عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 1: 1-12 » العدد 04: 2006/09 » قراءة في مسرحية ابن الرومي في مدن الصفحيح

جميل حمداوي - المغرب

قراءة في مسرحية ابن الرومي في مدن الصفحيح


مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" لعبد الكريم برشيد: بين واقع المدينة والنظرية الاحتفالية

من أهم المسرحيات التي ألفها عبد الكريم برشيد والتي تمثل النظرية الاحتفالية في رأي صاحبها هي مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" التي كتبها في أواسط السبعينيات موازية [1] مع البيان الاحتفالي الأول الذي صدر سنة 1976م. يقول برشيد: "إن مسرحية (ابن الرومي...) كعمل درامي يعتمد على فلسفة مغايرة وعلى تقنيات جديدة. وعلى اجتهادات جريئة في ميدان البناء الدرامي- لا يمكن تفسيرها إلا اعتمادا على الرجوع إلى الفكر الاحتفالي ... إن مسرحية (ابن الرومي...) – كعمل إبداعي تلتقي مع هذه النظرية وتتوحد بها، وهذا شيء طبيعي. وذلك مادام أنهما معا – العمل والتنظير- يصدران من منبع واحد. فالمسرحية تجسيد شامل لمفاهيم الواقعية الاحتفالية." [2] إذا، برشيد يقر بأن مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" خير نموذج مسرحي من إبداعاته الدرامية التي تجسد النظرية الاحتفالية في جانبها التطبيقي والدراماتورجي [الدرامي/التمثيلي]. هذا الحكم التقريري هو الذي سيفرض علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في موضوعنا هذا، وهي على النحو التالي: ما هي الاحتفالية؟ وما مرتكزاتها المضمونية والسينوغرافية [المشاهد]وما مصادرها الإبداعية والفكرية؟ وإلى أي مدى استطاع أن يكون عبد الكريم برشيد وفيا لنظريته الاحتفالية في مسرحيته "ابن الرومي في مدن الصفيح"؟ وقبل الإجابة عن ذلك، لابد من تسليط بعض الأضواء على عبد الكريم برشيد. فمن هو هذا المبدع يا ترى؟

ولد عبد الكريم برشيد بمدينة بركان سنة1943م. أتم دراسته الثانوية والجامعية بمدينة فاس حتى حصوله على الإجازة في الأدب العربي ببحث يهتم بتأصيل المسرح العربي. وفي عام 1971م، أسس فرقة مسرحية في مدينة الخميسات لاقت عروضها الاحتفالية صدى طيبا لدى وسط الجمهور المغربي والعربي أيضا. وقد حصل على دبلوم في الإخراج المسرحي من أكاديمية مونبولي بفرنسا. ودرس بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط. وفي 2003م، حصل على الدكتوراه في المسرح من جامعة المولى إسماعيل بمكناس. كما تولى مناصب هامة وسامية مثل مندوب جهوي وإقليمي سابق لوزارة الشؤون الثقافية، ومستشار لوزارة الشؤون الثقافية، وأمين عام لنقابة الأدباء والباحثين المغاربة، وعضو مؤسس لنقابة المسرحيين المغاربة. وقد كتب عبد الكريم برشيد الرواية والشعر والمسرحية والنقد والتنظير. وساهم في بلورة نظرية مسرحية في الوطن العربي تسمى بالنظرية الاحتفالية.

ومن إصداراته:

1= عطيل والخيل والبارود وسالف لونجة، احتفالان مسرحيان، منشورات الثقافة الجديدة سنة 1976.

2= امرؤ القيس في باريس، منشورات الستوكي ووزارة الشبيبة والرياضة 1982.

3= حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1983.

4= المسرح الاحتفالي، دار الجماهيرية بطرابلس ليبيا 1989-1990.

5= اسمع يا عبد السميع، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1985.

6= الاحتفالية: مواقف ومواقف مضادة، مطبعة تانسيفت بمراكش سنة 1993.

7= الاحتفالية في أفق التسعينات، اتحاد كتاب العرب، دمشق سوريا سنة 1993.

8= مرافعات الولد الفصيح، اتحاد كتاب العرب، دمشق سوريا.

9= الدجال والقيامة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة بمصر.

10= المؤذنون في مالطة منشورات الزمن.

11= غابة الإشارات، رواية، مطبعة تريفة ببركان سنو 1999.

12= ابن الرومي في مدن الصفيح، مسرحية احتفالية يتقاطع فيها ما هو اجتماعي معاصر مع ما هو تراثي وأدبي تاريخي، النجاح الجديدة بالدار البيضاء سنة 2005.

النظرية الاحتفالية عند عبد الكريم برشيد

ظهر التيار الاحتفالي في المغرب إبان السبعينيات، ولاسيما بعد صدور البيان الأول للجماعة الاحتفالية سنة 1976م بمدينة مراكش بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، بعد سلسلة من الكتابات النظرية والإبداعية التي كتبها عبد الكريم برشيد باعتباره المنظر الأول لهذا الاتجاه المسرحي الجديد، والطيب الصديقي المطبق الرئيس لهذه النظرية التأسيسية.

وقبل ظهور الاحتفالية، كان المسرح في المغرب إبان الحماية يعتمد على الترجمة والاقتباس وتحوير المسرح الغربي ومغربته ولاسيما مسرحيات موليير الاجتماعية، وكان القالب الأرسطي والعلبة الإيطالية من مقومات هذا المسرح. وبعد الاستقلال عرف المغرب المسرح الاحترافي بقيادة الطيب الصديقي والمسرح الإذاعي الذي كان ينشطه عبد الله شقرون. ولكن هذا النوع من المسرح كان لا ينسجم مع تطلعات الشعب المغربي ولا يعبر عن قضاياه وهمومه الاجتماعية إلى أن ظهر مسرح الهواة في مرحلة السبعينيات الذي بدوره انقسم إلى تيارات ومدارس تدعي التجديد والتأسيس والتأصيل فأصبحنا نقرأ بيانات لعدة تجارب درامية، فهناك مسرح النقد والشهادة مع محمد مسكين، والمسرح الثالث مع المسكيني الصغير، والمسرح الفردي مع عبد الحق الزروالي، والمسرح الاحتفالي مع عبد الكريم برشيد، ومسرح المرحلة مع حوري الحسين، والمسرح الإسلامي مع محمد المنتصر الريسوني. وتبقى الاحتفالية من أهم هذه الاتجاهات التجريبية الدرامية قوة وتماسكا واستمرارا حتى أصبح لها أتباع في العالم العربي لأنها أعادت للمسرح العربي وجوده وأصالته وهويته الحقيقية بعد أن كان المسرح العربي يلبس المعطف الغربي روحا وقالبا ويفكر بعقله ويتنفس برئتيه. إذا، ما هي الاحتفالية؟

الاحتفالية نظرية درامية وفلسفية تعتبر المسرح حفلا واحتفالا وتواصلا شعبيا ووجدانيا بين الذوات وحفرا في الذاكرة الشعبية وانفتاحا على التراث الإنساني وبناء مركبا من اللغات والفنون السينوغرافية التي تهدف إلى تقديم فرجة احتفالية قوامها المتعة والفائدة عبر تكسير الجدار الرابع الذي يفصل الممثلين المحتفلين عن الجمهور المحتفل بدوره. إنه مسرح يرفض التغريب والاندماج الواهم والخدع المسرحية. ويعرفه عبد الكريم برشيد في بيانه الأول:

"إن المسرح بالنسبة للاحتفالية تحدد كالتالي:

(إن المسرح بالأساس موعد عام، موعد يجمع في مكان واحد وزمن واحد بين فئات مختلفة ومتباينة من الناس) موعد يتم انطلاقا من وجود قاسم مشترك يوحد بين الناس ويجمع بينهم داخل فضاء وزمان موحد.

وهذا القاسم المشترك لا يمكن أن يتجسم إلا داخل إحساس جماعي أو قضية عامة، قضية تهم الجميع، وتعني كل الفئات المختلفة. ومن هنا كانت أهمية هذا الموعد تقوم أساسا على اتساع هذه القضايا ومدى رحابتها وشموليتها.

إن الاحتفال بالأساس لغة، لغة أوسع وأشمل وأعمق من لغة اللفظ (الشعر-القصة) ومن لغة اللحن (الغناء-الموسيقى) ولغة الإشارات والحركات (الإيماء)، وهي لغة جماعية تقوم على المشاركة الوجدانية والفعلية، إن المظاهرة احتفال، لأنها تعبير جماعي آني يتم من خلال الفعل."[3]

ومن رواد المسرح الاحتفالي بالمغرب نجد عبد الكريم برشيد، والطيب الصديقي، وعبد الرحمن بنزيدان، وثريا جبران، ومحمد الباتولي، وعبد الوهاب عيدوبية، ومصطفى رمضاني، ومحمد البلهيسي، ومحمد عادل، ومصطفى سلمات، وقيسامي محمد، والتهامي جناح، وفريد بن مبارك، وعبد العزيز البغيل، ورضوان أحدادو، وبوشتى الشيكر، ومحمد أديب السلاوي، وسليم بن عمار، والكرزابي بوشعيب. وهذه الأسماء كلها تساهم في إثراء الاحتفالية تنظيرا (عبد الكريم برشيد) أو نقدا وتأريخا (مصطفى رمضاني) أو تأليفا (رضوان أحدادو) أو إخراجا (الطيب الصديقي) أو تمثيلا (مصطفى سلمات) أو صحافة (الكرزابي بوشعيب) أو إخراجا تلفزيونيا (فريد بن مبارك).

ومن رواد الاحتفالية في الوطن العربي نستحضر قدور النعيمي من الجزائر، وعز الدين المدني من تونس، وقاسم محمد من العراق، وسعد الله ونوس من سوريا. ويقول مصطفى رمضاني في هذا الصدد: "أما في الدول العربية، فقد خلفت دعوة الاحتفالية صدى طيبا، وكان من نتائج ذلك أن مجموعة من كبار المبدعين والنقاد المسرحيين العرب قد باركوها وصادقوا على ما في بياناتها نحو علي الراعي وسعد أردش وأسعد فضة وعز الدين المدني ومنصف السويسي وغيرهم، كما فعلت ذلك فرقة الحكواتي اللبنانية وفرقة سوسة التونسية وفرقة الفوانيس الأردنية وجماعة السرادق المصرية. وبهذا تكون الجماعة ورشا مفتوحا على العالم الإنساني كله، وليست تجربة خاصة بمبدعين مغاربة فقط."[4]

ومن المرتكزات النظرية والدلالية التي يستند إليها المسرح الاحتفالي نجد النقط التالية:

1= المسرح حفل واحتفال غني باللغات اللفظية والحركية

2= توظيف الذاكرة الشعبية أو الأشكال ما قبل المسرحية

3= تشغيل التراث وعصرنته ونقده تناصا وتفاعلا

4= استخدام المفارقة والفانتازيا في تشغيل العناوين

5= المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة

6= تداخل الأزمنة

7= السخرية في وصف الواقع وتفسيره وتغييره

8= الحفل الجماعي والتواصل الاحتفالي المشترك

9= التعبير الجماعي

10= تعرية الواقع قصد تشخيص عيوبه وإيجاد الحلول المناسبة له

11= التأصيل قصد تأسيس مسرح عربي

وقد حصر رمضاني مصطفى مبادئها في:

التحدي. الإدهاش. التجاوز. الشمولية. التجريبية. التراث. الشعبية. الإنسانية. التلقائية. المشاركة. الواقع والحقيقة. النص الاحتفالي. اللغة الإنسانية. [5]

أما المرتكزات الفنية والسينوغرافية فيمكن إجمالها في:

1. تكسير الجدار الرابع

2. الثورة على القالب الأرسطي والخشبة الإيطالية

3. تقسيم المسرحية إلى أنفاس ولوحات وحركات احتفالية

4. استبدال العرض بالحفل المسرحي

5. استبدال الممثل بالمحتفل

6. الثورة على الكواليس والدقات الثلاث التقليدية

7. تعدد الأمكنة والأزمنة

8. التركيب بين اللوحات الاحتفالية المنفصلة

9. استخدام لغة تواصلية لفظية وغير لفظية والاعتماد على قدرات الممثل

10. توظيف قوالب الذاكرة الشعبية كالراوي وخيال الظل والحلقة وغيرها

11. الاحتفال المسرحي أو الديوان المسرحي بدلا من كلمة مسرحية

12. الاعتماد على المسرح الفقير

13. الدعوة إلى الفضاء المفتوح والتحرر من العلبة الإيطالية المغلقة

14. عفوية الحوار وتلقائيته

15. النص مجرد مشروع ينطلق منه العرض

16. الاندماج المنفصل والتحرر من الخدع الدرامية والأقنعة الواهمة

17. استخدام تقنيات سينوغرافية بسيطة وموحية ووظيفية سيميولوجيا وتواصلا

18. طاقة الممثل الجسدية هي الأساس في التواصل. [6]

أما عن مصادر الاحتفالية التي اعتمد عليها عبد الكريم برشيد فقد حددها بجلاء في كتابه التنظيري "حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي" وتتمثل هذه المراجع في:

أ. المسرح اليوناني بكل ظواهره الاحتفالية.

ب. الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي احتج على المسرح/العرض وطالب بعودة الحفل.

ت. الكتابات النظرية والإبداعية لأنطوان آرتو الذي طالب بتوظيف الأشكال الطقوسية السحرية الاحتفالية وخاصة في كتابه "المسرح وقرينه".

ث. المخرجون الذين أرجعوا أصل المسرح إلى جوهره الحقيقي ألا وهو الحفل كما نجد عند آدولف آبيا. كوردن كريج. جاك كوبو وسفوبولد مايرهولد.

ج. كتاب ألفرد سيمون "العلامات والأحلام. بحث في المسرح والاحتفال".

ح. الدراسات السيكو اجتماعية التي ركزت على الجانب الاحتفالي عند الشعوب مثل: دوركايم وفرويد في "الطوطم والطابو" وجان دوفينو في "احتفالات وحضارات" وهارفي كوكس في "احتفال المجانين".

خ. الاحتفالات العربية كمسرح السامر والحكواتي والسامر والفداوي والمداح وخيال الظل والقرقوز والمقامات ... كما نبه إلى ذلك حسن المنيعي وعلي الراعي ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ومحمد عزيزة ومحمد أديب السلاوي والطيب الصديقي.

د. الكتابات الإبداعية والنظرية لعز الدين المدني والمنصف السويسي وبرتولد بريخت الألماني وتوفيق الحكيم. [7]

ولقد تعرضت الاحتفالية لعدة انتقادات سواء أكان مجالها بالمغرب أم بالوطن العربي، بعضها كان موضوعيا (مصطفى رمضاني. أمين العيوطي)، والبعض الآخر كان متشنجا وانفعاليا وأيديولوجيا (نجيب العوفي. سالم أكويندي. محمد مسكين. محمد قاوتي. وليد أبو بكر). [8]

ويقول مصطفى رمضاني الناقد المتخصص في الاحتفالية: "وإذا كانت الاحتفالية قد خلفت هذه التراكمات النقدية المتأرجحة بين الذاتية والموضوعية، فإنها عملت في نفس الوقت على إعطاء المسرح الهاوي بالمغرب أنفاسا جديدة للتجريب والتأصيل، وهذا ما يفسر تهافت مبدعينا الشباب على التراث يستمدون منه أشكاله التعبيرية وأحداثه وشخصياته، لأنه يوفر لهم مساحات شاسعة للتعامل مع تناقضات الواقع. ولم تقف هذه الموجة الاحتفالية عند الهواة المبتدئين، بل لقد تجاوزتهم إلى مبدعين يمثلون ريادة المسرح الهاوي الجاد نحو أحمد العراقي ومحمد تيمد وشهرمان وحوري الحسين والتسولي وإبراهيم وردة ومحمد مسكين ويحيى بودلال والكغاط وغيرهم."[9]

وعليه، فالاحتفالية ستبقى نظرية مقبولة علميا وتطبيقيا في وطننا العربي، وستحقق نجاحا كبيرا ما دامت فلسفة أرجعت للمسرح العربي هويته وأصالته وذلك بالتركيز على المنحى الاحتفالي الجماعي وأشكاله الفطرية، وبما أنها نظرية شاملة للإنسان والكون والوجود من خلال رؤية للعالم وهي الرؤية الاحتفالية. زد على ذلك أن الاحتفالية هي أقرب النظريات الدرامية صلة بالإنسان العربي ما دامت تستند إلى الذاكرة الشعبية والتراث والوجدان الشعبي والتواصل الجماعي عبر فضاءات منفتحة كالأسواق والساحات. لذلك، فأي نقد مهما كانت طبيعته سيخدم هذه النظرية وسيغنيها من قريب أو من بعيد. وكما قال المسرحي المغربي عبد المجيد فنيش: "ففي المغرب أصر عبد الكريم برشيد وجماعة المسرح الاحتفالي على المضي قدما لترسيخ مفهوم التأسيس وما نالت من هذا الإصرار الموجات الموسمية المعادية، ولا حمى الضرب والقذف، بل ازداد الاحتفاليون إيمانا بموضوعية طروحاتهم". [10]

مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح"

يحمل عنوان المسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" مفارقة رمزية ودلالية بين شاعر عربي عاش في العصر العباسي حياة شعبية قوامها الفقر والانكماش والخوف والتكسب، ومكان معاصر هو المدينة بأحيائها القصديرية الصفيحية التي تشخص التفاوت الطبقي والصراع الاجتماعي وافتقار الناس البسطاء إلى أبسط حقوق الإنسان. أي أن العنوان يحيل على جدلية الأزمنة: الماضي والحاضر وتداخلهما. ومن خلاله، يتبين لنا أن الكاتب يعصرن التراث ويحاول خلقه من جديد عن طريق محاورته ونقده والتفاعل معه تناصا ومتناصا. ويعني هذا، أن عبد الكريم برشيد يشتغل كثيرا على التراث حتى أصبح نموذجا يقتدى من قبل المسرحيين الهواة وحتى من قبل رواد المسرح الاحتفالي مثل: الطيب الصديقي، وإبراهيم العلج وعبد الله شقرون. وهذه العناوين المدهشة الغريبة التي يتداخل فيها الماضي والحاضر أو التراث وحضور المكان (المدينة المعاصرة) موجودة عند برشيد بكثرة مثل: امرؤ القيس في باريس، عنترة في المرايا المكسرة، النمرود في هوليود.

وتحتوي مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع.

يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيا زاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة. لكن المسئول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول مادام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل، وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلا من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها جاهدين، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية:

"عامل الستار: سأرفع الستار ولكن ليس الآن. عمال المناظر لم يكملوا البناء بعد.

ابن دنيال: عمال البناء؟ لكن، أي شيء يبنون الآن؟ أريد أن أعرف ذلك.

عامل الستار: لن ترى جديدا....

ابن دنيال: ماذا أسمع؟

عامل الستار...فمنذ كان المسرح والمناظر محصورة في شيئين. القصور للأغنياء...

ابن دنيال: .. والأكواخ للفقراء...

(تسمع الدقات التقليدية الثلاث، ينسحب عامل الستار) [11]

ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين سيقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وأن ابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل:

ابن دنيال: أحبتي. أتيتكم من بين الصفحات الصفر الباليات.

من الزمن المعلب النائم فوق الرفوف.

كنت حرفا تائها. معلقا منشورا

فوق حبل الزمن

فجئتكم، كدفقة نور كموجة صوت

كليل يمطر أقمارا ونجوما ساطعات

كنت عمرا فقيرا، بذر في غيبة السمار زيته

فجئته الآن من قلب غمامة

أحمل حفنة زيت وفي القلب شرارة..."[12]

وبعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبر بحكاياها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار قريبة كانت أو بعيدة بكل تناقضاتها الحياتية.

وينتقل الكاتب من الخيال ومن لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية ذات الأحياء الصفيحية حيث نلتقي بسكانها ولاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة وضغوطات الواقع التي لا تتوقف. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي الذي لا يناسبهم إلى فنادق سياحية جميلة تجذب السواح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما سيجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم في أحسن الظروف. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم من فوق وهو لا يخدمهم لا من قريب ولا من بعيد. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة إذ يدل حمدان على الحمد وسعدان على السعادة ورضوان على الرضى على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.

ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله الصغار لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الفنطاستيكية وشخصياته التاريخية والأسطورية؛ لكن هذه الحكايات والقصص لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم. لأنها حسب دنيا زاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيا زاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويطرح همومهم، أي يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة كما يكون ابن الرومي الشاعر المثقف قناعا لكل المثقفين المعاصرين.

"ابن دنيال: ابن الرومي الذي رسمته وقصصته بيدي ليس وليد بغداد التي تعرفون... شاعر الليلة يا سادتي قد يكون من باريز، من روما، من البيضاء، أو من وهران. قد يكون علي بن العباس أو قد يكون الشاعر لوركا. قد يكون المجذوب أو بابلو نيرودا. قد يكون من حيكم هذا. قد يكون أنت أو أنت أو أنت، من يدري؟ قد يكون وقد يكون... سادتي... نرحل الآن إلى بغداد- الرمز."[13]

وبعد ذلك، ينقلنا ابن دنيال عبر صور خيال الظل وظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية ومنازلها الصفيحية لنجد ابن الرومي منغلقا على نفسه منطويا على ذاته لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته: "هل أفتح الباب أو لا أفتحه؟ هل أفتحه؟

يومك يا ابن الرومي لغز محير، وأحلامك يا ضيعتي رموز غامضة... أحيا بين رمز ولغز."[14]

ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير. كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين. لذا، أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه بالنعم والفضائل من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان خاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان ولاسيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار. مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه: "وبعد هذا يا ضيوف المخايل وعشاق الخيال...

سار الشاعر الحزين وعريب خلفه... سارا إلى حيث لا نور، لامسك، لا ريحان، ولا وسائد، سارا إلى أكواخ الخشب والقصدير، إلى حيث النور شموع والفرش حصير.

وصل الشاعر، أغلق خلفه كل ثقب وباب، وأقام أزمانا في حضرة الجارية قيام أهل النسك في المحراب"[15]

وسيتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة حيث سيشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولئك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي وهدم أكواخه التي يتعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس قصد بناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم:

"الخادم يا زمان: المهم يا ابن الرومي أن المجلس البلدي قد اتخذ قرارا بهدم هذا الحي... لا تنزعج على بيتك، سيكون لك ماهو أحسن، نعم، لقد فكروا فيك جيدا. ستتحول هذه الأكواخ الحقيرة إلى مركب سياحي ضخم يأتيه السواح الأغنياء من نيسابور وجرجان وفاس وصقلية. ستمطره ألوان من العملة الآتية من أركاديا وفينيقيا وقرطاج، هل تعلم؟ إن المجلس البلدي لا يطلب منك شيئا كثيرا. نعم، لا شيء غير أبيات من الشعر. أبيات تصور الحي الحقير وأهله. أنت تؤمن بالشؤم، أليس كذلك؟ تؤمن بأن متاعبك آتية من هذه الأكواخ الوسخة. من دعبل الأحدب، من جحظة المغني، من عيسى البخيل، من أشعب المغفل، من كل الصعاليك والمشردين، هذه فرصتك يا ابن الرومي للتخلص - وإلى الأبد - من شؤم هذا الحي ونحسه.."[16]

ويستمر ابن الرومي في تطيره ونحسه حيث لا يفتح الباب مطلقا ليعرف ماذا وراء عالمه الداخلي المقفل؛ بل كان يطل على الواقع الموضوعي من ثقب صغير في الباب، وكان لا يرى من بغداد سوى جيرانه الأشقياء التعساء فيزداد تشاؤما إلى تشاؤم، فتسود الحياة في وجهه لولا الحب الذي تغدقه عليه جاريته الحسناء والأحلام اللذيذة التي تسعده في منامه ويقظته:

"أشعب المغفل: ولم لا؟ لقد قلتها دائما وما صدقتم. الشاعر أقدامه في التراب مثلنا ولكن رأسه في السحاب.

