رانيا مأمون - السودان
أنصال في طين الروح
قصة على شكل دراما مصورة
لقطة واسعة
امرأة تنحني لتلتقط أحجاراً تقذفها على الكلاب التي تنبح وراءها. الوقت تجاوز الثانية عشر ليلاً. حاويات وشاحنات كبيرة تتجاوزها المرأة في سيرها على أرض غير منبسطة تعلو وتهبط، وخلفها جوقة الكلاب. تزيد قلّة الإضاءة من صعوبة السير.
"هو هو هو"
"جر جر"
"هو هو"
تواصل قذف الحجارة. تنفد من يدها. تنحني لتلتقط أحجاراً أخرى.
"جر جر جر"
تجاهد المرأة للوصول إلى الأسفلت حيث الضوء أكثر سطوعاً، علّها تجد ما يقلّها. عسكري الدورية ينهر عنها الكلاب بطلق ناري يمزق سكون الليل ويعكِّر رائقه.
لقطة تظهر شخصين. صوت غليظ عدواني.
"يا حاجة ماشة وين بالليل دا؟ المارقك من بيتك شنو زي الوقت دا؟"
"لو ما مجبورة يا ولدي كنت طلعت من بيتي؟ ماشة الخرطوم."
"لكن دا خطر عليك. عندك شنو في الخرطوم؟"
"عندي … خليها مستورة."
فلاش باك (ذكريات)
المرأة تتحرك بلا هدى داخل الغرفة الضيّقة لتبحث عمّا يخفف عنه هذه الآلام. تمسك صندوق الحبوب، تجده خاوياً، تقذفه. تلتقط قنينة الدواء تجدها تسأل ربها، ترميها، تنكش في كيس على المنضدة بالقرب من سرير المريض، لكنه محشو بالروشتات ونشرات الدواء ومخلفات الحقن والحبوب.
تنظرُ إليه. ما زال يتلوى ألماً. يعضِّده بالصراخ الذي يملأ رأسها. تجري إلى الخارج. تقفُ في وسط الحوش الضيّق والمحاط بالقش، وفي بعض زواياه مشروع حائط لم يكتمل بالطين الأخضر. تدخل وهي تسأل نفسها: "ماذا أفعل؟"
تجده قد تخلى عن السرير وارتمى على الأرض. تحاول أن ترفعه، لا تستطيع. تحاول مرة أخرى، تعجز. تبكي وتركض خارجة. تذهب إلى الزير وتطلب منه أن يتجرع كوب الماء عساه يفيده ويخفف عنه الألم، يرفض، تتوسل إليه، يشرب، ينظر إليها، يصمت قليلاً شفقة بها، يتمالك نفسه وبمساعدتها ينهض إلى السرير، ليبدأ مشوار العذاب من جديد.
"يا حاجة مشيتي وين؟"
"آي يا ولدي."
"سألتك أشوف ليك حاجة تركبيها؟"
"كتر خيرك. تكون عملت فيني فايدة كبيرة والله."
لقطة كبيرة
رجال كُثر يتكومون على الرّصيف المقابل لديوان الزكاة، بعضهم مستلق ومتدثر بأثمال وملاءات وعمائم، بعضهم جالس يثرثر ويحكي معاناته، بعضهم قلق، يقف على رجليه ويتحرك جيئة وذهاباً ربما يحاول تدفئة نفسه.
لقطة متوسطة
امرأتان وطفل رضيع يفترشون ورق كرتون في ممر ترابي مفتوح على الفضاء، ويستلقون في مواجهة نافذة خشبية صغيرة مغلقة، متدثرون بثوب نسائي، والمرأة الشابة استعانت بورق الكرتون لتغطي قدميها حيث فشل الثوب في الوصول إليهما.
"السلام عليكم."
"وعليكم السلام."
أجابتها الشابة. شعرت الكبرى بمقدمها، عدّلت من شأنها وعادت للنوم.
"إتخيلت إني أول زول يصل."
"نحن هنا من الساعة عشرة."
تمد لها بورقة، وتضيف:
"سجلي اسمك."
"ما بعرف أكتب. أكتبي لي أنتِ."
"رقمك 15."
"خمسطاشر؟ ديل سجلّوا متين؟"
"في ناس بيسجلّوا ويفوتوا ويجوا بدري بكرة، لكن أحسن الزول يكون قاعد لما يندهوا عليهو."
صمتت لحظة، المرأة مازلت واقفة بقربها حجر، فكّرت أن تجلس عليه إلا أنّها سمعت الشابة تقول:
"أمشي للعسكري الهناك دا يديكي كرتونة، أفرديها زي دي كدا، أدانا دي قبيل."
تتحرك المرأة لتجلب ورق الكرتون، ليس أمامها خيار، لا يمكنها أن تجلس على هذا الحجر حتى الصباح وهي تعاني سخانة البول، ورق الكرتون أرحم.
فلاش باك (ذكريات)
"الكلية اعطّلت نهائي، والتانية في طريقها، لازم إجراء عملية لزرع كلية جديدة."
"يعني مافي حل؟"
"لا لازم عملية."
"العملية دي قروشها قدر كيف؟"
"كتيرة."
لقطة بزاوية 45 درجة تُظهر سرير المريض في مستشفى وبقربه تجلس المرأة ومنضدة وحامل دربّات. صوت واهن:
"خليني أموت يا أمي."
"طيب أعيش أنا لمنو؟"
"العملية دي بتكون غالية، نجيب قروشها من وين؟"
"الله كريم يا ولدي، ح يفرجها."
حــوار
"أعمل ليهو العملية بالدين وبعد يشفى يسدد ليك."
"يا حاجة في عملية بالدين؟! دي قروش المستشفى."
صوت تخنقه العبرة:
"يعني تخليهو يموت؟"
"عندي ليك حل، بس حل ما مضمون، أكتب ليك لديوان الزكاة يديكي جزء من التكاليف."
"طيب الجزء الباقي؟"
"أنا بتصرف، ربنا يسهل."
"تشكر والله يا دكتور، الله يبارك فيك."
وابتسمت فأضاء وجهها.
لقطة متوسطة
حجرة مكتب به ثلاث مناضد، وبه موظف وحيد واضعاً أقدامه على المكتب يحل في كلمات متقاطعة، بقربه نصف كوب من الشاي.
المرأة في الخارج تطرق الباب، لا تجد ردّاً. تطرق مرة أخرى، لا تجد ما تنتظره. تشك أن يكون هناك أحد. تمد عنقها، تلمح فردة حذاء، تمد عنقها أكثر لترى أكثر فتجد الموظف.
الكاميرا تتحرك بحركة المرأة:
تخطو إلى الداخل، وتلقي بالتحية، ولكن لا رد. يبدو الضيق على وجهها. تيأس من أن يرد السلام، فتحكي حاجتها.
"عندي الورق دا بتاع ولدي عيان."
"عندو شنو؟" يجيب دون أن يرفع رأسه عن الصحيفة.
"عندو كلى."
"الأمراض الكبيرة دي عندها يومين بس في الأسبوع، السبت والأربع، تجي بدري عشان الناس كتار، ولازم تجيبي الأوراق كلها."
لقطة متوسطة
الممر الترابي، في نفس الموضع السابق أمام النافذة الخشبية، ثلاثون امرأة يفترشن التراب والكرتون، واثنتان تتقاسمان الحجر. الوقت الرابعة والنصف صباحاً. المرأة تنصت إلى حوارهن.
"ح يفتحوا الشبّاك متين؟"
"بعد نص ساعة."
"بعد التعب دا ح نقابل لجنة؟"
"طبعاً احتمال يصدِّقوا بالقروش واحتمال لا."
"اللجنة بتقابل كم؟"
"خمسين بس رجال ونسوان."
"أنا جيت تلات مرات، كل مرّة يكونوا أخدوا كفايتهم، قلت المرّة دي لازم أبيِّت هنا."
"لي تلاتة شهور كل سبت واربع بجي وكل مرّة يقولو لي الورق ناقص، كل ما أجيب ورقة يقولو في واحدة ناقصة."
"دي أوّل مرّة أجي هنا، اضطرينا نجي بعد ما بعنا البيت عشان نعالج أمي، ولسه المبلغ ما كافي، أنا وأخواني قلنا نجي الزكاة كان يساعدونا شوية."
"قروشهم ما بتكفي لكن أخير من عدمها."
الكاميرا تقترب (زوم ان)
وجه المرأة أسمر نحيف، منطفيء، متعب، حزين، وجدت التجاعيد سبيلها إليها، خاصة حول الفم والعينين. عينان غائرتان، وخدان بارزان نوعاً ما، من أسفل غطاء الرأس تظهر الشعيرات البيضاء تمازج السوداء، نظراتها ثابتة وذهنها شارد. تحدِّث نفسها:
"ليس لدي منزل لأبيعه ولا أخوة ليشاركوني القرار، أنا وهو فقط."
اللقطة تقترب أكثر، تركِّز على العينين. العينان لامعتان ممتلئتان بالألم، ثابتتان على نقطة في البعيد، بعد عمر ترمشان ممّا يدل على تغيُّر المشهد في الذهن. تطفر منهما دمعة كبيرة. الكاميرا تتحرك إلى أسفل باتجاه الدمعة الساقطة، تركِّز عليها وتكبِّرها.
الدمعة قطرة ماء كبيرة شفافة دائرية يظهر داخل محيطها زوجها المرحوم وهو متكئ على العنقريب (*) وقت الأصيل، وابنها وهو طفل ينتف شارب والده ويداعبه متقافزاً حوله بشقاوة، وهي جالسة سعيدة ضاحكة أمامها ثلاثة أكواب وإبريق الشاي بالحليب.
النهاية
(*) العنقريب: سرير بسيط.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