخيم عين الحلوة للاجئين يعج بالنازحين. الله يساعد الناس. كلما ازداد البشر تراكمت النفايات كما ونوعا وأبخرة نافذة. انتبهوا! لا تدعي الأولاد يلعبون في الخارج، ربما سيطبق وقف لإطلاق النار خلال أقل من ثلاث ساعات. مع السلامة" (1).
انطلق يدفع عربة النفايات المدعمة بألواح من الصفيح لزيادة حجم حمولتها صعودا إلى أعلى جبل الحليب، أحد أحياء مخيم عين الحلوة. إنه ليس ضمن مكان عمله في وكالة الغوث (2)، ولكن أهل الحي طلبوا منه جمع نفاياتهم، فهو عامل نفايات من الدرجة الأولى في الوكالة وأحواله صعبة، لذلك يجمعون له ما تيسر من مال في آخر الشهر، وأحيانا يضيفون بعض الثياب المستعملة لأولاده.
ساعة من الزمن وأذهب إلى عملي"الرسمي." طالما أضحكتني فكرة عملي "الرسمي،" فأنا لن ألبس ثيابا "رسمية." نفس الثياب ونفس العربة ونفس الرائحة في وظيفتي "الرسمية." المراقب هو من يلبس ثيابا "رسميه." كذلك ابن عمي ذو الوجنتين الحمراوين المكتنزتين في قسم التسجيل، الذي دبر لي هذه الوظيفة بمساعيه الخيّرة. غالبا ما يوبخني لكثرة العيال بعد أن يطمئن على عملي في الوظيفة المعتبرة مفاخرة بنفسه. في آخر مرة قال لي وأنا أسجل أصغر أبنائي يحيى:
"لو أنك متزوج من أربع نساء، كنت سأفتح لك أرشيفا خاصا وسأعمل موظفا لك وحدك في الوكالة. "
"المال والبنون زينة الحياة، فإن لم يكن المال فليكن البنون على الأقل، والحمد لله." أخبرته ذلك خجلا، فأنا أعلم مرماه من التعليق: إنه نقص المال وضيق الحال بكثرة العيال، وأن أبقي في البال جميله القتّال.
ابتسم لذاته راضيا، فلو أنه تزوج من أربع نساء لأصبح أكبر زجّال، ولم يكتف بهذا الموال، فكل كلمة فيه ألفها لدى تسجيل ولد من أولاده.
نغّص الله عيشك يا موظف التسجيل بعينك الضيقة، كلما أخبرتني زوجتى أنها حامل، تقفز حضرتك في بالي لتعكر مزاجي. هل تعلم كم أسعد برؤية أولادي في المساء، بأكفهم الطرية وقلوبهم الطاهرة، وأنا سيّد قصري وعصري والكل تحت طوعي؟ سيكملون تعليمهم إن شاء الله في أحسن مدارس، وسيعوضوني وأعوضهم حياة حرة وكريمة، وآخر هذا الشهر سآخذهم إلى مدينة الملاهي نكاية بك يا أحمر الخدّ وأسود القلب.
وصل إلى أعلى الجبل وأخذ بجمع النفايات بسرعة وهمة كبيرة، دافعا عربته بين الأزقة، ماسحا قطرات عرقه بأطراف أكمامه، مشيحا بوجهه بين الفترة والأخرى عن الأبخرة المتصاعدة من عربته ليلتقط نفسا نظيفا.
تأفف من كثرة الحجارة الكلسية في الطرقات، التي تتطلب منه جهدا إضافيا ليوازن عربته في المسير بثقل الحمولة. إنها الحجارة التي يتكون منها الجبل. كان لونه أبيض كالحليب قبل أن يكتظ بسكانه وعمران كل متسع فيه.
بعض الوقت وينتهي من هذا الحي ليبدأ في حيه "الرسمي" قبل وصول المراقب. أشعل سيجارة ونفخ دخانها بشدة، رافعا رأسه إلى السماء مصغيا إلى أزيز طائرة الاستطلاع "أم كامل" (3). إنها الملعونة التي تسبق الطائرات الحربية عادة. صور من ثوابت الزمن: الحصان فالعربة، كما عربة النفايات فأنا، كما "أم كامل" فالطائرات الحربية.
توجه نحو آخر بقعة في الجبل. بعض الوقت وينتهي من العمل هناك. بعض الوقت ويعلن وقف إطلاق النار.
علي الانتهاء بسرعة. سأمسح عرقي وأنظف عربتي جيدا فلا أريد أن يعرف المراقب الشكّاك أني أعمل وقتا إضافيا، هو وقت مستقطع من فترة نومي، فهل تختلف القاعدة أم يبقى عملا إضافيا؟ لا أدري ولم أسال أحدا بعد. المهم أن أبدو له في كامل نشاطي. سأضيف بعضا من مزيل الرائحة، فالبشر في ازدياد و أنواع النفايات غريبة، ورائحة الموت والبارود وقيظ الصيف يزيد من حدتها، والضجيج فوق العادة وجهدي فوق العادة.
ربما سيوزعون بعض الإعاشات هذا الشهر بسبب الحرب، كما في أيام الثورة، راتبا إضافيا بدلا للصمود والتصدي. ولكن لا عملي الآن "صمود وتصدي" ولا الإعاشات بدورها لذلك المبتغى، إنما هي بدل للبقاء، للأحياء فقط.
هي آخر بقعة قبل الوصول إلى سوق الخضار. يحلو للأولاد أن يلعبوا فيها كرة القدم. في كل مرة يتركون قطعا من حجارة البناء كعلامات للمرمى. هي طريق أوسع قليلا من باقي الزواريب لكنها تصلح للّعب.
العفاريت يصرون على وضع علامات بارزة للمرمى وكأنه ملعب "رسمي." ضحك في نفسه مجددا لفكرة الملعب "الرسمي" فكيف يكون الملعب "رسميا"؟ لا أنا ولا الملعب نستطيع أن نكون "رسميين" في هذا المخيم، ربما في الماضي السحيق كان الملعب ملعبا، كما كنت في يوم عرسي "رسميا." حمل الحجارة ببعض الجهد ووضعها على جانبي الطريق، فاليوم قد يستخدمها الأولاد مجددا إن طبق وقف إطلاق النار.
اندفع بالعربة نزولا. ربما كان عدد الحجارة هذه المرة ثلاثة فقط على غير العادة، لكنه لم يشغل باله كثيرا فالعمل "الرسمي" بانتظاره، وكذلك عيون وأنف المراقب. أسرع بعض الشىء ولم ينس أن يلقي نظرة على باب محل العطور المقفل على مفرق سوق الخضار. الدنيا حرب، ومن يشتري عطرا في زمن الحرب؟ تنهد مجددا لنفسه العهد والعزم على شراء مزيل الرائحة، فهو لا يحتمل مخاطرة اكتشاف أمر عمله الإضافي.
ساعة ونصف ويبدأ وقف إطلاق النار. سيعود النازحون إلى قراهم ويخف الاحتقان البشري ومخلفات نفاياتهم، وربما لن أعود بحاجة إلى مزيل الرائحة، ويعود المخيم كالعادة، من يدري؟ ثم إن أنف المراقب مدمن على الرائحة العادية، وهو أنف عادي كما هو عاديّ كل ما يقع ضمن السياج المضروب حول المخيم.
دوى هدير الطائرات الحربية فجأة، وزلزلت الأرض بفعل الانفجار الضخم. جفل قلبه بين جوانحه بعنف، ورأى أولاده يلعبون في مدينة الملاهي الموعودة وضحكاتهم تعلو وتعلو فتصم أذنيه، فناداهم بصوت أخرس، لكنهم يبتعدون تباعا ويخرجون عن طوعه تباعا، وسكون مطلق أبدا، فوق أي عادة.
تجمهر الناس كبارا وصغارا وبدأت الأصوات تعلو:
"إنه زبّال الأنروا، أبو سميح."
"لقد مات وهو وراء عربة النفايات."
"قطعة من حجارة الإسمنت طارت بفعل القصف وشجّت رأسه فمات من فوره."
"دخلت زاوية الحجر في رأسه."
"انظروا إلى الحجر، عليه آثار الدم المتخثر وبعض من دماغه."
حمل الرجال الجثة ومضوا بها إلى حيّه "الرسمي،" ودار النحيب والعويل في بيته "الرسمي." اليوم سيلبس أبو سميح ثوبه "الرسمي" باللون الأبيض وبعض العطر، ولكن ليس من زغاريد ولا من مراقب. وغدا سيعلو الغبار الحجر الإسمنتي فيخفي آثار الدماء، ويحمله الأولاد ليبقى علامة للمرمى، شاهدا على الحياة وشاهدا على الموت، فالحياة والموت داخل سياج المخيم، في نفس المرمى، كالعادة.
(1) سرى مفعول وقت إطلاق النار (وقف الأعمال العدائية) الساعة الثامنة صباحا بتوقيت لبنان يوم الاثنين 14/8/2006.
(2) الوكالة ووكالة الغوث اسمان متداولان لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وتعرف أيضا بـ أونرا، وهــي تعريب للحروف اللاتينية التي يتكــون منها اسم الوكالة (UNRWA).
(3): أم كامل تحوير شعبي لاسم طائرة استطلاع بدون طيار من طراز ام كيه (MK).
◄ سالم ياسين
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
- ◄ وفاء للبنان