دعبل الأحدب: من أجل هذا إذن، أقفل الباب خلفه.

جحظة المعني: الملعون، وأنا من تصورته كل صباح ينهض من فراشه، يلبس أثوابه ثم يطل على بغداد من ثقب المفتاح.

عيسى البخيل: ومن الثقب يا جحظة ماذا يرى الشاعر؟

عيسى البخيل: ماذا يمكن أن يرى غير دعبل الأحدب القاعد صباح مساء بلا بيع ولا شراء؟

دعبل الأحدب: أما أنا فقد تصورته يا رفقتي يقوم كل صبح وفي عينيه حلم أخضر. يترك الوسادة وعلى شفاهه بقايا ابتسام الأحلام. يقوم الشاعر وفي قلبه شوق إلى بغداد فيكون أول شيء يسمعه هو صوت جحظة، فيعود المسكين إلى فراشه، يخلع ملابسه وفي قلبه خوف من يوم نحس... أعوذ بالله من يوم غرته صوت جحظة. ثم يتلو القرآن ويعلق التمائم ويقرأ اللطيف... يا لطيف .. يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف..."[17]

وينتقل ابن الرومي كما قدمه الراوي من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم مستلب ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه يركب السحاب وهو معلق بالتراب الأرضي وكوخه الحقير يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويشعرون به أيما شعور وإحساس:

"عدتم من جديد، أنتم عذابي الذي يمشي وينطق، متى تفهمون أن حضوركم يسرق النور من أيامي؟ أجيبوني! أليس من حقي أن أحيا ككل الناس؟ ماذا أذنبت في حق السماء؟ ماذا أذنبت في حقكم؟ اغربوا عن وجهي واتركوني أجتر عذابي... إليكم عني .. ابتعدوا عن بابي وأعتابي، لقد لوثتم الضياء والهواء... اتركوني، اتركوني."[18]

وسيتصالح ابن الرومي مع جيرانه الذين قرروا الارتحال بعيدين عنه حتى يكون سعيدا في حياته ما داموا قد أصبحوا في رأيه رموز الشر والنحس والتطير والتشاؤم. لكن ابن الرومي سيتعلم درسا مفيدا من عريب- صارت حرة بعد انعتاقها من الرق وعبودية العقود المزيفة- التي اختارت أن تعيش معه بشرط أن يفتح بابه للآخرين وجيرانه الذين هم ضحايا الواقع والاستلاب والاستغلال طغمة الجاه والسلطة، وأن تعيش معه في هذا الحي الشعبي مع هؤلاء الناس الطيبين الأبرياء الذين همشوا من قبل المسئولين وأصحاب القرار الذين يريدون ترحيلهم قصد الاستيلاء على ممتلكاتهم وحيهم الذي يسكنون فيه لاستثماره في مآربهم الشخصية:

"عريب: لقد منحتني حق الاختيار وقد اخترت. اخترت أن أكون إلى جوارك، إلى جوار دعبل وعيسى وجحظة وأشعب وغير هؤلاء. إنني أراك واقفا في بركة ماء وعيونك فوق...سجين بغداد وأشياخها وسجين نفسك...ابن الرومي، إنني أشفق عليك من..."[19]

وسيصبح ابن الرومي شاعرا ثائرا يتصالح مع جيرانه ويمنعهم من الرحيل ويعترف بأخطائه الجسيمة التي ارتكبها في حقهم وبأن سماسرة السراب هم المسئولون عن هذا الاستلاب والتخدير الاجتماعي ووعدهم أن يكونوا يدا واحدة في وجه المستغلين وبائعي الأحلام الزائفة:

"ابن الرومي: عيسى، جحظة، دعبل، أشعب، اقتربوا. هذا قلبي التعس أنشره عند أقدامكم سجادا وبساطا. اقتربوا...

جحظة المغني: (بارتياب) ما هذا الكلام الزائد؟

عيسى البخيل: هل أنت بخير يا ابن الرومي؟

ابن الرومي: نعم، لأول مرة أشعر بأنني أحيا وأتنفس وأرى. اقتربوا، اقتربوا يا من في أحداقكم أقرأ ما في القلب. قلوبكم ناصعة ظاهرة. أراها منشورة أمام الكل على حبل الغسيل... أشعب، يا رسول الحي وقلبه، لست فضوليا. نعم، لأنك الجزء والكل. أنت روح بغداد، الظل، بغداد الفقراء... وأنت يا جحظة، يا كروان حي الصفيح، غنيت عذابنا وشقاءنا، غنيت أفراحنا... وأنت يا دعبل...

دعبل الأحدب: سأرحل كما ودعتك يا ابن الرومي.

ابن الرومي: لا بل ستبقى، نعم، أخاف عليك من العراء. أخاف من قبضة السماسرة. ستبقى. سيبقى الجميع. وليذهب الخادم يا زمان إلى الجحيم...

عيسى البخيل: يا زمان؟!هذا الاسم جديد على سمعنا يا ابن الرومي..

ابن الرومي: سأحدثكم عنه، ولكم ليس الآن... وأنت يا عيسى؟

عيسى البخيل: لست بخيلا يا ابن الرومي. صدقني...

ابن الرومي: أصدقك..."[20]

وتختار عريب في الأخير أن تدفع الشاعر لمعرفة العالم الخارجي قصد تحريره من خياله وأوهامه وأحلامه وانكماشه الداخلي واغترابه الذاتي والمكاني، فأرسلته ليبحث لها عن خلخاله الذي ضاع منها في السوق؛ وبعد تردد وتجاهل قرر ابن الرومي أن ينزل عند رغبة عريب وأن يبحث لها عن خلخالها:

"عريب: (تحدث نفسها في حزن) يا الله! ماذا فعلت؟ بعثت به إلى السوق لا ليعود بالخلخال ولكن لأحرره من نفسه وأوهامه. تراني فعلت خيرا أم ارتكبت خطأ قاتلا؟ لست أدري .. لست أدري..."[21]

ويعود الكاتب إلى خيال الظل وصاحبه ابن دنيال الذي ثار عليه المشاهدون من أهل الحي القصديري؛ لأنهم لم يمنحهم الحلول ويخبرهم عن ابن الرومي الثائر الذي خرج إلى السوق والعالم الخارجي باحثا عن الخلخال الضائع. لكن ابنته دنيا زاد وهي من جيل الحاضر على عكس أبيها الذي مازال يعيش أحلام الماضي الأصفر تدعو إلى الثورة والنضال والتغيير والتظاهر من أجل الدفاع عن الحقوق المشروعة فتختار الحركة بدلا من اللفظ البراق والشعارات الجوفاء:

"ابن دنيال: دنيا زاد، إلى أين تذهبين يا ابنتي؟

دنيا زاد: أين أذهب؟ أذهب إلى حيث يذهب هؤلاء.

ابن دنيال: ولكننا لسنا منهم، نحن من عالم آخر...

دنيا زاد: أنت واهم يا أبي، ليس هناك إلا عالم واحد ومدينة واحدة...الكلمة التي تفتقر إلى الحركة هي كلمة زائفة تماما كعملة بلا رصيد. وجودنا داخل المدينة وعذابها أشياء لا يمكن القفز فوقها. تعال يا أبي .. عذاب الفقراء ما كان يوما فرجة ولن يكون أبدا...تعال.... (تمد يدها لابن دنيال. يتردد هذا لحظة ثم يعطيها يده)."[22]

تجسد المسرحية، إذا، تقابلا بين عالمين: عالم الكلمة وعالم الحركة، وبين عالم الخيال الحلمي والواقع المدقع، إنها ثنائية جدلية تصور صراع المثقف العربي مع السلطة والواقع وأخيه الإنسان. لقد لاحظنا أن ابن الرومي عبر المسرحية مر بعدة مراحل:

1= ابن الرومي الشاعر المتشائم المنكمش

2= ابن الرومي الشاعر العاشق

3= ابن الرومي الشاعر المتكسب والمستلب

4= ابن الرومي الشاعر الثائر المتحرر من أوهامه

فبعد الموت والضياع والاستلاب والانكماش الذاتي والموضوعي يعود الشاعر إلى الحياة مرة أخرى شاعرا جديدا يعانق قضايا الناس وهمومهم ويكابد آلامهم ومعاناتهم ويحارب معهم سماسرة الزيف والسراب، إنه يموت لينبعث من جديد على غرار أسطورة العنقاء التي قوامها الاحتراق والموت والتجدد مرة أخرى بفضل فلسفة عشيقته عريب التي اقترحت عليه أن يتيه في العالم الخارجي ليعرف الواقع على حقيقته الواضحة بدون تزويق أو قناع. ويقول عبد الكريم برشيد بأن هذه المسرحية شاملة ومركبة من عدة مستويات: "أقول هذا لأن المسرحية تعتمد على بناء مركب. بناء تجسده مستويات متعددة ومتناقضة -مستوى الواقع- ومستوى خيال الظل- الحقيقية- الحلم- الوعي- اللاوعي- الحاضر- الماضي- أل (هنا)- أل (هناك) ويمكن أن نحصر كل هذا المستويات وأن نختصرها في مستويين اثنين أساسين: - مستوى الواقع. حيث الأحداث داخل حي قصديري منتزع من نفس المدينة التي تعرض بها المسرحية ومن نفس زماننا. - أما المستوى الثاني فيدور داخل صندوق خيال الظل. وهو صندوق المخايل شمس الدين بن دنيال وابنته دنيا زاد. فيما بينهما وعلى هذا الأساس فإن قصة ابن الرومي لا يمكن أن ينظر إليها نظرة واحدة موحدة..."[23]

ويتبين لنا كذلك أن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح مسرحية متركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وبؤسها المأساوي وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الاجتماعي والطبقي (لوحة الواقع الاجتماعي) ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل (التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي. كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة "ابن الرومي- ابن دنيال" والمعاصرة "واقع المدينة". وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الاقتصادية الفردية والعولمة التي صارت غولمة من شدة الاحتكار والتغريب والقضاء على الأصالة والخصوصيات الحضارية والفكرية للشعوب الضعيفة أو النامية كما نجد عند برشيد نفسه: إمرؤ القيس في باريس، والنمرود في هوليود أو عند المسكيني الصغير: عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية والخروج من معرة النعمان وأهل المدينة الفاضلة لرضوان أحدادو ومرتجلة فاس لمحمد الكغاط ومدينة العميان لمحمد الوادي والهجرة من المدينة لعبد الكريم الطبال.

ويتبين لنا مما سلف ذكره، أن مسرحية ابن الرومي هي مسرحية احتفالية اجتماعية واقعية جدلية تستحضر التراث لغربلته وتعريته لتشخيص عيوبه قصد إضاءته من جديد: بناء وإصلاحا عبر النقد الذاتي والتغيير الداخلي. ويقول المصطفى رمضاني: "فبرشيد قد وظف شخصية ابن الرومي كرمز للمثقف العربي غير المتموضع طبقيا، لأنه يعيش أزمة التأرجح بين طموحاته الطبقية والإحباطات المتتالية التي يعيشها في المجتمع. لهذا وجدناه يصور ابن الرومي كشخصية مركبة: ابن الرومي الوصولي، ابن الرومي العالم، ابن الرومي الثائر. فابن الرومي شخصية قد خلقها برشيد من خياله حقا. ولكن من المؤكد أن لها ما يعادلها في الواقع. ثم إن المبدع ليس مطالبا باستنساخ هذا الواقع حتى نطالبه بأن يعكسه لنا عكسا فوتوغرافيا. فالواقع معطى تاريخي ولكنه أيضا حركة لا تعرف الاستقرار. لهذا فالمبدع مطالب بتشريحه في أبعاده المختلفة والمعقدة عبر متغيراته وثوابته من أجل تغييره وخلق المستقبل". [24]

الصراع الدرامي في المسرحية

أما الصراع الدرامي فيتمثل في صراع المثقف ضد الاستلاب والاستغلال من خلال صورة ابن الرومي الشاعر العالم ورئيس المجلس البلدي وسماسرته المزيفين، وصراع أهل الحي القصديري (حمدان ورضوان وسعدان) ضد المقدم ورؤساء التخمة. وهذا يجسد لنا الصراع الطبقي والاجتماعي بين الفقراء وأهل الجاه والسلطة. كما أن هناك صراعا بين الفكر المثالي (ابن دنيال- ابن الرومي في بداية المسرحية ووسطها) والفكر الواقعي (حمدان ورضوان وسعدان و دنيا زاد وعريب)، وصراعا بين المستغلين بكسر الغين (المقدم –رئيس المجلس البلدي- الخادم يا زمان ومساعديه- الرباب) والمستغلين بفتح الغين (كسعدان ورضوان وحمدان وابن الرومي وأشعب المغفل ودعبل الأحدب وجحظة المغني وعريب وجوهرة وحبابة)، ناهيك عن الصراع بين الفن والواقع وبين الانغلاق والانفتاح وبين الذات والموضوع وبين الماضي والحاضر.ولكن هذا الصراع في جوهره ليس عموديا كما كان في التراجيديات اليونانية الكلاسيكية بين البطل والآلهة بل هو صراع أفقي بين الإنسان والإنسان.

الشخصيات الدرامية

أما الشخصيات الدرامية في المسرحية فهي أقنعة رمزية، ويمكن تصنيفها إلى أصناف عدة، فهناك شخصيات تراثية تنتمي إلى الماضي الشعبي والأسطوري (ابن دنيال - دنيا زاد)، والأدبي (ابن الرومي)، وشخصيات معاصرة تنتمي إلى الحاضر (سعدان- رضوان-حمدان- المقدم- رئيس المجلس البلدي)، كما أن هناك شخصيات مثالية مثل: ابن دنيال وابن الرومي وشخصيات واقعية مثل: سعدان ورضوان وحمدان وعريب. وهناك شخصيات كادحة مستغلة (بفتح الغين) مثل: سعدان وحمدان ورضوان وجحظة المغني وعيسى البخيل ودعبل الأحدب وعريب، وهناك وشخصيات مستغلة (بكسر الغين) تملك الجاه والسلطة والزيف مثل: المقدم، والخادم يا زمان، ورئيس المجلس البلدي. وسنحاول الآن رصد مواصفات الشخصيات المذكورة في المسرحية التي صاغ الكاتب أسماءها في صيغة المفارقة والسخرية:

JPEG - 82.7 كيليبايت
جدول ضمن بحث حمداوي

الفضاء السينوغرافي

ومن حيث الفضاء السينوغرافي للمسرحية، فالنص يتموقع في فضاءين متقابلين: بغداد التراث بأكواخها الفقيرة والمدينة المعاصرة التي قد تكون الدار البيضاء بأحيائها القصديرية الصفيحية أو مدينة معاصرة أخرى، دون أن ننسى الفضاء الاحتفالي وهو الخشبة بخيال ظلها. ولكن يلاحظ أن هناك تداخلا في الأمكنة والأزمنة (الماضي/الحاضر) مما يجعل المسرحية تنزاح عن القاعدة الأرسطية (الوحدات الثلاث) في بناء النص المسرحي.

ولكن ما هي تجليات الاحتفالية في هذه المسرحية من حيث المعطى الدلالي والسينوغرافي؟

تجليات الاحتفالية في المسرحية

من أهم تمظهرات النظرية الاحتفالية في هذه المسرحية نجد التعيين الجنسي تحت اسم "احتفال مسرحي" بدل العرض المسرحي أو النص المسرحي وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى انتماء النص إلى المسرح الاحتفالي الذي استبدل كثيرا من المصطلحات كتقسيم الفصول إلى لوحات احتفالية وتسمية الكتاب بالنص الاحتفالي. كما يحمل العنوان عنصر الإدهاش والفانتازيا والتغريب والمفارقة من خلال استخدام التراث في جدلية مع الواقع المعاصر والعزف على إيقاع تداخل الأزمنة: الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر. وتظهر الاحتفالية في اعتبار المسرح حفلا واحتفالا يشمل التمثيل والرقص والشعر والغناء والزجل، والثورة على الدقات التقليدية الثلاث والخشبة الإيطالية بمناظرها وكواليسها وستاراتها ونزع الأقنعة التي تذكرنا بنظرية التغريب البريختية وتكسير الجدار الرابع لأن ابن دنيال و دنيا زاد ينطلقان من الصالة ليمرا إلى الخشبة كما في اللوحة الاحتفالية الأولى، وتتجلى أيضا في استخدام الذاكرة الشعبية كاستنطاق خيال الظل المرتبط بابن دنيال وتوظيف السينما والمسرح داخل المسرح (مسرحة الجواري الثلاث لمعلمتهن رباب وهي تصدر أوامرها)، والاعتماد على لغة متنوعة كالحوار والشعر والمنولوج والسرد الحكائي كما نجده لدى ابن دنيال علاوة على لغة الرقص والغناء (لغة الجواري) ولغة التصفيق عند المتلقي. كما تتداخل لغة التراث الفخمة الجزلة ولغة الواقع المعاصر.

