بسام الطعان - سورية
لا
ليتك لم تأت أبداً يا عيد، أو تأخرت حتى تتفتح براعم الفتوة في مســاكب الجسد، آه يا عيد، لماذا عدت بهذا الشكل يا عيد؟
عيد متعب، يزيد التوتر توتراً، يغطي الأجســاد الباردة بمعاطف الأنين، في ليلته، أمسك الطفل الذي لم يتــــجاوز الخامسة من عمره بيد أبيه وأخذ يهزها ويبكي:
"بابا، خذني إلى ماما. أريد ماما."
أمسك الأب بسبحة من الهم لا ينتهي العد فيـــــــــها، ثم دخل في مغارات الصمت الرهيب، وقبل أن ترتفع راية الهوس، ضمه إلى صــــدره، مسح دموعه، قبّله، وفي داخل حقل الكآبة الذي دخله رغما عنه، هدهده، حدثه عن الألعاب الكثيرة التي سيشتريها له، عن الشوكولا والفواكه اللذيذة، عن العيد والزيارات الكثيرة التي سيقومان بها، عن فرح قادم كالربيـــع، وعن المدرسة عندما يكبر قليلاً.
لكن الطفل رفض أن ينتمي للهدوء، ورفض كل الاغراءات وظل يطالب بحقه ككل الأطفال، عندئذ اخرج من جيب ذاكرته حكاية جميلة مـــــثل ضــــحكة طفل ونثرها فوق أذنيه، ولكن حين تحولت الكلمات إلى عصافير تطير نحو البعيد خرج من دائرة المنطق وصرخ وهو يأتي حركات عشوائية:
"متى سألحق بها وأرتاح؟"
لكنه ما لبث أن هدأ نفسه وهدأه، مسد شعره بحنان ووعده أن يأخذه إليها في الصباح.
قبل أن ينهض الصبح من نومه، مســـــــح الطفل النعاس عن عينيه، دار بنظراته في الغرفة، تطلع إلى ثيابه الجديدة المعلقة على الحائط، فلم يشــعر بالبهجة، اقترب من أبيه الذي كان يصطنع النوم:
"بابا، انهض يا بابا لنذهب إلى أمي."
فتح عينيه ببطء ونظر إليه بأسى وكاد يجهــــــــش ببكاء حاد مصحوب بتوجعات آلامه، غير أنه تمالك نفسه. داعبه قليلاً، ثم ألبسه ثيابه الجديدة، وحاول أن يجلب له من سماء العذاب سرب حمام. حدثه عن أشياء كثيرة لعله ينسى، لكنه رفض النسيان، وأمام الإصرار والحرائق الــتي استندت إلى روحه ودمه، أمسك بيده ومضى به برفقة قنديل الجراح إلى حيث ترقد الأم.
جلس أمام كومة تراب ترتفع فوقها شــــــاهدة حجرية. أجلس الطفل في حضنه،قبلّه وهو ينتحب بصمت، وقال بصوت أشبه إلى الهمس:
"هذه هي أمك يا ولدي. إنها تنام هنا منذ أسبوع."
تطلع الطفل بدهشة إلى كومة التراب، ثم إلى القبور الكـــــــثيرة وطرح أسئلته البريئة:
"لماذا هي نائمة هنا؟ لماذا لا تنهض وتأتي إلى البيت؟"
ثم قال وهو يشير إلى القبور:
"لماذا كل هذه البيوت صغيرة؟"
اغرورقت عيناه بالدموع، وأعلن هزيمته أمام الأســـــــئلة، وحـين طال صمته صاح الطفل:
"ماما ماما، انهضي يا ماما. ماما."
"لماذا لا ترد؟" أضاف حين لم يسمع جواباً.
"إنها نائمة يا بني. لا تبك وسأحكي لك حكاية جميلة." قالها حـــين دخل الطفل في حقل البكاء.
رفض وتمرد، فما كان منه إلا أن حمله بين ذراعيه وعاد به إلى البـيت رغما عنه.
منذ أن فقد شريكته في الحياة وهو يأرق من الصباح إلى الصباح، يمتطي صهوة العذاب، ويدق باب النسيان، فيرجعه الرتاج الصــلب، ومع صداه الذي يصدمه، ينبثق أمامه وجهها الذي طالما هدهده في الليالي.
حياته أضحت بلا معنى، بلا هدف، بلا روح. حياة كالوباء، كالصـــمت السرمدي. ونفسه مفجوعة، مشروخة، ومشحونة بألف رغبة ورغـبة. أما وجهه فهو دائماً منكسر وشاحب كلون أوراق الجرائد القديمة.
أيام وأيام والطفل لا يمل من البكاء، يريد أن يكون كابن الجيران، يذهب مع أمه إلى الحديقة، يعانـقها وتعانقه، يــغني لها وتغنـــــي له، يلثم وجهها وتضمه إلى حضنها الدافئ.
في ليلة لا تشبه الليالي، كان الأب يتقلب في فراشه، وحين وقعت نظراته على الطفل النائم في الجهة المقابلة، أشعل سيجارة، سحب نفسا طويلا وقال في نفسه:
"يجب أن أبحث له عن أم أخرى، عندها ســـــينسى وسيعود الدفء إلى هذا البيت."
لم يتأخر كثيراً عما أراد. دخل إلى البيت ومعه امرأة مرشحة لأن تكون أما وزوجة.
قال بمرح:
"تعال يا عبودي وسلّم على ماما."
ترك طائرته الصغيرة ونظر إليها بعينين مجهدتين، فبــدت له مثل كائن غريب، وفجأة انساب الهلع إلى قدميه الصغيرتين، وفي الشارع الواسع كان قلبه عصفوراً تحوّل غناؤه إلى شهيق خافت.
◄ بسام الطعان
▼ موضوعاتي