مختارات: محمود شيت خطاب - العراق
جنين في ذاكرة عراقي
لم أكن غريبا على أهل فلسطين عندما قدمتها مع الجيش العراقي الذي استقر في المثلث العربي: نابلس-طولكرم-جنين. ولكنني بعد مكوثي فيها سنة كاملة، ازددت علما بها، فربطتني بأهلها – خاصة أهل جنين الكرام – روابط من الصداقة والثقة المتبادلة والحب الصادق، تلك الروابط التي لا تزداد مع الأيام إلا قوة ومتانة، فكنت اتصل بهم بالرسائل، وأرعى أولادهم من التلاميذ والطلاب الذين يدرسون في مدارس العراق ومعاهده وجامعاته.
كانت رسائلهم تردني تباعا كل يوم تقريبا قبل نكبة 5 حزيران (يونيو) 1967، وكان أكثرهم يحل ضيفا في داري ببغداد كلما زاروا العراق، وكان أولادهم ولا يزالون أولادي، يزوروني وأزورهم، ويعرضون علي مشاكلهم كلما حز بهم أمر من الأمور، فإذا غابوا عني فترة من الزمن فتشت عنهم في مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم أسائلهم عن دروسهم، وأتسقط أخبار أهلهم، فأفرح لفرحهم وأحزن لحزنهم، وما أكثر أحزانهم وأقل أفراحهم اليوم!
ذكرت ذلك لأني أريد أن أنبه إلى ما طوقني به وطوق به أهل جنين الأكارم كل العراقيين من فضل لا ينسى أبدا.
كان أهل جنين يرعون العراقيين رعاية لا توصف: بيوتهم مفتوحة للجميع، يتلقونهم بالأحضان، ويغدقون عليهم من كرمهم وأريحيتهم، فكانوا بحق أهلهم بعد أهلهم، وقد انسوهم بما بذلوه من كرم ولطف أنهم بعيدون عن وطنهم، وأشعروهم بأنهم بين ذويهم الأقربين.
أذكر أنني كنت أتناول الطعام في منازلهم أكثر مما كنت أتناوله في مطعم الضباط، وقد تدخلوا حتى في أبسط شؤوني الإدارية، وكنت إذا مرضت عادوني، وإذا غبت عنهم سألوا عني. لقد كانوا أهلي، وكانت جنين بلدي، ولا أزال حتى اليوم أتحسر على تلك الأيام التي قضيتها بين أهلي أهل جنين وفي بلدي جنين. وما يقال عني، يقال عن العراقيين الآخرين.
تلك هي لمحات من إنسانية أهل فلسطين ممثلة بأهل جنين. فماذا عن جهادهم الذي لمسته فيهم يوم كنت مع الجيش العراقي في الأرض المقدسة؟
منذ حللت أرض فلسطين، كانت أفواج الفلسطينيين تتقاطر على المقرات العسكرية تطالب بالسلاح وبالتدريب العسكري وبإلقاء مهمات عسكرية على عاتقها للنهوض بها. وكانت إسرائيل قد احتلت جنين في شهر حزيران (يونيو) 1948، فاستطاع الجيش العراقي طرد الصهاينة من جنيين بمعاونة المتطوعين الفلسطينيين.
وقد جرت معارك طاحنة بين جيش إسرائيل والجيش العراقي لاستعادة قرية عارة وقرية عرعرة وقرية صندلة من قرى جنين، وكان للمتطوعين الفلسطينيين اثر أي اثر في انتصار الجيش العراقي على القوات الإسرائيلية واستعاده هذه القرى وغيرها إلى العرب.
وكان للمتطوعين الفلسطينيين جهاد مشكور في منطقة طولكرم وفي المناطق الفلسطينية الأخرى. وكان لجماعة الجهاد المقدس جهاد عظيم في منطقة القدس، إذا نساه الناس، فلن ينساه رب الناس. وكان للشهيد عبد القادر الحسيني رضوان الله عليه جهاد عظيم في منطقة القدس، حتى قدم حياته الغالية في معركة القسطل.
(*) لواء ركن سابق في الجيش العراقي. ضابط ركن جحفل اللواء الرابع الذي كان في مدينة جنين خلال حرب 1948. المقطع من مقدمة لكتاب بعنوان جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن. المؤلف: صالح مسعود بويصير. الناشر: دار بويصيير للنشر والأبحاث – مصر (1987).
- غلاف كتاب عن فلسطين
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي