رعد مطشر - العراق
الشاعر العراقي ... يبتسم
أيتها الظلمة: الشاعر العراقي لا يزال يمسحك بنوره، ويبتسم
وأنا أستدرجُ حياتي بعيداً عن هدوء اليائس وأمل المؤمن بالقريب المضيء، رأيت أنّني خرجتُ لتوّي من قبو اللبوةِ ومن بين فكّيها إلى بيت الحياةِ والشعر. دخلتُهُ، وإذا بي أراه مُقسّماً إلى خمسِ غُرفٍ تشبهُ الدوائر في العروض؛
فتحتُ بابَ الغرفةِ الأُولى، ألفيتُها دائرةً "للمختلفِ." أسميتها "دائرة الستينات،" تلك التي هطلت اختلافاً وبزغتْ من خمس نوافذ تنفتح على جهاتٍ أربعٍ ومركزٍ للدائرة، هذه الدائرةُ "الجيلُ" راوغت سكون ورتابة ما قبلها وانطلقت متماوجةً بالعصافير والزقزقةِ إلى ما بعدها، وتركتْ على جدرانها بياناتٍ وأوراقاً ملبّدةً بالتوهـّجِ والاختلاف، وأشارت إلى غرفةٍ مجاورةٍ لها، أنـّها غرفةُ "دائرة الائتلاف."
غرفةُ الائتلاف تلك سباعية الألم والحروف وكأنـّها تشيرُ إلى "جيل السبعينات" الذي جاور"دائرة المختلف" وأخذ منها تدويرها وبعض انفجار حروفها وقليلاً من اقتصادها في بثّ الألم والغياب بين ثنايا الورق، لكنّه نسي في – لحظة عابرة – أنّه تمادى كثيراً في سرد ذاك الألم، وفي انفلاتٍ يطيح بهيبة الموجِ وسفن اللغة المبجّلة، أرادت هذه الدائرة "الجيل" رغم ائتلافِها أن تنكُر جارتها، لكنّها ظلّت وفيةً في داخل التمرّد والحضور، ولَمْ تنسَ أن بجانبها وعلى مقربةٍ من أنفاسها غرفةُ الجيل القادم ودائرةُ "المجتلب."
"دائرة الثمانينات،" (ويالها من دائرة!) دائرةٍ اجتلبت آلامها كلّها، وأجلستها على كرسي الحرب والدمار، فرأتْ كيف تتداخل أشلاؤها بين ثنايا "التفاعيل"، وتـنسرحُ مع "رمل" الموتِ و"رجز" الشهادةِ و"هزج" الانتصار على رصاص الحروب، وكيف خرجت من الرُحى وفي أكفّها المنغمّسة بالكمائن والأسلاك والرماد والزهور، باقات من ألقٍ وبلّور يطلُّ على ارتعاشة صفيح السقوف والهواء؛ دائرةٌ خُطَّ على خشبها المصاب بلغة الارتحال: إنَّ الشعرَ أزلي؛ فقد رافق أول قطرةِ دمٍ وأول موتٍ وأول حزنٍ أبويّ، وأول رثاءٍ، وأول خديعةٍ بين شقيقين "عدوَّين." دائرةٌ لملت أشلاءَها وأسماءَها وتواريخَ لوعتها في مسبحةٍ خيطها من حرير وأحجارها من حديد، وكنتُ من بينهم وفيهم أشهدُ ما رأيتُ وأقرأُهم واحداً وأعبرُ معهم إلى غرفة جديدةٍ في نهاية الممر الطويل"ممر الثمانينات" إلى غرفة "التسعينات."
وهذه الغرفة سأطلقُ عليها تسمية "المشتبه." هذه "الغرفةُ الدائرةُ: الجيل"،تشتبه في ألمها وحصارها وتساقط حياتها بين الركض والحصارات، فهي الدائرة التي ضمّت بحوراً كثيرةً، فكانت "تفاعيل" حياتها متصلة الحروف والوجع والتطلّّع نحو غدٍ جميل، غير منقطعٍ عن سلام الطيور وروحها وحياتِها الممتدّة الخيط، المنسوجة من أمل الصبر والبقاء، رُغم أنَّ الصواريخ نبحت عليها والطائرات ألقتْ بشظايا ليلها على أجساد كلماتها ووزّعت أطفال شعرها بين الملاجئ والاحتراق، وبين شوارع الارتباكِ والصبر على عثرات الرصيف، دائرةٌ لا قطيعةَ فيها ولا افتراق، بل دعوة نحو الاختلافِ والإبداعِ في الرؤى وتفرّد الدلالةِ في النصوص، دائرةٌ على اتساعها اختزلت حياتها في "نصٍّ صغير" كموجة، كبيرِ في المعنى كمحيط، غامضٍ في وضوحه كشمس.
