مختارات: فاروق مواسي - فلسطين
تجربة الفيتوري الشعرية
محمد الفيتوري شاعر سوداني من مواليد عام 1930. وهو من رواد الشعر الحر، وقد واصل العطاء الأدبي بهمة لا تكل، ولو أنه يكتنفها بين الفينة والفينة بعض الغياب. تحدث الشاعر عن علاقته بالشعر في مقال منشور في مجلة الدستور (1) عام 1989 بعنوان "تجربتي في الشعر." وله مقال آخر بعنوان "تجربتي الشعرية،" وكان قد نشر في مــجـلـة الآداب عام 1966 (2). ويفصل بين المقالين فترة زمنية تناهز ربع قرن.
ويعنينا في هذه الدراسة المقارنة بين المقالين حتى نتوصل إلى فهم تجربته ودراسة التغاير/التباين الذي جرى في تفكير شاعر يمثل وجها بارزا من وجوه حركتنا الأدبية العربية، إضافة إلى ذكر المؤتلف والمختلف في حديثه، من باب موازنة الشاعر مع نفسه قبل موازنته مع سواه.
العنوان (تجربتي الشعرية) فيه اختلاف يسير عن العنوان (تجربتي في الشعر)، فالأول هو ممارسة وتطبيق، والثاني هو معرفة حول الموضوع وفيه، تماما كأن تقول "تجربتي الدينية" و"تجربتي في الدين." والعنوان في مجلة الآداب أتاح للشاعر أن يحدثنا عن طفولتـــه، ومنابع ثقافته، وكيف يدرس سيرة عنترة بن شداد، لأنه عربي أسود مثله، وقد عرفنا على عناصر الحزن والغربة وشكوى زمنه الغادر ورثاء شبابه الغض:
فقير أجل ودميم دميم
بلون الشقاء بلون الغيوم
يسير فتسخر منه الوجوه
وتسخر حتى وجوه الهموم
ولكنه أبدا حالم
وفي قلبه يقظات النجوم
ويحدثنا كيف أنه فرح كالأطفال بقصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران، وضمها إلى صدره، وأخذ يتعبدها بخشوع. وقد تعرف إلى بودلير، واهتم به اهتماما خاصا، وبـجان ديفال، بطلة "أزهار الشر،" فأحس أنه ينتمي إليها بصلة ما، وذلك لكون البطلة سوداء البشرة.
وننتــقل إلى الثوابت التي بقيت في خلد الشاعر ورؤيته النقدية كما تحدث عنها في مجلة الآداب، وذلك من خلال الموقف من الشعر: "الشعر يتشكل وفقا لقوانين خاصة تفرضها مجموعة الظروف والعلاقات الاجتماعية التاريخية المحيطة بصاحبها."
وهذا الفهم الماركسي يعود الشاعر إليه، فيقول في المقال المنشور في مجلة الدستور: "إن الشاعر هو ابن بيئته ومجتمعه الذي ينتج من التفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية."
وفي المقولتين هاتين وعي بحقيقة الأوضاع الاجتماعية، وإدراك المتناقضات، وهو ما يدعى بالمادية الديالكتيكية في لغة ماركس. وتبعا لذلك فهم الفيتوري أن الشعر هو موقف، "وليس هناك شعر حقيقي دون موقف اجتماعي" (الدستور). والطائر الملتزم بسربه هو صورة الشاعر حسب تصوره، أما أولئك الذين انفردوا عن مسيرة السرب فله رأي ثابت نحوهم. يقول أولا:
"إن الشاعر بغير العوامل الثقافية والمؤثرات التي تحرك التاريخ يعزل نفسه عن حركة الحياة، وكثير من الشعراء ماتوا لأنهم ظلوا داخل قواقعهم الذاتية - ماتوا لأنهم ظلوا بعيدين عن الشمس والهواء."
ويقول ثانيا:
"فلا شك أن مواقفهم تلك إنما هي حصيلة انطوائهم على أنفسهم أو انتمائهم الضيق للفئات أو القوى الاجتماعية التي ينتمون إليها، أو ربما خضوعهم لمغريات ومصالح أنانية انحرفت بهم عن أداء رسالة الشعر " ( الدستور).
ومن ناحية ثانية يشترك فيتوري اليوم مع فيتوري أمس بالتأكيد على موسيقا شعره:
"لقد ورثت إيقاعات الطبول وارتجافات الدفوف ودقات النحاس" (الآداب)، و "إن لدي صدى موروثا من مستوى الإيقاع" (الدستور). وهذا الرصيد لا يستطيع اختياره وفق هواه، فإيقاعاته مفروضة عليه لا تتـشكل، أو تلبس جسدها الإيقاعي الذي يفرض ذاته عليها.
أما التمايز أو التباين فيتركز أولا في الآداب على أنه منتم إلى أفريقيا بالدرجة الأولى:
كانت أفريقيا بالدرجة الأولى اعترافه وهويته:
من الذي يطلب مني أن أكون غير ما أنا عليه
ألأن وجهي أسود
ولأن وجهك أبيض
سميتني عبدا؟
لقد كان يحس أنه جزء من أفريقيا كلها، كان يتصور أنه يتحدث إليها جميعها - بعراياها وجياعها وحفاتها وأكواخها القذرة ومستنقعاتها الملوثة، وكان يسأل: "كيف كان يمكن أن يصل إليهم صوتي؟" وكان يشعر أنه واحد من مجموعة شعراء: سيزار، ليوبولد سنغور، دافيد ديوب ..."، ويتساءل: "هل لأني أكتب باللغة العربية يجب أن أنفصل عن ترابي، عن ذاتي؟ ... إنني لا أومن بوجود أي تناقض بين أسلوبي كعربي ورؤيتي كإفريقي."
