عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

الخلافات النحوية ظاهرة صحية


فراس حج محمدقال بعض النحاة: "لا تخطئ معربا"، وهذا القول صحيح إلى حد ما، وليس كما هو رائج بين كثير من صغار المتعلمين الذين يَحْبون على شواطئ الكتب المدرسية، في أنّ المعلم الذي تعرض عليه مسألة نحوية وأجاب بأن في المسألة رأيين أصبح هزأة للسائل والسامعين وألفوا حوله القصص والنكات، وظنوا فيه الظنون، استنادا إلى أن من لا يعرف النحو وإعرابه يتخلص من الجواب بجواز الرأيين، وهم بذلك يحطّمون أساسا من أساسات النحو العربي الذي ازدهر هذا العلم بسببه.

وكل من اشتغل في هذا العلم يعلم علم اليقين أنه علم منطقي يقوم على قواعد ذهنية منطقية، حتى أن البعض قد يطلق على هذا العلم من علوم اللغة العربية "رياضيات اللغة" لما له من قواعد صارمة تحكمه، فهو لا يخضع للذوق بأي حال من الأحوال، ولذا فإنك ملاحظ معي كما لاحظت مرارا أن من كان ذا توجه علمي في دراسته من طلاب المدارس والجامعات يحسنون هذا العلم ويرغبون فيه.

وعلى كل حال، فإن الداعي لكتابة هذا المقال ليس ردا على ذاك الفريق الذي أشرت إليه آنفا فقط، ولكنني رأيت أن أحقق أيضا هدفين: الأول: أن أقدم مثالا عمليا لاختلاف النحاة في مسألة نحوية معنوية، هذا الاختلاف المشرعن عندهم، الذي لا يظهر فيه أدعياء التخطئة والتصويب بل كان المنطق عندهم - لأنهم علماء- منطق الرد بالحجة والبرهان المعنوي المنطقي العقلي، والثاني أرسخ مفهوما لحرية الرأي والاختلاف العلمي المبني على مقارعة الحجة بالحجة، لعلني أستطيع إيقاف المخاصمات النحوية الجالبة لسوء الفهم في بعض المدارس، والتي تساهم في بناء صورة للمعلم، وإصدار أحكام تقييميه بحقه، بدعاوى نحوية مبنية على الوهم ليس إلا.

ولكي يتضح الحال، فقد استعنت بمثال كثيرا ما كان موضع أخذ ورد بين معلمي اللغة العربية، وقد ورد هذا المثال في أحد كتب منهاج اللغة العربية، وجاءت هذه المسألة في درس "المصدر المؤول" في كتاب "العلوم اللغوية" للصف الثاني عشر، ولا يعنيني كل ما جاء به البحث، ولكن مناقشة إعراب كلمة سواء وما بعدها من مصدر مؤول، متخذا من قوله تعالى:

أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ

متكأ في هذا الاجتهاد، سائلا المولى السداد في ذلك.

وقد اعتمد المؤلفون إعرابا واحدا ذا وجه قوي في الدلالة والمعنى، وهو جعل المصدر المؤول من همزة التسوية وما بعدها من جملة فعلية في محل رفع مبتدأ مؤخر، وكلمة سواء: مبتدأ مرفوع، وساقوا لذلك عدة أمثلة، ومنها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، ولهذه الآية نظيرات أخرى في النص القرآني، كلها جاءت على نسق واحد من التركيب، مع ملاحظة الاختلاف في التركيب في قوله تعالى: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، حيث لم يأت بعد سواء مصدر مؤول، وإن دل عليه السياق فيما سبق من الطلب في قوله تعالى: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا، والمقصود المدرك من النص سواء أصبروا أم لم يصبروا.

وأثار سياق القاعدة في الكتاب المدرسي كثيرا من اللغط والتقولات بين جمهرة المعلمين، الذين شرقوا وغربوا في القاعدة بناء على تحليلات شخصية، أو بناء على معلومة كانوا قد قرؤوها في بعض الكتب ولم يؤمنوا بصحة غيرها، لا سيما أن شرح المثال في الكتاب لم يتطرق إلى إمكانية تعدد الوجوه الإعرابية في هذه المسألة، فجاءت الفقرة(جـ) من التدريب الأول لتقول: "يمكن أن يقع المصدر المؤول من همزة التسوية والفعل الذي يليها فاعلا"، وقد أجمع عليها القوم إلا قليلا على أن العبارة خاطئة، ولم يتكلفوا عبء البحث في الكتب ذات العلاقة التي أجازت إعراب المصدر المؤول من همزة التسوية والجملة الفعلية بعدها في محل رفع فاعل.

ولم يقتصر الأمر على هذا وحسب، وإنما تعداه إلى أسئلة أخرى ومن تلك الأسئلة: هل يجوز حذف كلمة سواء أو يحل محلها غيرها؟ هل يجوز حذف الهمزة؟

وعند التحقق من المسألة، وذلك بالرجوع إلى كتب التفسير وكتب النحو التي تعرضت لإعراب كلمة سواء والتركيب الذي يليها من خلال التوقف عند المثال السابق ذكره، وهو قوله تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ، وجدت أن المسألة استهلكت كثيرا من التوضيح والبيان، وخاصة كتب التفسير، التي يدرك أصحابها أن النحو عدة المفسر، لما للنحو من ارتباط في المعنى.

وملخص ما قاله هؤلاء المفسرون في إعراب كلمة سواء وما بعدها في الآية السابقة أن سواء يمكن أن تكون منصوبة ومرفوعة ؛ واحتمالية النصب على الحال أو البدل، أو المفعول به الثاني، مفسرين المعنى وربطه بالإعراب في كل وجه من هذه الوجوه، على اعتبار أن المعنى متعاضد مع الإعراب، موضحين المعنى الصرفي لكلمة سواء كذلك؛ فهي مصدر إن أدت معنى الفعل أو أنها بمعنى المشتق، اسم فاعل أو صفة مشبهة، وأما رفْعُ سواء فوارد أيضا، على أن سواء خبر مرفوع مــقدم وما بعدها مبتدأ لها، أما ما بعد سواء، وهو هنا كلمة ( محياهم ) فإن فيه أقوالا، فإما أن يكون منصوباً أو مرفوعاً، ورفعه إما أن يكون مبتدأ للخبر سواء، وإما أن تكون فاعلا لسواء لأنها أشبهت الفعل أو أنها بمعنى الصفة المشبهة أو اسم فاعل، وأما نصبها فعلى أحد قولين: الأول أنهما ظرفا زمان منصوبان ، والثاني أنهما منصوبان على نزع الخافض، فقد قال صاحب كتاب الفتح القدير: "وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر مماتَهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم، فلما سقط الخافض انتصب" ، وقد اختار المؤلف المعطوف لظهور الحركة الإعرابية عليه.

وأما رفع الاسم بعد سواء فإن فيه قولين كذلك، إما أن يكون مرفوعا على أنه فاعل بسواء، أو أنه مبتدأ مرفوع، وعلى اعتبار أنه مبتدأ فإنه سيشكل هو والخبر جملة اسمية، وفي هذه الجملة ثلاثة أقوال: الأول أنها جملة مستأنفة، ونص على ذلك الزمخشري في الكشاف، وإما أن تكون هذه الجملة في محل نصب بدلا من المفعول الثاني لــ ( نجعل)، والقول الثالث أن الجملة الاسمية في محل نصب على أنها مفعول به ثانٍ.

أما علماء النحو فإن الآية عند من اعتمدتُ على كتبهم هي شاهد نحوي على الاسم النكرة المرفوع إذا لم يكن صفة فهو في المعرفة مرفوع أيضا، وبعد أن يورد صاحب كتاب "الأصول في النحو" الآية موضع الحديث يُتبعها بمثال مصنوع، هو:" مــــررت برجلٍ سواءٌ محياه ومماته"، فسواء نكرة ورجل نكرة ولـــكن (سواء) ليست صفة لــ( رجل)، فقد جاءت كلمة رجل مجرورة وسواء مرفوعة.

ويسوق صاحب كتاب "المفصل في صنعة الإعراب" الآية السابقة على أنها شاهد لجواز تقديم الخبر على المبتدأ، فيقول: "يجوز تقديم الخبر على المبتدأ كقولك تميمي أنا ومشنوء من يشنؤك، وكقوله تعالى:(سواء محياهم ومماتهم)"، ويربط المؤلف هذه الآية بآية سورة البقرة السالف ذكرها، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، على اعتبار أن حكمهما الإعرابي واحد.

من كل ما سبق، يبدو أن ما بعد سواء يجوز فيه النصب والرفع، سواء أكان بعدها مصدر مؤول أم مصدر صريح، وبما أن النحاة أجازوا مجيء ما بعد سواء ظرف زمان، فإن ذلك يعني أنه لا يحتمل المصدرية، وعليه لا يمكن تأويله بمصدر مؤول من الهمزة والفعل في مثل هذا التقدير، وعلى هذا، يجوز نحويا: حذف الهمزة ويبقى اعتبارها، وعلى ذلك مثيلات مثل رب التي تحذف وينوب عنها الواو، والذي يجر الاسم هو رب المحذوفة وليس الواو، ويجوز كذلك اعتبار ما بعد سواء فاعلا مرفوعا.

وأما كلمة سواء فقد أجازوا حذفها إن كان هناك دليل عليها، ولكن لا يجتمع في هذا التركيب حذفان؛ أي لا تحذف كلمة سواء وهمزة التسوية، وإنما تحذف إحداهما وتبقى الأخرى دليلا عليها، وقد يحل محل سواء كلمات أخرى، مثل "أدري" ومن شواهد ذلك ما جاء في قول عمر بن أبي ربيعة:

فَوَاللَهِ ما أَدري وَإِنّي لَحاسِبٌ - - - بِسَبعٍ رَمَيتُ الجَمرَ أَم بِثَمانِ 

فقد استوى عند الشاعر عِلْمه فيهما، لا يدْرِي أيُّهما هو العدد الذي رمى به، وكذلك يحل محل سواء تركيب "ما أبالي" تقول ما أبالي أذهبت أم جئت، وتقول سواء علي أذهبت أم جئت" مع العلم أن الإعراب يختلف باختلاف العوامل اللفظية المؤثرة في الجملة.

لا شك في أن مدار النحو هو المعنى، فهو مرتبط بــه ارتباطا وثيقا، وعليه فإنه لمن الطبيعي أن تجد الخلافات النحوية التي تغص بها الكتب، وهي ظاهرة صحية، يقبلها العقل العربي، وتقرها القواعد الفقهية كذلك، ولكن هذه الخلافات قد تضخـمت حتى وجـدت لها مـؤلفات، ولعل من أشهـرها كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري.

ويبقى أن أشير إلى أنّ هذا العلم الرياضي المنطقي بحكم طبيعته لم يسلم من تسلل الفلسفة وعلم الكلام إلى فصوله وغاياته، فقد حاول البعض تطبيق القواعد المنطقية على القواعد النحوية، ولذا فقد أثرت الفلسفة وعلم الكلام في النحو فعقّدته، من حيث أرادت خدمته، وأصبح الأمر عسيرا، وأثر في المعنى والتركيب، ولذا فإنني قد تجاوزتُ كثيرا من الأمور عند طرحي لهذه المسألة، تجنبا للتعقيد والإطالة، ولذلك يظل في النفس شيء من حتى، أسأل الله أن أتمكن من فهمه قبل أن يأتيني الأجل.

D 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2011     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات