مختارات: يوسف القعيد - مصر
الحرب في بر مصر
فجأة التفت إلي الفلاح وسألني:
"ذاهبون لمن في البلدة؟"
ذكرت اسم والد الشهيد المدون في الأوراق معي. وكان الاسم قد علق بذهني من كثرة إخراجي للورقة وقراءتها. قال الرجل:
"إنه العمدة وهو موجود."
ولأن السائق يصر على المشاركة في كل الأحاديث، أشار إلى صندوق السيارة وقال للفلاح:
"البقية في حياتكم."
خبط الرجل صدره بفزع:
"بعد الشر. من؟"
"ابن العمدة."
"لم يكن للعمدة أبناء يعالجون في البنادر. أم هو حادث؟"
صاح فيه السائق بغضب:
"أي حادث؟ إنه شهيد."
تساءل الفلاح: "في الحرب؟"
"الحمد لله إنك فهمت."
فكر الرجل في الأمر وظهر على وجهه اهتمام. رفع يده فجأة:
"ولكن العمدة ليس له أولاد في الجيش."
خرج صديق الشهيد عن صمته وسأل الفلاح:
"ومن أدراك؟"
"أنا متأكد."
"ونحن أيضا متأكدون."
لحظة الصمت الطارئة لم تحمل الاطمئنان لأحد. بدا الرجل قلقا وكأنه فقد القدرة على الجلسة المريحة. ولهذا تساءل:
"كل أبناء العمدة الذكور اعفوا من التجنيد وفاتوا سنهم. أصغر أبنائه هو الوحيد الذي كان يجب أن يجند في البلد."
"متى شاهدته؟"
"صباح اليوم، وسلّمت عليه."
قال صديق الشهيد بمرارة:
"قد يكون للعمدة ابن لا تعلمون عنه شيئا."
أدرك الفلاح السخرية في الحديث، فقال بمرارة أكثر:
"من يدري؟ ربما كان العمدة وليا، قادرا على أن يكون في مكانين معا في وقت واحد. ألسنا في زمن المعجزات؟"
وهكذا وجدت نفسي طرفا في مشكلة من نوع غريب. عندما بدأ الفلاح ثرثرته قلت إنه رغي نقطع به الطريق. ولم أتصور أن يوصلنا كلامه إلى مشكلة لم أتوقعها. وبالتالي لا أعرف كيف أحلها. إن فشلت في مهمتي هذه سيترك هذا الفشل أثره على مستقبلي في الوحدة. ولكي أسكت أصوات القلق التي بدأت تتصاعد في داخلي، ذكرت له اسم الشهيد نفسه. وصاح الفلاح غاضبا لأول مرة:
"الدلوعة."
أكمل: "إنه هو الابن الأخير للعمدة. يقولون عنه في البلد الدلوعة."
"هل هو الذي قابلته اليوم؟"
"هو نفسه."
ولأننا أسلمنا الرجل إلى دوامة من الأفكار، تساءل بدوره:
"ولكن كيف استشهد وهو في البلد؟"
قال صديق الشهيد: "استشهد بالنيابة."
لم يفهم الرجل كلامه. ولا الكلمة التي ختم بها صديق الشهيد جملته: "بالتوكيل الشرعي الذي اعتمدته مصر."
أوقفت السيارة. نزلت وأخذت الفلاح معي. طلبت من السائق أن يترك نور السيارة مضاء. أخرجت أوراقي. راجعت البيانات الخاصة بالشهيد. اسمه، اسم البلد، عمل الوالد. قال الرجل إن كل البيانات سليمة. ولكن الشاب الذي تقول إنه استشهد موجود في البلد. عدنا إلى السيارة. استأنف السائق السير. خيم علينا صمت مشحون بالتوتر والقلق. حاول السائق أن يؤكد أن هذه الحكاية حدثت معه من قبل، وأنها ليست غريبة عليه. صحت فيه. توقفت الكلمة في زوره. لم يكمل نصفها الثاني. طلبت منه الإسراع في سيره. وسألت الفلاح للمرة الأخيرة:
"هل أنت متأكد؟"
قال إنه ليس مطلوبا منا سوى الصبر. وقال إنه سيحضر إليّ الشهيد بنفسه وهو حي يرزق. سألت صديق الشهيد إن كانت البيانات الموجودة معنا سليمة. رد عليّ بطريقة غامضة:
"سنرى في البلد."
خانتني أعصابي. في الوحدة سألت عن كل المواقف المحتمل حدوثها، وعن طريقة التصرف فيها. لم يخطر على بالي أبدا أن أذهب لكي أجد الشهيد الذي أحمله في صندوق مغلق حي. طلبت من السائق أن يتوقف. نزلت وفتحت الصندوق الخلفي. أمرت العريف أن يحرك الصندوق، ودهش من الطلب. قلت له إني أريد التأكد من وجود الشهيد في مكانه. حرك الصندوق بصعوبة واقترب بوجهه من أحد فتحاته، وأكد لي وجود الجثة في الصندوق وتساءل غاضبا: "وهل يتصور أحد سرقة الجثة؟" لم تكن بي رغبة في الحديث. قلت له أن يعطيني أمانات الشهيد الموجودة معه. فتحتها، أخذت منها بطاقة تحقيق الشخصية المدنية. ناديت على الفلاح، وفي ضوء السيارة قدمت له البطاقة. أخذها مني. قربها من عينيه لدرجة أني خفت عليهما من البطاقة. خيل إليّ أنه سيدخل البطاقة في جفني عينيه. قال بانفعال:
"هذه صورة مصري ابن خفير العمدة."
لم يكن الرجل يقرأ. قرأت له بيانات البطاقة. الاسم المدون هو اسم ابن العمدة. قال الفلاح ملخصا الحكاية:
"الاسم لابن العمدة، ولكن الصورة لابن الخفير."
تشابكت المعاني في ذهني، وعصفت بي الحيرة. فكرت في العودة إلى الوحدة. رائحة الجثة منعتني. وعندما امتدت يد الفلاح تشير إلى أنوار البلد وقال إننا وصلنا حسمت الأمر بداخلي. ذهبت إلى البلد. أمام دوار العمدة توقفنا. نزلنا. جلسنا في حجرة صغيرة بها بنادق وتليفون. قالوا إن العمدة يصلي ومعه أولاده الكبار. الفلاح الذي كان معنا اختفى ثم حضر ليؤكد لي هامسا أن العمدة الصغير موجود في الداخل. أرسلت بطلبه. حضر إليّ شاب منعم. سألته عن اسمه وبياناته. جاءت كلها مطابقة لما معي من بيانات. رجوته أن يطلعني على بطاقتي الشخصية. قال إن والده يحتفظ بها ليلا نهارا منذ حوالي ثلاثة أشهر ولا يعطيها له لسبب لا يعلمه. أما عن موقفه من التجنيد فقد أكد لي أن حدود علمه أن تجنيده مؤجل لحين انتهائه من تعليمه. سألته أين شهادة التأجيل، قال إنها في المدرسة. قلت من الذي سلمها للمدرسة؟ أجاب أن والده هو الذي أحضرها وسلمها للمدرسة. سأله صديق الشهيد:
"هل رأيت شهادة التأجيل بنفسك؟"
"سمعت عنها ولم أرها. ولكن لا بد من وجودها لأني لم أذهب للجيش."
حضر العمدة وخلفه أبناؤه وبعض الخفر. سلم علينا. أخرجت أوراقي وبدأت أحدثه. أذهلني أنه لم يتأثر بالخبر. وكان كلما يريده منى هو أن يأخذ الأوراق والأمانات والجثة وأن نمشي بسرعة. ضغطت على أعصابي وسألته:
"هل الشهيد ابنك فعلا؟"
لم يرد بسرعة. وقبل أن يتكلم أخذني صديق الشهيد. خرجنا بجوار السيارة. حكى لي الحكاية كلها. سألته:
"وهل كنت تعرف ذلك قبل التحرك؟"
قال: "بل قبل استشهاده."
كدت أضربه. أمسكت به، ولكن يدي تراختا. انبثق في ذهني سؤال لم أستطع الإجابة عليه. لماذا لم ينبهني صديق الشهيد إلى هذه الحكاية المعقدة والصعبة قبل التحرك من مصر؟ هل قصد هذا؟ لقد اعتقد أنه يقدم خدمة للشهيد وأهله من وراء ما تم. ربما كان فعله نوعا من الوفاء، وهذا يفسر إصراره على الحضور معنا، رغم أن الكل يتهرب من هذه المهمات.
هدأني صديق الشهيد. وقال إن المهم الآن هو مواجهة الموقف الغريب. حذرني من سلطان العمدة وجبروته. فهمت أنه مطلوب مني تفادي أي مضاعفات للموقف. كان متحفزا كأنه يستعد لدخول معركة. ولكن غير الموقف دخول فلاح ممصوص الوجه ببندقية على كتفيه. كان يبكي ويصيح. تقدم مني قائلا:
"أنا والد الشهيد."
مقطع من رواية الحرب في بر مصر ليوسف القعيد (مصر). الناشر: دار القاهرة للنشر والتوزيع. 1985. الطبعة الثالثة. ص: 121-126.
- غلاف رواية القعيد
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي