عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سعاد جبر - الأردن

فنجان قهوة: قراءة نقدية


نهايات السياسة في خريف اللحظات:
قراءة نقدية في نص فنجان قهوة (*) لرشاد أبو شاور

في حياة السياسيين معترك صراعات، وقراءات، بين الواقع والقيم، ورحلة التغير، وبين المبادئ والثوابت والتشبث بها، فهناك الملتزم خط السياسة وخريطة المبادئ معاً، وهناك اللولبي حيث نقطة الارتكاز وربح الجولة ولا مكان للقيمة بينهما. وفي كلا المعادلتين هناك ألم الذكريات في خريف العمر عند الأول، وبرود الأعصاب ورحلة التنقل والتغيير من مبدأ لمبدأ ومن أيدلوجية لأخرى تواليك عند الثاني، دونما اعتبار لمقام الذات بين الآخرين وسرعة تحول المواقف. والأدهى والأمر إذا كان ذلك التحول لصالح حسابات خارجية عن الأمة وقيمها وأيدلوجيتها في الصراع السياسي. وهاتان المعادلتان في السياسة نشهدهما يومياً في كل قطر عربي، وعند مطالعة أعمدة الصحافة العربية السياسية، في مساحات التقدير والذهول، فهناك قراءات سياسية تتسم بالنزاهة والمبدئية، وهناك قراءات سياسية تعج بالفكر السياسي المشبع بالغرائزية والهوجائية، وخدمة مشاريع الفوضى الخلاقة في عالمنا العربي.

تلك المعاني العميقة يطالعنا بها نص فنجان قهوة للكاتب رشاد أبو شاور من خلف السطور، وفي ثناياها ألم وذكريات، من خلال هالة قصصية لامعة، تدور أحداثها في حياة شخصية سياسية حزبية، في خريف عمرها، وقد طلقت السياسة وما يعترك فيها من ضجيج حزبي وحراك الرؤى السياسية المحتدمة، والصراعات الحزبية بعد رحلة عمر دامية بالصراعات التي أودت بها إلى أن تفصل من وظيفة التدريس، وتركن إلى كرسي وجدار يجملهما في العين تراقص القهوة في مساحات الذكريات، حيث دقات ساعة نهاية العمر، وما تحمل من ذكريات في السياسة والوطن وحماسة الشباب، يطالعها ذلك السياسي المخضرم المعتزل مسرح السياسة، في فسيفساء اللحظات العاصفة.

ويقدم النص محاورة بين السياسي المخضرم وفنجان القهوة المسافر في آفاق الذكريات، وقد حملت له الأيام مفاجأة اللقيا مع دعوة تحمل الماضي وما يعج بالصراعات السياسية: "كأنما يقرأ طالعة في اللون، وخطوط راحته المتغضنة، متسائلاً عن سر (دعوتهم) له، ليشرب فنجان قهوة فقط."

ويقدم لنا السرد حكايته مع السياسة وما آل إليه: "رأسه اشتعل شيبا، يبدو وكأن حزن العالم هجم عليه وهدَّ حيله، وزاد ظهره تقوساً."

ويحمل النص تساؤلات صامتة حول ماهية الدعوة، وما ينتظره، وكل تلك التساؤلات ترسمها اتكاءته على الكرسي، وقد استسلم لمساحات السفر البعيد معها، وفي جواره زوجة محبة تحمل لغة الاتحاد الروحي، مع حكاية القهوة والذكريات، لكنها ذكريات الحب له ومساحات تواصله حتى نهاية العمر. تبادر الزوجة لإيقاظه: "ربتُ على ظهره لأوقظه، لكنه لم يستجب، فهززته بقوة، وقد توجست، فمال رأسه، وانزلق كوب الماء الذي أحضرته له ليشربه، عندئذ صرخت وصرخت ولم أتوقف عن الصراخ."

ويتابع النص في هالة الصمت التي تدور حول أبعاد الأحداث السياسية في معترك ذكرياتها التي أودت بذلك السياسي المخضرم إلى النهاية، في الزمان والمكان والسياسة، وكأن السياسة في جوهرها أحجية صامتة تقض مضاجع ساكنيها، تدور دواليبها بين الماضي والحاضر والمستقبل، وخط الصراعات والأزمات واختلاطات الرؤى الحزبية في خارطتها المتهالكة على الدوام.

وفي النص سرية خصوصيات السياسة، التي أبت حتى الحروف أن تكشفها على السطح في بحر السطور، ورومانسية حالمة معا، في قلب الزوجة الواقفة على أبواب الموت ونهاية أبواب الحياة: "صوته على الجدار في إطار اسود، عيناه حالمتان، وعلى شفتيه طيف ابتسامة، وجهه مستدير طفولي، على جبينه غرة شائبة تبديه وسيماً وقورا."

ويسدل النص نهايته الحالمة على تراقصات فنجان القهوة ومعها هالة الذكريات: "هذا فنجان قهوته الذي أحبه، وشرب قهوته دائماً فيه، إنني أغمض عيني، أتمدد كل ليلة، سائلة الله جلت قدرته، أن يلحقني به، وأن يقبض روحي برفق."

ويغلف النص نهايته بخيط ذهبي عنوانه: "ها أنا أنتظر،" حيث تنتهي الأعمار ولا تنتهي السياسة، وتوعدنا كل يوم بمزيد من الأيدلوجيات والصراعات، وحراك استنساخي في معدل أرقام الأحزاب، وبدايات انطلاقات قطارات السفر في معتركها، ونهاية رحلة مخضرمين على مسرحها، على فراش الاعتزال أو مقصلة الإعدام أو جنبات السجون المظلمة أو ميادين الترف الفاحش وبيع المبادئ والمتاجرة بالشعوب والأوطان، أو تدوين بالماس لذكراهم في لغة الحرية والإباء.


* فنجان قهوة: قصة قصيرة منشورة ضمن مجموعة الموت غناء، للكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور. الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان (2003).

غلاف: الموت غناء

D 1 كانون الثاني (يناير) 2007     A سعاد جبر     C 0 تعليقات