صالحة سعيد - السعودية
الـمـتـعـِـبــة والأســتـاذ
"أرهقتني الحياة؟" قالتها وبتنهيدة متألمة أمام أستاذها الكبير.
سألها: "أتقصدين أرهقتك أحلامك؟"
"أبدا. أنا قنوعة وبشهادة من حولي."
"إذن أرهقك تفاؤلك الجامح."
"ربما بعض الشيء منه، لكن بحق الحياة مرهقة ومؤلمة وإن صبغناها بالرفاهيات يا أستاذ، أليس كذلك؟"
"كنت تقولين من روضتي أرى، بل أعيش، الحياة رائعة. واليوم تقولين مرهقة ومؤلمة. ربما أصبت. لكن الحياة يا ابنتي مهما كانت مؤلمة فهي ليست جحيما. وبقدر ما نقاوم الصعوبات بقدر ما ننضج. وبقدر ما نسمو بأنفسنا عن الصغائر بقدر ما ننمو ونتطور."
"نعم تذكرت عبارتك التي تردد عليّ دائما يا أستاذ:" لا حلاوة من غير نار." لكن النار أحرقتني. ألا يعتبر الاحتراق فشلا؟"
"أبدا. ها أنت تحترقين وأتعبتك آلام الحروق لكن السكر الذي وضعت يغلي أمامك على النار لا يزال. وسيتم صنع الحلاوة حتما."
"لكني احترقت يا أستاذ؟"
"من كل بد." هكذا أجابها الأستاذ مشددا على العبارة.
"وماذا لو نسيت السكر على النار؟ ستحترق الحلاوة كما احترقت أنا. ستحترق أيامي كما احترقت روحي. يا إلهي المسألة صعبة. خسائر مادية ومعنوية."
يضحك لها أستاذها ويقول: "نعم. لكن عليك هنا حساب الوقت بدقة لكيلا تحترق حلاوة روحك بل كذلك حلاوة أيامك."
تسأله: "كيف؟"
"استمعي لي هنا: لو نسيت الحلاوة على النار ستحترق وتفشلين في صنعها أو الحصول على الحلاوة. ولو تركت السكر وقتا كما هو لن تكون حلاوة أصلا. بل كذلك لو أزحت الحلاوة قبل نضجها ستكون أيضا محاولة فاشلة لصنع الحلاوة كل هذا بسبب التوقيت متى. كم. إلى متى وهذا الأخطر؟ ما أقصده أن الوقت مهم فلا تغرقي في الحياة والوقوف على تجاربها ولا تستغرقي. المأزق. المعاناة. الألم النفسي. اتركيه ينال منك لا بأس ولكن البأس الاستسلام واليأس. هنا ستنسين روحك عندها ستحترق. إذن التجربة والخروج هي بالوقت."
"أيضا كيف أضع توقيتا لحياتي وتجاربها؟"
أنت وحدك من يضع. لا تستسلمي لمرارة وجروح التجربة وآلام الروح المحترقة. وقت قصير وغادري إلى مرفأ حياة جديد.
"ليت لنا يا أستاذ اختيار المرفأ مثلما لنا اختيار الوقت."
"يا إلهي. أرهقتني البنت؟"
بل أرهقتني أنت بدروسك المضطربة اليوم؟
"لا يا ابنتي ألم تسمعي بالمثل الذي يقول: علمني صيد السمكة ولا تعلمني أكلها. إن ما أعطيك هي مجرد تلميحات لإدارة حياتك اليوم؟"
"وهل سمعت يا أستاذ بالمثل الذي يقول: من يأكل العصي ليس كمن يعدّها؟"
"أرهقتني تلميذتي يا ناااااااااااااااس."
بدأت تخجل من كثرة استشاراتها له. سكتت فجأة. كأنه أحس بها فقال:
"صدقيني أنت ذكية لكن حياتك المشحونة والمملوءة بالتجارب المتتابعة أصابتك بالذهول. لا تقولي الحياة مرهقة ومؤلمة، عليك بالرضا وهو جرعة ضرورية بعض الوقت بشرط ألا تزيد الجرعة فتتحول إلى إدمان "ومن يدمن الرضا بكل الأشياء يصبح مثل تماثيل الإغريق: حدقاتها من زجاج، وتتوهم أن الرؤية داخلية ففي الصدور أضلاع يمكن أن يحيلها البشر إلى سرير فقير هندي."(*) سعادتنا داخلية نستطيع أن نحياها ونحن في أوج مغامراتنا الحياتية وفي أوج آلامنا ممن حولنا. إنني لا أقودك في حياتك فقط بل أدلك على أعماقك. كثير من البشر يكره من يدلّه على أعماقه. هل تكرهين مثلهم؟"
تغلبها الدموع. تبكي بكاء حارا عميقا بعمق تجربتها الأخيرة.
"نعم لتبك واغسلي شيئا من التعب. لتبك ولا بأس."
يسود بينهما صمتٌ طويل. يقطعه صوت الهاتف فيجيب الأستاذ وتكمل هي غسل بقايا التعب بالبكاء والدموع. يتبسم لها أستاذها عائدا ويسأل:
"في كل خطوة ومن كل عثرة يجب أن يكون لديك خطة خروج أو إصلاح أو تلافي. صدقيني دعي الحلاوة تنضج على النار. التجارب لا تقتل ولكنها تجرح. قد تدمي. ونزيفك هذا يطرد ذلك الدم الفاسد الذي نال من جسدك. ليمنحك فرصة الطلوع للصباح الجديد. ابتسمي ولا تعبسي. استقبلي الفجر بوجهك القادر على الضحك، واغسلي الدمعة، وجففي الحزن. واملئي رئتيك بأنفاس الصباح المطل من الغد. الصباح. له دفء الأمل، والإرادة. بالحب وبالإصرار. أرجوك لا تنع قلبك إلى التجربة ولكن عليك أن تنعي التجربة إلى قلبك لتبدئي تجربة أكثر وعيا وإدراكا وثقة. دعي الأيام تسير وعيشي حياتك يا ابنتي."
= = =
(*) من كتاب سطر بدفء الكون للكاتب السعودي عبد الله الجفري.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