عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سالم ياسين - لبنان

كل يوم


"نعم. هذا هو اسمي الثلاثي، ورقمي التسلسلي، ونوع إعاقتي."

تقتلني الأسئلة ذاتها ألف مرة. الأسئلة التقليدية ذاتها، كل مرة في شكل مختلف.

"كنت طفلاً عندما تلقيت ذلك المطعوم في عيادة الأونروا."

اعتقدت أمي المسكينة أن الممرضة اللئيمة قد أصابت عصباً في رجلي. حرارة وارتخاء، ولم أتمكن من الوقوف على رجلي في اليوم الثالث. مسلسل لا أذكر منه سوى ما أخبرتني به أمي وأبي وإخوتي الكبار. يعرفون بكل دقة تفاصيل امتقاع لون وجهي ودرجة حرارتي، وكل حرف نطق به ذلك الطبيب في المستشفى الأجنبي ليفك طلاسم ما يخبر جسدي الهزيل عنه.

"نعم. رضعت بشكل طبيعي. لا توجد إعاقة لدى فرد آخر في العائلة."

تقتلني للمرة الألف بعطرها، وشعرها الكستنائي الناعم. هل يوجد في الاستمارة أي سؤال عن درجة حرارتي الآن وأنت قبالتي؟ هل يوجد في الاستمارة أي سؤال عن رغبتي بإراحة رأسي على صدرك الممتليء بالعطف والإنسانية؟

يا لخزي نفسي. إنها تحاول مساعدتي في مجال عملها. ستضاف استمارتي الملأى بالأجوبة إلى كومة ملفات عملها المنجز، وربما استدعوني هذا الشهر إلى رحلة أو إلى حفل غداء وحوار تنظمه الجمعية بمناسبة "يوم المعاق العالمي."

خوفي أن يكون نشاط المناسبة مسابقة للجري السريع. كم أكره ذاك البرنامج، حيث سأعدو "قمزا" على رجل ونصف، وأرى الدنيا تهتز أمامي يمينا ويسارا، أطيح برجلي الخرقاء وأستردها بقوة، مدفوعا بصرخات ضحكاتها تصفق بحماسة، وقد أفوز عند خط النهاية، وتقفز فرحا، وتغمرني مهنئة بذراعيها وعطرها، وصدري المنتفض تعبا وخفقانا يلامس صدرها.

يا لخزي نفسي. لم أكن يوما من الفائزين، ولم يتسن لي حتى رؤية وجهها الضاحك قرب خط النهاية، فكيف ستبقى بحماسها وضحكها حتى وصول جنابي قبل الأخير؟ ربما سأحظى بما تبقى من عطرها، ولكن ستطغى عليه الرائحة النتنة لعرق صديقي "أحمد العفن،" ذي الخطط الخماسية للاستحمام.

كيف سأجاري خطوات أحمد في السباق، وهو الملقب "بالسيبة" لطول قامته؟ كم أكره ذاك البرنامج، بل وكم أكره الرياضة بحد ذاتها. لو كنت سويا لما مارست أي رياضة، ولقضيت نهاري متنبلا بين لفائف التبغ وفناجين القهوة، ولكن هذا البرنامج هو المتنفس الوحيد المتوفر في المخيم.

مسلسل الأسئلة ذاتها يقتلني للمرة الألف.

"نعم. أعمل تقنيّا في مختبر فني للأسنان، والأحوال جيدة."

أتقاضى أجرا يكفيني تبغا وقهوة وبدل مواصلات. أنا يد المعلم اليمنى، ويعاملني باحترام، ولا يستغني عني. صحيح أني أخجل أحيانا حين أضطر لكنس المحل صباحا، ولكن لا أحد يراني في الصباح الباكر. صحيح أني قد أخجل من صنع القهوة عندما يأتيه زوار على قدر من الأهمية، ولكن "الشغل مش عيب." وأنا يد المعلم اليمنى، بل ورجله أيضا فأنا أوصل طلبات الزبائن. ثم إني قد انتفضت خلال السنوات السبع العجاف أكثر من مرة وكنت سأترك "عمل السخرة هذا، " لكنه زاد من راتبي في كل مرة لأنه لا يستغني عني. ومن جهة أخرى، أين كنت سأجد عملا آخر بإعاقتي وهويتي الزرقاء؟

"نعم. تعلمت هذه المهنة في المعهد، وكنت الأول في دفعتي."

صبر أهلي وجاهدوا كي أتعلم صنعة "خفيفة" تتناسب مع "وضعي الخاص،" وها أنا أحوالي مقبولة، وأتقاضى أجرا أعلى من الحد الأدنى للأجور. ولو سارت الأحوال بشكل جيد، كنت سأتزوج من فاطمة ذات العينين الخضراوين والصدر العامر. "السيبة" كان سيفقع حسدا وغيرة لو تم ذلك. كم كنت أتمنى أن تسير الأحوال كما أشتهي، ولكن تلك الحيزبون، أمها، أقنعتها أن أولادنا قد يحملون خللا وراثيا كأبيهم، فعدلت عن موافقتها، ولم تفلح محاضراتي العلمية بإقناعها لغبائها الموروث عن والدتها الحمقاء.

"هواياتي: الرسم والأشغال اليدوية. شاركت في عدة معارض."

هوايتي الأساسية، بل اختصاصي، أن أخلو برغباتي الجنسية قبل النوم. بل إني لا أستطيع النوم بدون تنفيسها، ثم أشعل لفافة تبغ بنشوة المنتصر لأستسلم لنوم هانئ.

غدا سأخبر السيبة أني عند هذا الحد من الأسئلة أوقعت القلم عمدا، فانحنت لالتقاطه. سيفغر فاه كالمسطول استعدادا للمزيد، خصوصا عندما أصف ذلك الشق الصغير في أعلى قميصها.

ثم سأعود إلى بيتي في المساء ململما نسيج رغباتي. أعود للهاثي وانتفاض قلبي، حالما بيوم رياضي يمتلىء عطرا وشعرا ناعما، وأشعل لفافة تبغي سعيدا لقتلها إياي بمسلسل الأسئلة ذاتها ألف مرة، اليوم وغدا وكل يوم.

D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006     A سالم ياسين     C 0 تعليقات