عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مختارات: توفيق الحكيم - مصر

حوار الحكيم وعصاه


وحدة الفكر

قالت العصا: "هل يتحد الناس جميعا في مستوى الثقافة والفكر في يوم من الأيام؟"

قلت: "لو استطعنا أن نتخيل عالما مثاليا يسود الأرض في يوم من الأيام، تحل فيه المشاكل الاقتصادية والتعليمية التي تفرق بين الناس، وتجعل منهم الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعالم الجاهل، عالما مثاليا قد أصبح الناس فيه متساوين في الثروة والسلطة والمعرفة. ولو استطعنا أن نتصور إمكان ذلك فإن الذي لا نستطيع أن نتصور إمكان حدوثه هو أن يتحد الناس جميعا في درجة واحدة من درجات الثقافة والفكر، فالتعليم الموحد لا يولد الفكر الموحد، ولا الثقافة الموحدة، لأن الفكر وليد الطاقة الذهنية التي تختلف باختلاف القوة العقلية في الأفراد. والثقافة وليدة ملكات أحساسية تختلف باختلاف الطبع والعاطفة والميل الطبيعي في كل إنسان، فهذا الاتحاد في المستوى الثقافي والفكري لا يمكن أن يتم إلا إذا سبقه تشابه تام وتطابق كامل في درجات القوى العقلية والشعورية. ولا يبدو حتى الآن ما يدل على أن الطبيعة تنوي إجراء هذا التعديل في خلق الإنسان."

قالت العصا: "بل إنه من العسير أن نجد ـ حتى في طبقة المتحدين في الفكر والثقافة ـ اتحادا تاما في الحكم على فكرة من الأفكار، أو في الميل إلى اثر من الآثار. وإذا اتحدوا في الحكم و الميل، فقلما يتحدون تماما في الزوايا التي منها نظروا وشعروا. لعل خطوط العقول أو القلوب مختلفة في الناس كاختلاف الخطوط في بصمات الأصابع."

استقلال التفكير

قالت العصا: "هل هناك علامة تدلنا على أن شخصا من الأشخاص قد وصل إلى مرحلة الاستقلال في التفكير؟"

قلت: "نعم، هناك علامة بسيطة، هي أن نرى الشخص يعرف منبع تفكيره، وأن يعترف بأثر غيره في هذا التفكير. هكذا نرى غاندي يقر دائما أنه مدين بفلسفته إلى تولستوي. ونرى محمد عبده يقول إن أستاذه في تفكيره هو جمال الدين الأفغاني. وأرسطو لا يفتأ يكرر أنه تلميذ أفلاطون حتى فيما ابتكره هو من مذاهب. وجوته يعلن تأثره الشديد بتفكير فولتير، الخ. هذه المعرفة وهذا الاعتراف هما دليل الشخصية الفكرية التي تشعر أنها استقلت بالفعل، وأنها وصلت في استقلالها الحد الذي ترى معه جذورها، ولا يضيرها أن تذكرها وتتيه بها، على عكس ذاك الشخص المبتدئ، أو الشاب في مطلع تفكيره، فإنه لا يستطيع أن يرى المنبع ـ الموحي إليه، وإذا استطاع فإنه يخفيه في الحال عن نفسه وعن الآخرين، مؤكدا أنه ما تأثر قط بأحد. وهو يظل على هذا الجهل أو التجاهل، مخفيا رأسه كالنعامة في الرمل إلى أن يصلب عوده وينضج تفكيره، وتتلون ثماره، فلا يجد عندئذ بأسا من أن يذكر جذوره."

قالت العصا: "حقا، إن الاستقلال في الفكر لا يبدأ إلا عندما تعرف وتعترف أن تفكيرك كان بذرة في ثمرة الغير."

الشرق الشحاذ

قالت العصا: "لماذا ينظر الغرب دائما بعدم إكثرات إلى الشرق العربي، ويقف منه موقف غير الحافل بأمره، ويلتفت إليه الالتفاتة العابرة، ويشير إليه الإشارة الخاطفة، ولا يراه إلا كائنا جغرافيا، يقوم على هامش الحضارة الإنسانية؟"

قلت: "السبب في ذلك بسيط، وهو أن الشرق العربي يقف دائما من الغرب موقف السائل الذي يمد يده بطلب، فهو يقول للغرب أعطني حريتي، وأعطني استقلالي، وأعطني قروضا، وأعطني علما، وأعطني أفكارا، وأعطني مبادئ، وأعطني آلات، وأعطني مصنوعات، وأعطني خبراء، وأعطني وأعطني، الخ. ما من مرة قال الشرق للغرب: "خذ" حتى يسترعى اهتمامه. إن الإنسان قد جبل بطبعه على أن يهتم بمن يعطيه، لا بمن يأخذ منه. وماذا يكون نصيب ذلك الذي يتبعك دائما في الطريق يقول لك في كل حين: أعطيني من فضلك؟ ألا يكون نصيبه منك في أغلب الأحيان: "الله يحنن عليك،" تقولها بغير اكتراث. وقد يخطر لك أن تستخدمه في أن يحمل عنك ثقلا ماديا لا شرف فيه، أو أن تستغله في معاونتك معاونة مهينة مما يقوم به الخدم والعبيد والتابعون. فلو أن الشرق قال للغرب ذات مرة:"خذ مني فكرة تنفعك لنظر إليه الغرب فورا نظرة الاهتمام والاحترام."

قالت العصا: "وماذا عند الشرق العربي اليوم مما يستطيع أن يعطيه للغرب؟"

قلت: "مجرد الاشتراك في حل مشكلاته يكفي. ما من مرة قال الشرق للغرب إني مشغول بحل قضية لك أيها الغرب، لا لي. حبذا لو أن جامعة عربية فكرية تنشأ لبحث مشاكل الغرب للغرب، عند ذاك يعترف الغرب أن الشرق ليس مجرد شحاذ."

قيمة الأشخاص والأشياء

قالت العصا: "ألست ترى أن الإنسان كلما صعد في مراقي الفكر بدت له الأحداث والأشخاص هزيلة ضئيلة؟"

قلت: "هذا صحيح. ولا يصدق هذا على الارتفاع الفكري وحده، إنما يصدق ذلك على كل ارتفاع. فمن يصعد إلى قمة الهرم يبصر الناس كأنهم النمل، والبيوت كأنها الأكواخ، والسيارات كأنها ألاعيب أطفال. ولكن السؤال الجدير أن يطرح هو: هل من يبصر الأشياء والأشخاص من العلو يراها على حقيقتها؟"

قالت العصا: "وهل من يبصر الأشياء والأشخاص وهو في مستواها يراها على حقيقتها؟"

قلت: "لست ادري، وليس من السهل أن نعرف أين نجد حقيقة الأشياء والأشخاص: أهي في تلك الضآلة التي نراها عليها من العلو؟ أم تلك الضخامة التي نراها عليها من الأسفل؟ إن أصعب شئ في الوجود هو صحة الحكم على حقيقة الأشياء والأشخاص، لأن هذا يتطلب أن تنظر إلى هذه الحقيقة من جملة الزوايا، وأن تكون على جانب كبير من المعرفة والتجربة، وأن تتأنى في مراجعة القيم والأقيسة والأبعاد حتى تستطيع بعد ذلك أن تصدر حكما يقرب من الصحة. لذلك طالما سمعنا أن عظماء الرجال والقادة هم الذين يستطيعون أن يصيبوا في الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص. إن أعظم ما يحملني على احترام شخص هو عدم خلطه في القيم. وكثيرا ما احترمت أشخاصا لما يبدو من ثقافتهم، فما أن يخلطوا في قيم الأشياء والأشخاص، حتى ينهار احترامهم من نفسي.

قالت العصا: "صدقت. إن الشخص ذا القيمة هو الذي يعرف القيم كما يعرف الصائغ درجات الذهب."


مقطع من كتاب عصا الحكيم لتوفيق الحكيم. الناشر: مكتبة الآداب ومطبعتها بالحماميز (القاهرة)، مصر: (1954).

JPEG - 37.7 كيليبايت
غلاف عصا الحكيم
D 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006     A عود الند: مختارات     C 0 تعليقات