سالم ياسين - لبنان
منتظر على الرصيف
تناولت علبة السجائر على عجل، واضعا باقي النقود في جيبي، متفاديا الخوض في الحوار مع صاحب المتجر السمين ذي الابتسامة الدائمة.
"هل لديك اقتراح لمصلحة أفضل من المتجر؟"
كان قد بادر إلى هذا السؤال في الأمس متأملا أن يجد لديّ إجابة أو فكرة عبقرية. لا أدري ما الذي أوحى إليه أنني قد أفهم شيئا حول التجارة والتجار، أهي نظارتي الطبية وثيابي "الرسمية؟" أم حقيبة يدي الجلدية التي أحمل فيها أوراق العمل و"خربشات" التقارير والمشاريع التربوية؟
ريما صوتي الخافت ونمطي المهذب بشكل يومي حيث أشتري علبة السجائر قبل العودة إلى المنزل.
تأهبت لمغادرة المتجر مائلا برأسي إلى الخلف، قاطعا عليه الفرصة للانقضاض عليّ بسؤاله، فتلاقت عيناي به. ماردا يمر على كرسيه المدولب على الرصيف قبالتي...
"أهلا يا أستاذ. كيف الأحوال؟"
صوت جهوري يمتلئ رجولة وحدة.
"أهلا حسين، كيف الأحوال؟"
وهم المارد بتحريك عجلات كرسيه للدخول إلى المتجر كي يبادر إلى السلام والسؤال عن الأحوال، فمنعته أكوام البضائع المكدسة، والتي تحتل مساحة عدة أمتار من الرصيف خارج المتجر. سارعت بخطواتي إلى الخارج مادا يدي من قبل أن أصل إليه.
بنظرة خاطفة إلى يده الممتدة لمصافحتي لاحظت طبقات من الوحل تعلوها بفعل دفع عجلات كرسيه بنفسه على الطريق.
ألقيت يدي الممتدة للسلام عليه نحو كتفه، وانحنيت قليلا مقبلا وجنتيه.
"أهلا حسون." قلتها بتودد إخفاء "لجريمتي" في عدم مصافحة يده الموحلة، فأسدل يده راضيا بسلامي الحار دون أن يصافح "الأستاذ،" متابعا السؤال عن الأحوال:
"كيف أحوالك؟ كيف نشاطك؟ ماذا تفعل هذه الأيام؟"
مسلسل الأسئلة الدائم يطرحه حسين بالطريقة التقليدية ولكن باهتمام ليسمع الإجابة.
"أعمل منسقا ميدانيا في هيئة فلسطينية للإعاقة." قلتها مترنما بحجم المفردات "الفخمة." وكأنما شدته كلمة "الإعاقة" فأعاد عليّ السؤال ليتأكد:
"هيئة ماذا؟"
"هيئة فلسطينية للإعاقة." أعدت جملتي رافعا من نبرة صوتي لتتلاءم قليلا مع مستوى الحوار بين رجلين. يا لصوتي الخافت! كم من مرة يخذلني في حوارات الرجال، ويفتح لي آفاقا أفّاقة مع نساء يوددن لقاء دافئا مع رجل مثقف وحنون.
"لم أسمع بهذه الجمعية من قبل. ما هو إطار عملكم ونشاطكم؟" سألني متأملا أن يكون عملي يتضمن نوعا من المساعدات الإنسانية.
"في الحقيقة هي ليست جمعية، بل هيئة مشكلة من كل الجمعيات التي تعمل في مجال الإعاقة في المخيمات الفلسطينية." ثم أضفت بخبث الخبير:
"ألست عضوا في جمعية للمعاقين؟ من المفترض أن جمعيتك عضو في هذه الهيئة."
"ما هو نشاطكم؟" قالها بنبرة حاسمة، قاطعا عليّ "فلسفتي" ليصل إلى نتيجة تدله إذا كان هذا العمل "فذلكة فارغة" أم يحوي جانبا عمليا للمساعدة المباشرة.
"عملي يتمحور حول برنامج لدمج المعاقين في مدارس الأونروا ورياض الأطفال، يرتكز أكثر على التنسيق بين الجمعيات، الأطفال من عمر ثلاث سنوات حتى خمسة عشر عاما، تأهيل وتدريب..." جمل مبعثرة بدأت أقولها ولكن مركزة على حصار بل وعلى دحر أية فرصة قد تتراءى له لينفذ إليّ منها بطلب معونة أو مساعدة، فهذا ليس ضمن مجال عملي الحالي.
"دمج؟" قالها بنبره عالية لا أستطيع مجاراتها، قاطعا كل حبال شباك الحصار ليهزمني بفهم "المفردة الحديثة" وأضاف:
"أي دمج في هذا المجتمع؟" أنظر إلى عرقي ويدي من تراكم الوحل لأقطع خمسة كيلو مترات كي أصل إلى صيدا. الناس لا يتقبلوننا، لم أجد أي سيارة أجرة لتنقلني، يستغلونني كي أدفع ضعفي ما يدفعه الراكب العادي وأكثر بسبب الكرسي، وأحيانا تقاعسا عن حمل عربتي ووضعها في صندوق السيارة. يا رجل أنا أستطيع الصعود وحدي إلى السيارة. لن يضطروا إلى حملي."
نظرت حولي خجلا من صوته العالي حيث تتزاحم الأقدام، وقلت بصوت أقرب إلى الهمس:
"بسيطة يا رجل، خطوة خطوة تتغير الأشياء."
وكأن كلماتي الناعمة لم تنسجم مع ثورته العارمة المفاجئة، فانهال عليّ بسيل خطابه:
"عن أي بسيطة تتكلم؟ في الأمس حاولت إيقاف سيارة أجره في المخيم، طلب السائق الغريب مني ثلاثة آلاف ليرة بعد أن راز حجمي وكرسيي. أنا بمثابة شخصين، وألف ثالث بدل أجرة نقل الكرسي. لم أملك نفسي من الغضب، فانفجرت به صائحا في وجهه: يا ويلك من الله! ثلاثة أضعاف؟" أين ذهبت الإنسانية؟ سمعني بعض المارة فهرعوا بشهامة، حتى أن بعض سائقي سيارات الأجرة ممن أعرفهم أوقفوا سياراتهم في منتصف الطريق وسارعوا للمساعدة. سألوني: ما بك يا أبا علي؟ فأخبرتهم بما حصل مع السائق فهبوا كي يكسّروا رأسه بمروءة أولاد المخيم في ثوان قليلة يا رجل كان حولي جمهور من الحماة. ولكن السائق كان قد اختفى بسيارته في لمح البصر. وكان الغضب قد أعمى بصري وبصيرتي واسودت الدنيا في عيني، فاستسلمت لثورة من الشتائم للدنيا ولحظي العاثر. نظرت مرة أخرى تجاه جمهور الحماية فلم أجد أحدا أبدا. ولم يبق حتى أي سائق ليكمل معروفه فيوصلني إلى وجهتي مثل الناس، فعدلت عن مشواري وعدت إلى البيت خائبا. وأضاف:
"دمج! في أي مجتمع؟ هذا المجتمع لا ينفع فيه دمج ولا ما يحزنون."
قالها مبتسما راضيا أنه "أقنعني،" إذ لم أستطع أن أفتح "نيعي" بأي حرف.
"هل توصيني بشيء يا أستاذ؟" قالها دافعا كرسيه بقوة حاسمة، وبسمته العريضة تعلو شفتيه.
تملكني الذهول وجمدت في مكاني مكملا ساعتي اليومية في انتظار سيارة أجرة لسائق يعمل على خط قريتي كي لا أضطر إلى "توصيلة" مع أي سائق أجرة "غريب" حيث سيطلب مني ثلاثة أضعاف ما يدفعه الراكب العادي: ألفي ليرة عن "الأستاذ" ذي النظارة الطبية في ثيابه "الرسمية،" وألفا إضافية إكراما لحقيبة يده الجلدية اللامعة.
وجدت نفسي طافيا فوق غمامة من الأفكار والمشاعر المتضاربة ومكيلا الشتائم للدنيا ولحظي العاثر، حريصا أن أشيح بوجهي بعيدا عن أعين صاحب المتجر السمين ورغبته بإكمال حواره مع "الأستاذ".
◄ سالم ياسين
▼ موضوعاتي