عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: أحلام مستغانمي - الجزائر

ذاكرة الجسد


وبدأت أشعر بالندم. فأنا رغم كل شيء لا أريد أن أكره زياد اليوم. لا أستطيع ذلك. لقد منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وهأ أنا صغير أمامه وأمام موته. ها أنا لا أملك شيئا لادانته، سوى كلماته القابلة لأكثر من تأويل، فلماذا أصر على تأويلها الأسوأ؟

لماذ أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر يحترف الاغتصاب اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يخلق على قياسه، بل ربما خلق على حسابه؟ فهل أطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟ لقد ولد هكذا واقفا. ولا قدر له سوى قدر الأشجار، فهل أحاسبه حتى على طريقة موته، وعلى طريقة حبه؟

وأذكر الآن أني عرفته واقفا. أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي لأول مرة، عندما أبديت له بعض ملاحظاتي عن ديوانه، وطلبت منه أن يحذف بعض القصائد. أذكر صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الشيء عند ذراعي المبتورة، قبل أن يقول تلك الجملة التي كانت بعد ذلك سببا في تغيير مجرى حياتي. قال لي: "لا تبتر قصائدي. سيدي، رد لي ديواني، سأطبعه في بيروت."

لماذا قبلت إهانته يومها دون رد؟ لماذا لم اصفعه بيدي الثانية غير المبتورة وأرمي له بمخطوطه؟ ألأني احترمت فيه شجاعة الأشجار ووحدتها، في زمن كانت فيه الأقلام سنابل تنحني أمام أول ريح؟ واقفا عرفت زياد، وواقفا غادرني. أمام مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أي تعليق هذه المرة. لقد اصبح بيننا – منذ ذلك الحين – تواطؤ الغابات، واليوم صمتها.

فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحت أقلب الدفتر وأعد صفحاته وأتفحصها بعيني ناشر، وإذ بحماس مفاجئ يدب في قلبي ويغطي على بقية الأحاسيس، وقرار جنوني يسكنني. سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية قد أسميها "الأشجار" أو "مسودات رجل أحبك،" أو عنوانا آخر قد أعثر عليه أثناء العمل. المهم أن تصدر هذه الخواطر لزياد. أن أمنحه عمرا آخر لا صيف فيه، فهكذا ينتقم الشعراء دائما من القدر الذي يطاردهم كما يطارد الصيف الفراشات. إنهم يتحولون إلى دواوين شعر، فمن يقتل الكلمات؟

أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أن أدري. منحني مشاريع لأيام كانت فارغة من أي مشروع، فقد حدث في تلك الأيام أن قضيت ساعات بأكملها وأنا أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان لأخرى، وأحاول ترتيب فوضى تلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، لوضعها في سياق صالح للنشر. كنت أشعر بلذة ومرارة معا، لذة الانحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلمات وحدي أملك حق وأدها في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب. ومرارة أخرى. مرارة التنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في دورته الدموية، في نبضه وحزنه ونشوته، ودخول عالمه المغلق السري دون تصريح ولا رخصة منه، والتصرف نيابة عنه في الاختيار وفي الإضافة والحذف.

أحقا كنت أمتلك صلاحية كهذه؟ ومن يمكن أن يدعي أنه لسبب أو لآخر موكل بمهمة كهذه؟ ولكن من يجرؤ ايضا على الحكم بالموت على كلمات الآخرين، ويقرر الاستحواذ عليها لوحده؟

كنت أدري في أعماقي أنه إذا كان لموت الشعراء والكتاب نكهة حزن إضافية، تميزهم عن موت الآخرين، فربما تعزى لكونهم وحدهم عندما يموتون يتركون على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقلام ومسودات وأشياء لم تكتمل. ولذا فإن موتهم يحرجنا بقد ما يحزننا. أما الناس العاديون، فهم يحملون أحلامهم وهمومهم ومشاعرهم فوقهم. إنهم يلبسونها كل يوم مع ابتساماتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم، فتموت أسرارهم معهم.

في البدء كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني إلى البوح، وإذا بكتاباته تخلق عندي رغبة لا تقاوم للكتابة. رغبة كانت تزدادا في تلك المرات التي كنت أشعر أن كلماته لا تطال أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما لأنه كان يجهل النصف الآخر للقصة، تلك التي كنت أعرفها وحدي.

متى ولدت فمرة هذه الكتاب؟ ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصرا بإرث زياد الشعري، في ذلك اللقاء غير المتوقع لي مع الأدب والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ انفصالي عن وظيفتي، منذ عدة سنوات في الجزائر؟ أم في لقائي غير المتوقع الآخر، مع مدينة حجز لي القدر نفسه موعدا متأخرا معها؟ أكان يمكن لي أن أجد نفسي وجها لوجه مع قسنطينة دون سابق إنذار؟ دون أن تنفجر داخلي الدهشة شلالات شوق وجنون وخيبة، فتجرفني الكلمات إلى حيث أنا؟


مقطع من رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي. الناشر: منشورات أحلام مستغانمي، لبنان. الطبعة 19. (2003). ص 262-265.

JPEG - 38.7 كيليبايت
غلاف: ذاكرة الجسد
D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2006     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات