جميل سوالمة - فلسطين
السيجارة الأخيرة
مقهى، ليل، نساء، برد، ضجيج، بخار متصاعد من الأفواه يكاد يخطف برودة المكان، مزيج من الناس يجلسون في مقهى في ليلة باردة، ضجيجهم وأحاديثهم كقصة بوليسية متفرعة الخيوط، تلتقي حيناً تتباعد أحياناً، تشوبها مشاعر حزينة مجهولة السبب. حركة صاخبة في ذلك المكان، تكاد تعتقدها للوهلة الأولى مرسومة منظمة لرتابة الأحداث فيها ليلة بعد ليلة، أبطالها هم دائماً سكان ذلك الحي البائس. فرحة ترتسم على الوجوه، ربما لإخفاء ما في نفوسهم من حزن دفين. عيون تسافر عبر البخار والضجيج تحلم بغد أفضل، أو على الأقل غير الذي قبله. موسيقى هادئة، ألحان عراقية أصيلة، كاظم الساهر يغني موال الغربة. وأنا جالس على طاولتي المعتادة في زاوية المقهى حتى أكاد أن أرى جميع الناس في ذلك المكان.
كعادتي، دائماً أتناول قهوتي وفي يدي جريدة. استمع لتلك الموسيقى التي أقدسها من بين كل سمفونيات العالم. ربما سرحت معها حتى لم أعد ألاحظ أي حركة من حولي. لم أعد أهتم سوى بذلك الشيء الوحيد في تلك العلبة الملقاة على الطاولة أمامي. أنتظر أحداً ليأتي محرراً ذلك الشيء اللعين الممتع. تقطع أفكاري ابتسامة ترتسم على شفتي تعبر عن عجزي وحقدي وسخريتي، حيث إنني أصبحت عاجزاً عن تحرير ذلك الشيء وحاقدأ عليه وساخراً من نفسي لعجزها الأسطوري عن فتح علبة ملقاة أمامي فيها شيء واحد يحتاج لمفتاح من لهب. استغرب من تلك الأشياء التي يحررها اللهب وتحترق فيه لمتعة قصيرة يتذوقها إنسان قد فقد إنسانيته في هذا الموقف الرهيب.
لحظات، زمن جامد، أو إن ساعتي غبية، ربما إن ساعتي ذكية والوقت هو الغبي، لا أملك رداً. أطنان من الهلوسات تنهال كشلال أحمق في دماغي، ولا يعكر صفو هذا الإحساس باللذة سوى معاودتي التفكير بتلك العلبة التي يستطيع فتحها أي كان، وأنا الآن لم أعد قادراً على فتحها. كبريائي، جبروتي وقفا عاجزين في تلك اللحظة الغبية من ذلك الزمن الأسود.
الناس ما زالوا يتبادلون أحاديثهم بسلاسة منقطعة النظير. كلما أفرطوا في تناول فناجين أحزانهم، حتى إذا تذكروا طرفة أو حادثة مضحكة راحوا ينفجرون دفعة واحدة في الضحك حتى يغدو المقهى وكأنه دار أوبرا تعزف ألحان القرون الغابرة مع كل ضحكة يطلقها أحد الجالسين. ونساء قد اعتدن ذلك الجو، حيث عملن لسنوات طويلة في ذلك المكان، يسهرن حتى الصباح ويقدمن المشروبات الساخنة والباردة طوال الليل لسكان المقهى. أصبحن يمكثن فيه أكثر من بيوتهن. ولكن وجوه أولئك الفتيات في المقهى لا تختلف عن وجوه باقي سكان المقهى، حيث ملامح الأسى والحزن، الممتزجة بذلك الصخب الهادر، قد طردت كل تعابير الجمال من وجوههن.
من سيحرر ذلك الشيء الأسطواني ليحترق فيملأ قلبي نشوةً واحتراقاً؟ تمر تلك السمراء التي غدت هدفي في زيارة ذلك المقهى يومياً، بل أكثر من مرة يومياً. عشقتها بغير كلام، وعرفتها من دون لقاء. باتت تملأ علي وقتي وقهوتي وساعتي وجريدتي. عيناي تلاحقان شعرها لفرط ما فيه من سواد سديمي. دماغي نسي العلبة الملقاة أمامي وذلك السجين بداخلها، وسافر بعيدا عن رأسي، عن المقهى، وعن القهوة إلى سمراء مرت لتوها من جانبي، فبت مشدوهاً، مصدوماً، غير قادر على التحكم بحواسي وغرائزي. مع كل عظمتي في تلك الجلسة الملوكية وحيداً، رزيناً، لم أستطع أن أحاول استيقافها.
فجأة، تذكرت العلبة فشحذتني بشحنة من لهيب، من غضب. حرّكت أقدامي وأرغمتها على السير وراء تلك الفتاة، واستجمعت كل طاقاتي العقلية والجسدية ووضعتها في لساني فنطق:
"هل لنا أن نتحدث؟"
جاء الجواب قاسياً، جافاً، حاداً. "فيما بعد ، فأنا مشغولة كما ترى."
"ممكن سؤال آخر؟"
"تفضل وبسرعة."
"هل معكِ قداحة؟"
"نعم تفضل، وسأعود لآخذها بعد قليل."
عندها حصلت على مرادي، كلمتها. عيناي غاصتا في سواد شعرها، في رقة خصرها. وعدت إلى طاولتي ظافراً منتصراً، متحدياً كل نساء العالم. وجدت العلبة البيضاء ما زالت ملقاة على طاولتي لم أكترث بها كثيراً، فقد حصلت على مفتاحها. تناولتها برجولة مطلقة، فتحتها. تناولت ذلك السجين ووضعته بين شفتي. أخرجت القداحة من بين أصابعي. أشعلت سيجارتي. امتلأت بالنشوة. جلست أنتظر وأنتظر وأنتظر حتى ماتت السيجارة. لم تعد السمراء، ولكن بقي بين شفتي لهيب السيجارة.