وتحضر الاحتفالية في الواقعية الشعبية التي تتجسد في معانقة هموم الفقراء والطبقة الكادحة وتصوير مدن الصفيح ومعاناة سكانها من الطرد التعسفي والاستغلال والظلم وتهديدات أهل الجاه والنفوذ والسلطة. كما تتجلى هذه الشعبية في ذلك التواصل الحميمي بين الممثلين والجمهور وبين الراوي والطبقة الشعبية وابن الرومي مع أهل حيه. كما تنتهي المسرحية بخاتمة احتفالية تتمثل في الأمل والتغيير والتبشير بمستقبل جديد مادام هناك إرادة التحدي والإصرار والكفاح:

" دنيا زاد: أنت واهم يا أبي، ليس هناك إلا عالم واحد ومدينة واحدة... الكلمة التي تفتقر إلى الحركة هي كلمة زائفة تماما كعملة بلا رصيد. وجودنا داخل المدينة وعذابنا أشياء لا يمكن القفز فوقها. تعال يا أبي... عذاب الفقراء ما كان يوما فرجة ولن يكون أبدا... تعال..." [25]

وسينوغرافيا، لقد وظف الكاتب تقنيات المسرح الفقير كالستائر والمصطبة والإطارات والنوافذ التي تشكل دور القصدير ودار ابن الرومي والدكاكين الصغيرة والساحة. أما الإكسسوارات والملحقات فكانت وظيفية واحتفالية كعربة خيال الظل والشمع وآلة العود والسبحة والأقنعة والمناشير والكتاب... كما تبدو الموسيقى التصويرية وظيفية تتلون سيميائيا وسياقيا وتتغير بتغير اللوحات والمشاهد الدرامية. وتتخذ الملابس دلالات سيميائية كأثواب الغجر كما عند ابن دنيال وابنته أو لباس العمال كما عند رضوان أو لباس الويسترن الأمريكي كما عند عاشور...إنها دلالات مختلفة ذات شفرة رمزية احتفالية. أما اللغة فهي لغة احتفالية تقوم على الحوار والشعر والرقص والغناء والفصحى والعامية والسخرية والمفارقة والفكاهة اللعبية. كما تتجلى الاحتفالية في تكسير الوحدات الثلاث: فهناك تعدد الأمكنة (المدينة المعاصرة-بغداد ابن الرومي) وتداخل الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) وتعدد الأحداث (قصة ابن الرومي - قصة سكان الحي القصديري مع المقدم) وتركيب اللوحات الدلالية المنفصلة التي تنزاح عن القالب الأرسطي الذي يتميز بالاتساق الدلالي (لوحة المدينة المعاصرة منفصلة دلاليا عن لوحة ابن الرومي على الرغم من وجود التوازي والتماثل البنيوي والإيقاعي).

ويثبت مصطفى رمضاني أن المسرح الاحتفالي، على المستوى السينوغرافي، يعتمد على: "تقنيات بسيطة وموحية، فالديكور ينبغي أن يكون وظيفيا ودالا، والإنارة تأخذ بعدا سيميولوجيا وكذا التمويج ولا وجود للإكسسوارات إلا إذا كانت وظيفية، أيضا لهذا يكون الاقتصاد في هذا المستوى السينوغرافي ضروريا لأن طاقة الممثل الجسدية هي الأساس في التواصل، أي أن التواصل الاحتفالي ينبغي أن يعتمد على طاقات حية وإنسانية من خلال اللغة والحركة والحوار."[26]

وخلاصة القول: إن "ابن الرومي في مدن الصفيح" خير نموذج درامي ونص مسرحي يعبر بكل وضوح وجلاء عن النظرية الاحتفالية باعتبارها بديلا للمسرح الغربي الأرسطي، كما أن هذا النص الاحتفالي يشكل مرحلة مهمة في تأصيل المسرح العربي وتأسيسه. ولكن تبقى المشكلة الأساسية في هذا المسرح كما يطرحه النص في صعوبة التحرر من الخشبة الإيطالية ومستلزماتها السينوغرافية والإخراجية التي تتناقض والنظرية الاحتفالية التي تدعو إلى فضاء مفتوح كالساحات والأماكن العمومية والفضاءات المنفتحة وأماكن الحلقة.... ومهما تفهمنا تبريرات عبد الكريم برشيد عن استحالة وجود هذه الفضاءات الاحتفالية لأسباب سياسية وأمنية فإننا لن نقبل باحتفالية جزئية تلبس قالبا أرسطيا وغربيا ومضمونا عربيا.


الهوامش

[1] عبد الكريم برشيد. المسرح الاحتفالي، الدار الجماهرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراتا، ليبيا، ط1، 1989-1990، ص 7.

[2] عبد الكريم برشيد. الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي. مطبعة الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1985، ص 174-180.

[3] عبد الكريم برشيد. المسرح الاحتفالي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط1، 1989-1990، ص 13.

[4] مصطفى رمضاني. قضايا المسرح الاحتفالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سورية بدمشق ط1، 1993، ص 41.

[5] انظر المرجع السابق، ص 83.

[6] مصطفى رمضاني. "الاتجاهات الأساسية في مسرح الهواة بالمغرب"، مجلة المشكاة، وجدة، المغرب، عدد 4، السنة، 1985، ص 70.

[7] انظر عبد الكريم برشيد. الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، ص 163-169.

[8] انظر عبد الكريم برشيد. الاحتفالية: مواقف ومواقف مضادة، دار تينمل للطباعة مراكش، ط1، 1993،ص 70.

[9] مصطفى رمضاني. قضايا المسرح الاحتفالي، ص 196-197.

[10] عبد الكريم برشيد. الاحتفالية، مواقف ومواقف مضادة، ص 5.

[11] عبد الكريم برشيد. ابن الرومي في مدن الصفيح، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، ص 9.

[12] نفسه، ص 11.

[13] نفسه، ص 22-23.

[14] نفسه، ص 25.

[15] نفسه، ص 41.

[16] نفسه، ص 56-57.

[17] نفسه، ص 60-61.

[18] نفسه، ص 75.

[19] نفسه، ص 87.

[20] نفسه، ص 91-90.

[21] نفسه، ص 91.

[22] نفسه، ص 95.

[23] عبد الكريم برشيد. الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، ص 214.

[24] مصطفى رمضاني. نفسه، ص 182.

[25] عبد الكريم برشيد. ابن الرومي في مدن الصفيح، ص 95.

[26] مصطفى رمضاني. "الاتجاهات الأساسية في مسرح الهواة بالمغرب"، المشكاة، ص 70.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2006     A جميل حمداوي     C 0 تعليقات