مازن الرفاعي - رومانيا
الغد يوم آخر: وفاة والدي
الحزن الأسود يغرق كياني بدموعه بعد أن تمكن من أن يجعل الدموع تنهمر من كل خلية في جسدي. الفاجعة ذبحت نسيج قلبي فنزف ألما. اللوعة تحرق أعصابي فاستنشق رائحة الحريق باستمرار. النفس انفصمت وتشرذمت إلى فتات ناعم تبعثر في كل مكان. المأساة حولتني سكينها الحادة إلى كومة من اللحم اللزج. اضمحل صوتي وتلاشى، فأنا غير قادر حتى على الصراخ. ورغم صحوتي الظاهرة للجميع فأنا مغمى علي من الألم.
رويدا رويدا أغوص في مستنقع الضياع، واشعر باختناق وجودي، وأفول شمس أيامي وراء بحر لا نهائي من الظلام الذي أواخذ يسدل ردائه على حياتي. التعاسة تمكنت مني بسهولة، واحتلت كياني دون أي مقاومة، فاستعبدتني وقهرتني، وبكل اللؤم والحقد والقسوة راحت تمحو المعاني الجميلة في سماء حياتي، وتطفئ أي شعاع أو ومضة نور. وبنهم شديد، وشراهة لا حد لها، راحت تبتلع وجودي قطعة اثر قطعة.
نعم لقد رحل السند والأب والأصل ورفيق العمر ومرشد الدرب، وتركني وحيدا في طريق وعرة موحشة مظلمة وظالمة. رحل الإنسان الطيب، ورحل معه الهدوء والسلام والدعة والأثرة والكرم والحب والألفة ونكران الذات وكل ماهو جميل ونبيل ورائع. رحل وترك خلفه حياة قاسية، موحشة، قفراء، قاحلة، جرداء، سوداء، حقيرة، ليس فيها سوى شعور الغربة والضياع ومرارة الألم.
الحزن واللوعة، والتعاسة والغربة، والوحشة والحظ العاثر، تحالفوا لتهديم وتحطيم ما لم تستطع الفاجعة الرهيبة أن تحطمه، وتكالبوا على نفسي المنهارة ووجودي المسحوق، وقاموا بتسليمي إلى اليأس القاتل والعدم النهائي. هذا الحلف الظالم يعبث ساخرا معربدا بأيامي وأحلامي، بكياني بفراشي وبمائدتي، حتى اشعر بالغربة مع من حولي وبالغربة مع ذاتي، كأني اهوي في فراغ سرمدي دون قرار.
ذاكرتي المريضة بداء النسيان المزمن، التي طالما اعتادت خيانتي، وحجبت عن فكري مواقف عمرها دقائق، وعرضتني لأشد المواقف إحراجا وإرباكا وحيرة وخجلا، هذه الذاكرة الحقيرة البليدة الميتة تصحو اليوم فجأة وتبدي نشاطا وحيوية غير اعتيادية، فتعرض على مخيلتي شريطا طويلا وكاملا ومفصلا لذكرياتي مع والدي، بحلوها ومرها منذ نعومة أظافري وحتى يوم الفراق الأسود، ولا تمل من عرض هذا الشريط في أحلام اليقظة والمنام.
ولا يلبث مسار الحياة أن يفرز سيلا من الأمور التافهة، والمشاكل الصغيرة والكبيرة تتطلب التفرغ لها وحلها فتفرض نفسها، وتغتصب أوقاتي وتجبرني على إحاطتها باهتمامي. وبدلا من أن تساهم في النسيان، فإنها تضيف حملا جديدا ثقيلا على نفسي المجروحة المريضة المنهكة، فأشرب كأس المرارة حتى الثمالة، وتنتابني الحيرة ويعتريني الذهول ويتقمصني الخوف، ويصاب تفكيري بالشلل بعد أن تمكن مني هذا الإخطبوط وقيدني بأذرعه القوية الكثيرة، فأدركت أنه لا خلاص لي إلا بالاستسلام والغوص في هذا الواقع المفزع، وأنا أدرك أن الخلاص يحتاج إلى مقومات لا أملكها.
أغوص وأنا أراقب نظرات الشفقة والرثاء تغلفني وتغطيني. أغوص وأنا أرى أن ما أمنحه للآخرين من حب وعاطفة نبيلة قد تحول إلى نقطة ضعف تُفرض علي من خلالها أمور لا يمكنني أن اقبلها اليوم، أما الغد فهو يوم آخر.
◄ مازن الرفاعي
▼ موضوعاتي