هكذا قرأتُ ورأيت وتابعت ولملمتُ بعض الجمر من تاريخ العراق المتوقّد بالشعر والحياةِ، فرأيت أجيالاً أبدعتْ، وأجيالاً إدّعتْ، وأجيالاً ودّعتْ رمادها في موقد الكسل والانزواء، وأجيالاً تدرّعتْ بقبوها هنا، وأخرجت سكاكينها هناك.
وها أنا ألمسُ بكفٍّ راعشةٍ وقلبٍ متعثّر بدماه مَنْ يرحلُ من دائرة "المختلف" ومَنْ ينزوي هنا وهناك في دائرة "المؤتلف" ومَنْ يستشهد ويغيب ويحضر ويستسلم في "دائرة المجتلب،" ومَنْ تكاثر وتناثرَ وتشاعر وتفاخرَ وتراكم وأبدع في "دائرة المشتبه." دائرتنا، وقصيدتها الموزّعة كشبكة دقيقة التراكيب، سهلة الدخول، ممتنعة الألق، إلاّ لمن أخلص وعرف كيف تدور تلك الدوائر التي لَمْ تأت من فراغ بل كان على أكتافها تأريخ طويل يشير لدوائرَ مضت، ويتجه نحو دائرةٍ جديدة؛ "دائرة المتفق" التي – ربما – ستتـّفق على "تفاعيل" حزنها لترهنها إلى عصر "الانترنيت" والجمرة الخبيثة،. وربّما تصير القصيدة القادمة لغةً للمحنة والعماء.
القصيدةُ: إنـّها نقطةٌ بين المحنة والمحنة
لمّا كانت الحياةُ أُفقاً مفتوحاً، والإنسانُ "بلا إنسانيته" يغدو مسخاً مشوّهاً، فأيُّ الجهات والآماد تقدر أن تلمَّ شتات شاعرٍ يفلتُ من ثنايا الزمنِ والأمكنة ومن نعش الزجاج المؤطّر بدوائر لهندسة الحياة غير أن يبحثَ تحت سخام الأضلعِ عن مغامرةٍ في فضاءٍ كونيٍّ أوسع، عن قصيدةٍ تمتدُّ إلى البوحِ ولحظة التحّرر وفناء الذات في الآخرِ غير المعلنِ، والوصول إلى نقطة بين المحنةِ والمحنة حيث يملك الإنسانُ – الشاعرُ ممالك الشعر والحياة وحدائق اللغةِ الملأى بالدهشةِ والتوليد، وحين يصل إلى تلك النقطة سيرى استدارة الجياع عن خط الأُفق وعن سلاسل القدمين، وحشو القناع على الوجوه المنفية خلف هيكلٍ يقول: "ابدأ من هنا، وانتهِ هناك،" وعليك – اضطرارا – أن تتناسلَ حشواً بين النقطتين، وأن لا تسرقَ أيَّ فردوس من بحورها النحاسية، ومن أبواقها المطبّلة للخراب، المعلّقة في هامشٍ واحدٍ لديكتاتورٍ واحد لا يرى الأعين المغلقة لجنازاتٍ تنظرُ إلى ظالمها، حيث يسرق رموشها الرصاص وتتركها ظلمة الأجراس للخسائر؛ خسائر تحول الحربَ إلى بحرٍ رحبٍ ملؤه الخيال، وتخلق من الشظايا سمكاً يسبح في ذاكرة العراق؛ العراق الذي يشبه فم الغريق وهو يرنو للبكاء، وما عليك إلا أن تميط اللثامَ عن ركام الفرح وأن تزاحمَ ضحايا الأمسِ بصفتك أبنا للحربِ وشاعراً لسلام العراق، تجاوز أسباب النفس الخائفة، وترى انزلاق بحور الطغاة وتعبر فوقها إلى عالمٍ أوسع وفضاءٍ أجمل، طارقاً احتشاد العُشب موازياً الندى بالرفيف، موسعاً مهد العراقِ بالأمنيات، مودّعاً موتك وانفلاتك من سيرةٍ تلاحقك كالممات في لغة العماء الأبدي.
اللغةُ عينُ الأعمى
ولمّا كانت اللغة أرقى ما لدى الإنسان من مصادر القوة والتفرد والوصول إلى الاتصال مع الآخر، انطلاقا من قوّة الداخل لتحطيم عواقب الخارج، لذلك يجب عدم التفريط بهذه القوة، سلاح الإنسان، وعصا الشاعر الخارق لفضاءات الظلام، وعدم تركها تصاب بالعمى الجزئي أو الكلي، أو حتى إصابتها بالماء الأسود، وإذا ما حصل ذلك للغة "افتراضاً" فعلى الشاعر أن يصبح طبيباً ماهراً فيقوم بإزالة "قرنية" الحروف الملتهبة وإحياء "قزحية" الجُمـَل وإعادة العدسة إلى ضوئها ومن ثم استئصال المادة الزجاجية التي تسببّت في تعتيم الرؤية والرؤيا.
إن ما يحدث داخل اللغة هو شيءٌ أعمق من أن تدركه الرؤية بأصابعها المجرّدة، أو الوصف المجرد للأشياء بواسطة تلك اليد "الرؤيوية." ما يحدث هو أن ما نراه لا يراه إلاّ من ردم تلك الهوة السحيقة بين اللغة المجردة واللغة اللاّمحسوسة، أي بين ما نراه مادياً وما هو خلف حجب الرؤيا، هذا بالنسبة للكل، كل مستخدمي اللغة نطقاً وإشارةً، "علماً أن لغة الإشارات هي أقدم طريقة للتفاهم، ولغة اليد هي الكلمة."
أما لغة الشاعر المبدع فهي شيءٌ آخر، تتجاوز مقولة أو فرضية أنّ اللغةَ جسرُ تخاطبٍ وتواصلٍ. ومجموعة الرموز لم تجيء صدفة لتتركب هكذا. اللغة عند الشاعر لها أذنٌ تسمع دويَّ الريح وهي تنقل بجسمها البضَّ هزيم الرعد، وتعزف في الأذن الأخرى خرير الماء في حفيف الشجر، وتلكما الأذنان تتذوقان يد الشاعر، وما يكتبه، وما يتلمّسه من أزيز المراجل في الرؤوس المتعبة، وهي تعبر جسر حياتها متبوعة بصراخات الموتى ونداءاتهم الخفية، لذا على الشاعر أن يتعرّف على الحياة – كقطةٍ صغيرة – بأذنه ثم يكتشفها بيده، يتلمـّسها ويكشفها ببصيرته الرائية.
اللغة هي إعادة لهندسة الحياة المرتبكة بصورة جمالية مفترضة، وهي الطاقة التفجيرية الكامنة بين ثنايا الحروف، الحروف التي تكوّن مملكةً بذاتها لها: عبيدها وحرّاسها ونساؤها المشاكسات. وأخيراً لها ملكُها الواعي الذي يسيـّس هذه الرعية ويقودها إلى السحر والبهاء. والشاعر في لغته يعني التمرّد؛ التمرّد على الجاهز والبديهي والانفلات من الرتابة والبحث عن أشكال جديدة إيقاعياً وتركيبياً ومعجمياً ودلالياً.
اللغةُ مهرةُ الشاعر الجامحة، والشاعر الملهم هو الذي يعرف كيف يطوّع تلك المهرة لفارس قلمه وألمه، وتهذيبها لتناسب قاموساً لغوياً يبين الحياة ويشع بالألق، وعلى الشاعر أن يبرع في مزج اللغة الكتابية باللغة الإشارية ثم باللغة الإنفعالية لتحقيق هدف الإيصال بطريقة تختلف عما يحدث في العادة.
اللغة التزامٌ وإنفلاتٌ في ذات الوقت لتحقيق ما قاله الشاعر الفرنسي، جسبار ريتشارد: "سيأتي يومٌ يصنع فيه شعرٌ يذاق، ويقرأ، ويشم، ويشترى بالأرطال، شعرٌ يشغل حيزاً تكون له قيمة معمارية، شعـرٌ يخرج عن نطاق الطباعة،" شعرٌ عراقيٌ؛ "يعيد اكتشاف العالم" بعين الأعمى–البصير.