هذه الرؤية الإفريقية أضحت في مقاله الأخير رؤية عربية صافية، فهو إنسان يتحرك "راضيا أو مكرهــا ضمن دوائر هذا الخراب الهائل الذي تعيشه أمتنا العربية." وبرغم أنه اعترف في مقاله الأخير بالأحلام التي كانت تراوده هو وأبناء جيله، إلا أن المشترك بين الرؤيتين الأفريقية والعربية، كما أتصورها، يتعلق بالخواء وانعدام الحرية، والقيود في الأرجل، والسلاسل في الشفاه.
يحدثنا الشاعر اليوم كيف "تكرس عجز الجيل العربي الحاكم عن قبول التحدي وإمكانية المواجهة،" وذلك في هزيمة 1967. وفي السبعينيات "أمكن للخيانة وحدها ولروح الهزيمة أن تسود الساحة، وان تشق لها طريقــا متعـرجة عبر النضال المسدود. ومع تتابع حلقات سلسلة النماذج أو المواقف المفزعة تستفحل ظواهر عقمنا الفكري والسياسي، ويزداد الواقع العربي ضعفا وفسادا بانتظار قدوم الثورة الاجتماعية."
وبينما كان نقاشه مع محمود أمين العالم كما أشار إليه في الآداب حول الدفاع عن أفريقية، وهل كان الصراع لونيا أم ماهيا: بين المستعمِر والمستعمَر والمستغِل والمستغَل فـإن مثل هذا النقاش غير قائم الآن، وكأنه أصبح من المسلّمات ، وأصبح ما يزعجه اليوم ويؤلمه أن "كل مظاهر مسخ معالم الوعي والإرادة في شخصانية الإنسان - كل إنسان."
ويعترف الشاعر اليوم بأنه قديما كان يتفجر بالمعاناة طامحا لتجسيدها بغض النظر عن الكيفية التي تنصب فيها تلك المعاني (الدستور)، ولكن ذلك لم يذكر في (الآداب)، وإنما ألمح إليه في مقدمة ديوانه، فيقول:
"إن عملية الخلق الفني عملية خفية إذا صح هذا التعبير ، إنها حالة انشطار الإنسان شطرين - حالة صراع داخلية، يسقط ضحية لها في أغلب الأحيان وجود الفنان الصناعي الخارجي ليرتفع فوق أشلائه ذلك الوجود الحقيقي الآخر الكامن أبدا فيه، إلا أن الرعشة المقدسة التي تأخذ الفنان حينذاك يستحيل التعبير عنها إلا ضمنا ... ضمن هذا النسيج النفسي الفكري الموسيقي الذي يسمى بالقصيدة الشعرية."
أما اليوم فـإنه لا يعترف بهذا الجو الإلهامي، بل هو يخطط ويعد قائمة نفسية بما يريد أن يقوله:
"... أصنع البذرة عن سابق وعي (سواء كانت سياسية أو اجتماعية)، ثم أنتظر بعض الوقت حتى تزدهر فيّ، كما في باطن الأرض لتبدأ تتشقق في داخلي، وتشقني في نفس الوقت، ثم تبرز شيئا فشيئا حتى تأخذ شكلها الخارجي الذي سوف تواجه به الآخرين" (الدستور). كان هدفه في مقتبل عمره أن يطهر نفسه مما ورثه عن أبيه، لأنه أراد أن يخلص إلى الواقع كإنسان في هذا العصر. أما هدفه اليوم فهو التخلص من ظروف التخلف التاريخية التي ما زال يعاني منها الإنسان العربي المعاصر (الدستور).
وهذا الاختلاف هنا وهناك في موقف الشاعر ورؤيته يبرره الفيتوري بقوله: "إنني مجمل المعاناة الإبداعية، والتجارب الفنية تكتسب كل مرحلة قيمتها بأن تضعها ضمن شروطها الزمانية والمكانية" (الدستور). ولعل في هذا القول استيعابا لقول برجسون: "ما من أحد كالشاعر يحس الزمان."
أما أسلوب الكتابة في النصين فهو جدير بالوقوف عنده. ففي النص الأول كان أسلوبه على غرار أسلوب طه حسين، من حيث السرد بلغة الغائب، بل في استعماله لفظة "الفتى" عينها، لكنه كان ينتقل من موضوع إلى موضوع دون ترابط ضروري، وكأنه يجيب عن أسئلة معينة حددتها هيئة التحرير، ثم حذفت الأسئلة المطروحة. أما النص الثاني فهو مقسم إلى خمس فقرات رئيسية تتلاحق في تصويرها لرؤيته الشعرية، وهي متماسكة وتبدأ من نقطة يركز عليها، لينتهي بها من خلال موقف واضح ورؤية متألمة لواقع ممض.
مراجع البحث:
(1) مجلة الدستور الصادرة في لندن. عدد 3 تشرين الأول/أكتوبر 1989 ص 64.
(2) مجلة الآداب اللبنانية. عدد آذار/مارس 1966 ص 9.
(3) ديوان الفيتوري "حول تجربتي الشعرية": دار العودة – لبنان (1972).
– - - - -
موقع الدكتور فاروق مواسي
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي