زين العابدين الزيودي - الأردن
البيت القديم: بيت التراب
ثمة علاقة حميمة بين البشر والتراب، تمثل الحياة والموت، وتربط بين قدوم الإنسان وذهابه بعد أن كفل له سبل العيش في مشواره في الحياة. هناك على تلة مرتفعة في الجهة الشمالية الغربية من لواء الهاشمية في الأردن تربعت بيوت "غريسا." بيوت التراب القديمة مطلة على الحياة، تغازل القادمين، متكئة على جدران الزمن. احتضنت الأجداد ورافقتهم في المشوار، وارتبطوا بها، وزادت في مسيرتهم العطرة شيئا من التاريخ، واختزنت في جدرانها كثيراً من حكاياتهم، حكاية الحصادين و"الرعيان " وذاكرة الطفولة، وعلى جدرانها رسمت الطريق من بيت الشعر إلى بيت التراب، الطريق التي ما تزال سنابك حوافر فرس "بركة المعلا" عليها. وككل البيوت اختزنت أيضا الأصوات الدافئة، أصوات الأمهات الصابرات وهن "يهللن" على صدور أطفالهن في ليالي الشتاء القارس.
شيدت عشيرة الزيود بني حسن بيوتها الترابية في مطلع عام 1920 على أنقاض قلعة رومانية قديمة اندثرت نتيجة للحروب والكوارث الطبيعية على تلة مرتفعة بالقرب من "غريسا." وفي ذلك الوقت كان التراب والتبن من الأساسيات في بناء البيوت المتواضعة، إضافة إلى بعض الأحجار التي استخدمها الناس في بدايات البناء. صممت البيوت بشكل تكون فيه متقاربة من بعضها إشارة إلى التكاتف والتماسك بين الساكنين، وكل بيت تحيط به سلسلة من الحجارة "صيرة" لتشكل ستارا متواضعا لأصحاب البيت. وكان البيت يتكون من غرفتين: واحدة للرجال وغرفة للنساء. وكانت الغرف تحتوي على مكان داخل الجدار لتخزين مونة البيت "كوارة." وبالقرب من البيوت حفرت الآبار لجمع مياه الأمطار لري الماشية واستخدامات البيت في ذلك الحين.
والجميل في ذلك الوقت أن البيوت بنيت عن طريق "الفزعة،" فيتعاون الناس فيما بينهم في بناء المساكن، حيث يجتمع أفراد العشيرة على بناء بيوتهم وحمايتها. وكانت بيوت التراب في ذلك الوقت موسمية، بمعنى أن الناس ينزلون بها في موسم الشتاء للاحتماء من البرد ولتخزين ناتج الحصاد، وبعد انتهاء فصل الشتاء ومرور الربيع يخرج الساكنون تاركين في البيت بعض المونة إلى بيوت الشعر التي تحتل قدسية في حياة الناس في ذلك الحين.
بيت التراب له علاقة بالأفعى، فمعظم البيوت تسكن بالقرب منها أفعى فتتخذ من "الصيرة" التي تحيط بالبيت مكانا لها، ولا تؤذي الساكنين بناء على هدنة غير متفق عليها.
رغم فخامة البيت الحديث إلا أنه لا يعادل جمالية وسحر بيت التراب، فهناك سيمفونية مشتركة بين الرياح والمطر والأمهات، لا نسمعها كما سمعها الأجداد وطربوا لها حين تعزف الرياح بعفوية أثناء مرورها بين البيوت ومن شقوق النوافذ، وحين تسقط مياه المطر من المزاريب على صخرة أمام البيت وحين تغني الأمهات: " يالله غيثك يا ربي تسقي زرعنا الغربي."
ويبقى بيت التراب، البيت القديم، بيت الأجداد صامدا شامخا بالإطلالة نفسها التي أطلها قبل أكثر من ثمانين عاما حين كان حافلا بالساكنين القدامى يرقب حركة الناس ليربط الماضي بالحاضر، ويستحم بنور الشمس، ويتسامر مع القمر ليخبر القادمين بالحكاية.